دروس وعبر من سير الصحابة الكرام (10)
ما زلتُ أتحدَّث عن سيدنا وحبيبنا خليفةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأوَّل، سيدنا أبي بكر الصديق - رضي الله عنه وأرضاه - كان سيِّدَ علماء الصحابة - رضي الله عنهم - ذلك لأنه - رضي الله عنه - كان أقدمَهم إسلامًا، وأكثرهم صُحبةً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأدناهم إلى قلبه ومحبَّته، فعرَف ما لَم يَعرفه كثيرٌ عنهم، فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد في المسند - أوَّل المسند - عن قيس قال: "أيُّها الناس، إنَّكم تقرؤون هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105]، وإنَّا سَمِعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الناس إذا رأوا المنكر، فلم يُغيِّروه، أوشَك أن يعمَّهم الله بعقابه))[1].
يُريد - رضي الله عنه - أن يُصحِّح فَهْمَ بعض المسلمين للآية، وأن يُذكِّرهم بأهميَّة إنكار المنكر.
إنَّ على المسلم إذا رأى منكرًا أن يُنكره، وإنكاره على حالات:
فإن كان المنكر في بيته، فليُنكره بيده، وإن كان المنكر في بيت جاره - ولا سُلطةَ له عليه - فليُنكره بلسانه بالحِكمة والموعظة الحسنة، وإن كان يخشى على نفسه، فليُنكره بقلبه، وإن لَم يفعل، فليَحذر عقوبة الله؛ قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 25].
وحديث السفينة مشهور: عن النعمان بن بَشير - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مثلُ القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قومٍ اسْتَهموا على سفينةٍ، فأصابَ بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استَقوا من الماء، مرُّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرَقنا في نصيبنا خرقًا ولَم نُؤذِ مَن فوقنا، فإن ترَكوهم وما أرادوا، هلَكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم، نَجَوْا، ونجوا جميعًا))[2].
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((القائم على حدود الله))؛ أي: المُنكر للمعاصي التي هي حدود الله، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الواقع فيها))؛ أي: المُرتكب للمعاصي.
ومن ذلك ما ذكَرت عائشة عن بُعده من الحرام وبُعده عن السُّحت، وخوفه من العذاب؛ قالت - رضي الله عنها -: "كان لأبي بكر - رضي الله عنه - غلامٌ يَأتيه بالطعام، وكان أبو بكر لا يأكل حتى يسألَ عنه، فجاء يومًا بشيءٍ فأكَل منه أبو بكر دون أن يسألَه، فقال الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنتُ تَكهَّنتُ لإنسانٍ في الجاهليَّة وأنا لا أُحسِن الكهانة، إلاَّ أني خدَعته، فلَقِيَني فأعطاني هذا الذي أكلتَ منه، قال أبو بكر: إن كِدتَ أن تُهلكني، فأدخَل أبو بكر يده في حلْقه، فقاءَ كلَّ شيءٍ في بطنه، وبالَغ في ذلك؛ حتى بلَغ منه الجَهد، فقيل له في ذلك، فقال: والله لو لَم يخرج هذا الطعام إلاَّ برُوحي، لأخْرَجته؛ إني سَمِعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((كلُّ جسدٍ نبَت من سُحْتٍ، فالنار أَوْلَى به))[3].
فخشيت أن يَنبت من جسدي شيءٌ من هذه اللقمة[4].
لقد كان - رضوان الله عليه - يُعلِّم المسلمين بلسان الحال وبالسلوك المُلتزم بالكتاب والسُّنة، ويُعلِّم بلسانه وأقواله، ويُحذِّرهم من عذاب الله، ولا سيَّما من أكْل الحرام.
وكان - رضي الله عنه - عظيم التواضُع، فهو أفضل الخلْق بعد الأنبياء، يرى أنه ليس أفضل المسلمين كما مرَّ بنا في خطبته الرائعة يوم وَلِي الخلافة، وكان إذا مُدِح، قال:
اللهمَّ إني أعلمُ بنفسي منهم، وأنت أعلمُ مني بنفسي، فاغفِر لي ما لا يعلمون، ولا تُؤاخذني بما يقولون، واجعَلني خيرًا مما يظنون[5].
وكان يوصي وُلاته بتقوى الله، وبأن يكونوا قدوةً للناس في الصلاة والخشوع فيها، والصدق ومكارم الأخلاق، فقد كتَب - رضي الله عنه - إلى أحد وُلاته الرسالة الموجزة القيِّمة الآتية، قال:
"أمَّا بعدُ، فعليك بتقوى الله؛ فإنه - سبحانه - يرى من باطنك مثلَ الذي يرى من ظاهرك، وإن أَوْلَى الناس بالله أشدُّهم تَولِّيًا له، وأقربَ الناس من الله أشدُّهم تقرُّبًا إليه بعمله، وإذا وعَظتَ فأوْجِز، فإن كثرة الكلام يُنسي بعضه بعضًا، وأصْلِح نفسك، يُصْلحِ الله لك الناس، وصلِّ الصلاة لأوقاتها بإتمام ركوعها وسجودها، والتخشُّع فيها، وإذا استشرتَ، فاصْدُق الحديث، تَصدُق المشورة، وجالِس أهل الصدق والوفاء، واصْدُق اللقاء، ولا تَجبُن، فيَجبُن الناس"[6].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|