من أخلاق بدر الكبرى: احترام الآخر
إن العلاقات في الإسلام تنبني على احترامِ الآخرين، وإنزالهم منازلهم ما لم يُوقِعوا أنفسهم في مواطن الذِّلَّة، ويكتبوا على أنفسهم بأفعالهم الخزيَ والعارَ، والاحترام المتبادَل هو سمة العلاقة بين الكبير والصغير، الغني والفقير، القائد والرعيَّة، وحتى مع الخصوم والأعداء لا تخلو العلاقة من احترام.
ومن المواقف التي تدعَم هذا الخُلُق، وتُوضِّح هذا المعنى:
مشاورةُ النبيِّ لأصحابه قبل الغزوة، وهو أكمل الناس رأيًا، وأتمهم عقلاً وحكمة، "فكثيرًا ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابَه فيما لا وحي فيه من الكتاب والسُّنة؛ تعويدًا لهم على التفكير بالمشاكل العامَّة، وحِرْصًا على تربيتهم على الشعور بالمسؤولية، ورغبة في تطبيق الأمر الإلهي بالشورى، وتعويد الأُمَّة على ممارستها"[1].
وإشعارًا لهم بأهميَّة رأيهم، واحترامه لهم، ومواقف الشورى في هذه الغزوة مُتعدِّدة، مرَّ معنا بعضها، وإليكم موقفًا آخر يَعكِس ذاك الاحترام المتبادَل بين القائد وجنده:
حين نزل النبي صلى الله عليه وسلم ببدر، قال الحُباب بن المُنذِر: يا رسول الله، أهذا رأيٌ رأيتَه، أم وحي؟ فقال: ((بل رأي رأيتُه))، قال: فإني أرى أن تنزل على ماء، وتجعله خلف ظَهْرك وتغور المياه كلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد أشرتَ بالرأي))، ونفَّذ ما أشار به الحباب[2].
"وقد دلَّل النبي بهذا على تأصُّل رُوح الشورى في نفسه الشريفة فيما لم ينزل فيه وحي، وأنه على جلالة قَدْره، ووفور عقله، وبُعْد نَظره: لا يَستبِد برأيه، ولا يأنف من الرجوع إلى الحق"[3].
وإن المتأمِّل في أسلوب طَرْح الحباب لرأيه وطريقته في إبداء المشورة، ليَلحَظ بسهولة ما احتوشه من معاني الاحترام والتقدير.
وعندما انتصر المسلمون، وارتحل الرسولُ صلى الله عليه وسلم حتى كان بالروحاء، لقيه المسلمون يُهنِّئونه بما فتح الله عليه ومن معه من المسلمين.
فقال لهم سلمة بن سلامة: "ما الذي تُهنِّئوننا به؟ فوالله إن لَقينا إلا عجائزَ صُلعًا كالبُدْن المعلَّقة فنحرناها.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أي ابن أخي، أولئك الملأ))، قال ابن هشام: الملأ: الأشراف والرؤساء[4].
ولما بعث أهلُ مكة في فداء أسراهم، بعثتْ زينبُ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء زوجها أبي العاص بن الربيع بمال، وبعثت فيه بقلادة لها، كانت خديجة رضي الله عنها أدخلتها بها على أبي العاص حين بنَى بها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقَّ لها رقةً شديدة، وتحرَّكت فيه مشاعرُ الأبوة الصادقة، والوفاء والحنين لزوجه الأولى خديجة، ورغم أنه القائد الأمير، والنبي المطاع، إلا أنه لم يُعطِ لابنته وأسيرِها وضعًا متميزًا، وكان بإمكانه أن يحكم باستثنائها، ولكنه احترم صحابتَه وأقام العدلَ، وترك لهم حريةَ الرأي واتخاذ القرار قائلاً: ((إن رأيتم أن تُطلِقوا لها أسيرَها، وتَردُّوا عليها مالَها، فافعلوا))، فقالوا: نعم يا رسول الله، فأطلَقوه، وردُّوا عليها الذي لها[5].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|