خصائص النبوة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
النبوّة هبة واصطفاء، والأنبياء - وهم بشرٌ من خلق الله - كانوا بالمقاييس البشرية يأكلون ويشربون، وينامون ويستيقظون، ويمشون في الأسواق، ويمارسون في الحياة أعمالاً بشرية مشروعة لا تختلف عما يمارسه سواهم.
لكنهم بالمقاييس الخلقية والنفسية كانوا نماذج منفردة؛ فهم متطلعون إلى الحق، ساعون في الخير، منزّهون عن الهوى.
كان معدنهم النفيس يهيئهم ليكونوا حملة رسالة، وروَّاد أمم، وأجهزة إرسال واستقبال.
استقبال للمنهج الإلهي بما يحمله من كرامة للإنسان؛ بتحريره من العبودية إلا لخالقه، وتوجيه طاقاته إلى البناء لا الهدم، والتعمير لا التدمير، وتوصيل لهذا المنهج بالحكمة والموعظة الحسنة، والعزم الصادق الذي لا يضعف أمام ابتلاء، ولا يلين أمام إغراء، ولا ييئَس من عناد.
كان هَمهم أن يخرجوا الناس من ضيق الحياة إلى سَعة العقيدة، ومن أَسْر الشهوات إلى سمو الغايات، ومن جَوْر الحكام إلى تحقيق العدل والإخاء والمساواة، وسيادة الحق والخير والجمال، متجردين لهذه المهمة السامية، لا يطلبون الأجر إلا من الله، ولا يريدون إلا الإصلاح ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
لذا؛ فإن رد القرآن كان حاسمًا على من توهموا أن مقاييس الاختيار مبنية على أساس السيادة بالجاه، أو الاستعلاء بالمال، أو الاعتزاز بالعصبية القبَلية:
﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [الزخرف: 31، 32].
(والله أعلم حيث يجعل رسالته):
﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ﴾ [ص: 45 - 47].
ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، ورحمة الله المهداة للعالمين، كانت حياته خلال الأربعين سنة الأولى من حياته في الذروة العليا؛ خُلقًا وخَلقًا؛ فكل ما صح في الروايات عن أوصافه الخَلقية صلى الله عليه وسلم يدل على أنه مُنِح أجمل صفات الرجل وأكملها؛ بسط الله له في الجسم، ومنحه من القوة ما أعده به لمصارعة الحوادث، واحتمال الشدائد، والصبر على المكاره، أما كماله الخُلقي فإن أحدًا لم يستطع - برغم ضراوة الخصومة وعنف المقاومة بعد بعثته - أن يجد مطعنًا في خُلق، أو مثلبًا في سلوك؛ فهو الصادق الأمين، الجليل السبّاق إلى كل مكرمة، النائي عن كل نقيصة، المستشار عند الممات، المؤتمن على الودائع، الحَكَم عند اشتداد الخصومات، كان كما وصفته السيدة خديجة - رضي الله عنها -: "كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصِلُ الرحِم، وتحمل الكَلَّ، وتَقري الضيفَ، وتُعين على نوائب الدهر".
فهل كان يدري وهو يسعى في الأرض إنسانًا كاملاً أنه سيكلَّف بهذه الرسالة الخالدة؟ يجيب القرآن على ذلك فيقول:
﴿ وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ﴾ [القصص: 86].
لقد وصفه القرآن الكريم في أكثرَ مِن موضع بما يبرز خصائصَ النبوة فيه وأثرها في اصطفائه؛ ففي سورة التوبة:
﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].
فهو بشَري التكوين، عربي المنبت، مكِّيُّ النشأة، لكنه يحمل قلبًا كبيرًا يأسى لِما عليه قومه من ضلال في العقيدة، وجهالة في الحياة، وانحراف عن سواء السبيل، لكنه يتعدى الحزن السلبي إلى الإسهام الإيجابي في مسيرة الحياة، وتقويم اعوجاج البشر، وهدايتهم إلى الطريق المستقيم، عُدَّته في ذلك: رأفة حانية، ورحمة ظليلة، لا تشوبهما غلظة ولا فظاظة:
﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159].
ويتوِّج القرآنُ هامَةَ الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الوسام الإلهي الخالد:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].
وتبدو ملامح هذا الخُلق فيما وُصف به صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها من سمات: الجود، والإيثار، والسماحة، والقصد، والنَّجْدة، والمروءة، وغيرها من صفات الكمال.
وفي تناول آخر يبين القرآن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45، 46].
فهو شاهد بالحق، ومبشر بتقدم الوعد بالمثوبة على الوعيد بالعقوبة، وهو نذيرٌ للمعاندين المستكبرين الذين أصمُّوا آذانهم، وأغلقوا عقولهم، وأصروا واستكبروا استكبارًا.
وهو سراج منير، أضاء الوجود كله بما بدده من ظلمات، وما أزاحه من غشاوة رانت على العقول والقلوب، شهد بذلك المنصفون من غير المسلمين؛ يقول توماس كارلايل في كتابه (الأبطال): "إن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرنًا لنحو مئات الملايين من الناس أمثالنا خلقهم الله، لقد أخرج الله العرب بالإسلام من الظلمات إلى النور، وأحيا به من العرب أمة هامدة، وأرضًا جامدة، وهل كانت إلا فئة خاملة فقيرة لا يسمع لها صوت ولا تحس منها حركة؟ فأرسل الله لهم نبيًّا بكلمة منه، فإذا الخمول قد استحال حركة، والضَّعَة رفعة، والضعف قوة، والظلمة نورًا عم ضوءُه الأرجاءَ".
وتبرز الآيات من سورة الأعراف جانبًا آخرَ من خصائص دعوته صلى الله عليه وسلم:
﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157].
وبعد:
فإن إدراك بعض هذه الخصائص التي لا تحيط بكل أسرار العظمة المحمدية، والتي لا يزال الكثير منها محجوبًا - يوضح معالم الطريق للدعاة والعلماء، وهم ورثة الأنبياء؛ فقد انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ولكن رسالته باقية خالدة، يحملها إلى الناس كتاب وسنَّة، ورجال يحملون أمانة الدعوة إلى الله على هدى وبصيرة، يدعوهم شرفُ الاقتداء وجلال المهمة أن يتمثلوا هذه الخصائص معارف وسلوكًا، وأن يؤمنوا في اعتزاز بدورهم في قيادة أمتهم، وفي تحقيق ريادتها للعالم، لا بمجرد الفصاحة في القول، واستهلاك الجهد في قضايا على هامش الحياة، ولا برفض الحياة ونبذ كل صور التقدم، وتكريس الفرقة، وتحطيم الأمل، وتدعيم اليأس - ولكن بتوجيه قُوى الأمَّة إلى العلم قدرة وقيمة، وامتلاك ناصية القوة التي تحمي ولا تهدد، وترهب أعداء الله وأعداء الإنسان، ورفع الإصر والأغلال التي تكبل مسيرتها من جهل وفقر واستبداد وفُرقة
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|