شرح حديث الصعب: " أهديت رسول الله حمارا وحشيا"
عن الصعب بن جثَّامة رضي الله عنه قال: أهديتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيًّا، فردَّه عليَّ، فلما رأى ما في وجهي قال: ((إنَّا لم نرُدَّه عليك إلا أنَّا حُرُمٌ))؛ متفق عليه.
قَالَ سَماحةُ العلَّامةِ الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -:
ومن حُسنِ خلُقِه صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يداهن الناسَ في دين الله، ولا يفُوته أن يطيِّب قلوبهم، فالصعب بن جثامة رضي الله عنه مرَّ به النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم مُحْرِمٌ، وكان الصعب بن جثامة عدَّاءً راميًا، عداء: يعني سبوقًا، راميًا: يعني يجيد الرمي.
فلما نزل به النبي صلى الله عليه وسلم ضيفًا، رأى أنه لا أحد أكرمُ ضيفًا منه، فذهب يصيد للرسول صلى الله عليه وسلم صيدًا، فصاد له حمارًا وحشيًّا، وكان في الجزيرة العربية في ذلك الوقت كثيرٌ من الصيد، لكنها قلَّت، صاد له حمارًا وحشيًّا وجاء به إليه، فردَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فصعُب ذلك على الصَّعْبِ؛ كيف يرُدُّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم هديته؟ فتغيَّر وجُهه، فلما رأى ما في وجهه طيَّب قلبه وقال: ((إنا لم نرُدَّه عليك إلا أنَّا حُرُمٌ)) يعنى مُحْرِمون، والمُحْرِمُ لا يأكل من الصيد الذي صِيدَ من أجله.
فلو أن مُحْرمًا مرَّ بك وأنت في بلدك وهو محرم، وصِدتَ له صيدًا، أو ذبحتَ له صيدًا عندك، فإنه لا يحلُّ له أن يأكل منه؛ وذلك لأنه ممنوعٌ من أكل ما صِيدَ من أجله، أما إذا لم تَصِدْه من أجله، فالصحيح أنه حلال له إذا لم تَصِدْه لأجله.
ولهذا أكل النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الصيد الذي صاده أبو قتادة رضي الله عنه؛ لأن أبا قتادة لم يَصِدْه من أجل الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا أحسن ما قيل في هذه المسألة، إنه إذا صِيدَ الصيدُ من أجل المُحْرم كان حرامًا عليه، وإن صاده الإنسان لنفسه وأطعَمَ منه المُحْرم فلا بأس.
قال بعض العلماء: إن المحرم لا يأكل من الصيد مطلقًا؛ صِيدَ من أجله أم لم يُصَدْ، قالوا لأن حديث الصعب بن جثامة متأخِّر عن حديث أبي قتادة، فإن حديث أبي قتادة كان في غزوة الحُدَيبية في السنة السادسة، وحديث الصعب بن جثامة في حَجَّةِ الوداع في السنة العاشرة، ويؤخذ بالآخر فالآخر.
ولكن القاعدة الأصوليَّة الحديثيَّة تأبى هذا القول؛ لأنه لا يصار إلى النَّسخ إلا إذا تعذَّر الجَمْع، فإذا أمكن الجمعُ فلا نسخَ، والجمع هنا ممكن، وهو أن يقال: إنْ صِيدَ لأجل المُحْرم فحرامٌ، وإنْ صاده الإنسانُ لنفسه وأطعَمَ منه المُحْرمَ فلا بأس.
ويؤيد هذا حديثُ جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صيدُ البرِّ حلالٌ ما لم تصيدوه أو يُصَدْ لكم))، وهذا تفصيل واضح: (ما لم تصيدوه أو يُصَدْ لكم).
والحاصل أن هذا الحديث - حديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه - فيه فائدتان عظيمتان:
الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُداهِنُ أحدًا في دين الله، وإلا قَبِلَ الهدية من الصعب، وسكَت إرضاءً له ومداهنة له، لكنه عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يفعل هذا.
الثانية: أنه ينبغي للإنسان أن يجبُرَ خاطر أخيه إذا فعل معه ما لا يحب، ويبيِّن له السبب؛ لأجل أن تَطِيبَ نفسُه، ويطمئنَّ قلبه، فإن هذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ والله الموفق.
المصدر: «شرح رياض الصالحين» (3/ 561 - 563)
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|