التواضع والعفو والتسامح في فتح مكة
التواضع:
قال ابن إسحاق: حدَّثني عبدالله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذي طوى، وقف على راحلته مُعتجِرًا بشقة برد حبرة حمراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تَواضُعًا لله حين رأى ما أكرَمَه الله به من الفتح، حتى إن عُثْنُونه ليكاد يَمَس واسطة الرَّحل[1].
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يغرَّه النصر على عِظَمه، ولم يُصِبْه ذاك الفتحُ المبين بكِبْرٍ، وحاشاه من ذلك، فلم يدخل مكة دخول الفاتحين المتغطرسين، بل كان خاشعًا لله شاكرًا لأنعمه، حتى إنه كان يضع رأسه ويُطأطئها؛ تواضعًا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن شعر لحيته ليكاد يَمَسُّ واسطة الرَّحل[2]، وكان يقرأ وهو على راحلته سورة الفتح يُرجِّع في قراءتها[3]، بل إنه لما طاف بالكعبة استلم الرُّكن بمحجنه كراهة أن يُزاحِم الطائفين[4].
ولم ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته في مكة، بل ضُربت له قُبَّة في الحجون، ولم يُكره أحدًا على الخروج من بيته أو ترك مكانه[5].
العفو والتسامح:
بعد أن تحقَّق النصرُ العظيم والفتح المبين، صلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في البيت، ثم دار وكبَّر في نواحيه، ثم خرج من البيت وقريش قد ملأت المسجد صفوفًا ينتظرون ماذا يصنَع، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدَقَ وعْده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألاَ كل مأثُرة أو مال أو دم فهو تحت قدميَّ هاتَين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوةَ الجاهلية وتعظُّمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب؛ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]))، ثم قال: ((يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟))، قالوا: خيرًا، أخ كريم، وابن اخ كريم.
قال: ((فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء))[6].
إن عفو رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أعدائه بعد أن صاروا أُسارى في يده، يظنون كلَّ الظن أنهم سيُأخَذون بذنوبهم وجرائمهم، وقد نشف الدم في عروقهم، وتيبَّست أعصابهم، واصفرَّت جلودهم من شدة ما هم فيه من الفزع والخوف أن يقضي عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يستحقونه قضاءً يقضي عليهم، أو يضرب عليهم الرق ويجعلهم عبيدًا يتقاسمهم المجاهدون، فما زال ما فعلوه بالمستضعفين شاخصًا في النفوس، وما زالت أيديهم تقطر من دماء الشهداء، وما أذاقوه للمؤمنين بمكة من ويلات وعذابات لم يُمحَ بعدُ من الذاكرة.
إن غاية ما يرجى من نفْس بشرية ظُلمت بكل هذه الألوان من الظلم، ثم انتصرت وتمكَّنت من عدوها الجبار الطاغية - أن تقتصَّ منه بغير إسراف أو تعدٍّ، ولكنها النفوس التي حلَّقت في سمو أخلاقي عجيب، إنه عفو عام بلا تثريب، فلله در هذه النفوس الربانية.
"هذا موقف من مواقف العفو الكريم، والصفح الجميل، لم يعرفه التاريخ، ولا عرف مثله في النبل والإحسان ومكارم الأخلاق، وقفه الرسول صلى الله عليه وسلم مع من أساؤوا إليه، وكذبوه وسَخِروا منه، وآذَوْه بالقول والفعل حتى أخرَجوه من بلده المحرَّم الآمن مهاجرًا في سبيل أداء رسالته ونشْر هداها، وآذوا أصحابه وأخرَجوهم من ديارهم وأموالهم وعشائرهم" [7].
وقد انضمَّ لهذا الموقف النبيل العظيم مواقفُ فردية في العفو عن بعض زعماء قريش، بل وإكرامهم؛ كالعفو عن أبي سفيان، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، رغم ما فعلوه من جرائم بشعة، ولكنه حبُّ الخير للخَلْق، وإعانتهم على الحق، والتجرد من أهواء النفوس، والتعالي عن رغبات الثأر والانتقام.
ومن مواقف العفو العجيبة: قصة حاطب بن أبي بلتعة؛ فعن عبيدالله بن أبي رافع قال: سمعت عليًّا رضي الله عنه يقول: "بعَثَني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد بن الأسود قال: ((انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة ومعها كتاب، فخذوه منها))، فانطلقنا تَعَادَى بنا خيلُنا حتى انتهَينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقُلنا: أَخرِجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجنَّ الكتاب، أو لنُلقينَّ الثياب، فأخرجتْه من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: "من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين من أهل مكة، يُخبِرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا حاطب، ما هذا؟!))، قال: يا رسول الله، لا تَعجَل عليَّ؛ إني كنت امرأً مُلصَقًا في قريش ولم أكن من أنفسها، وكان مَن معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يَحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببتُ إذ فاتني ذلك من النَّسب فيهم أن أتَّخِذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلت كفرًا ولا ارتدادًا ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد صدقكم))، قال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: ((إنه قد شَهِد بدرًا، وما يدريك لعلَّ الله أن يكون قد اطَّلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم)[8].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|