عطاء الله ابتلاء وحرمانه دواء :
أيها الأخوة الكرام : يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز : ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾
[ سورة الإسراء : 82 ]
وفي آية أخرى وصف الله كتابه الكريم بأنه شفاء لما في الصدور .
﴿وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾
[ سورة يونس : 57 ]
معنى هاتين الآيتين أن الإنسان في الحياة الدنيا قد يقف أمام ظاهرة محيرة ، مثلاً : لو أن شخصاً ذهب إلى بلاد الغرب ، لرأى بلاداً جميلة ، وأمطاراً غزيرة ، وأبنية شاهقة ، وحدائق غناء ، ودخلاً مرتفعاً ، ورأى كل وسائل الرفاء متوافراً لدى أي إنسان ، ورأى مع ذلك انحرافاً خطيراً ، زنى ، شذوذ ، مخدرات ، تبادل زوجات ، زنى محارم ، وهم أقوى ، وهم الأقوياء ، والأغنياء ، والمسيطرون على العالم كله ، ينشأ عنده سؤال : يا رب ما بال هؤلاء يزدادون قوة وسيطرة واستبداداً للشعوب وهم في أحط دركات الفسق والفجور ؟ أين الله ؟ إذا نشأ هذا التساؤل فهذه مشكلة ، قد يختل لها توازن المؤمن ، كيف أن القرآن الكريم شفاء لما في الصدور ، دققوا في هذه الآية الكريمة في سورة الأنعام في الآية الثانية والأربعين قال تعالى :
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
[ سورة الأنعام: 42-45 ]
فلما نسوا ما ذكروا به ، وذكرناهم ، وذكرناهم تارة بالبأساء ، وتارة بالضراء ، وتارة بالخوف ، فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ، ليس باباً واحداً ، ولكن أبواباً ، وليس شيئاً واحداً ، ولكن أبواب كل شيء ، هل من آية أكثر شمولاً واتساعاً من هاتين الكلمتين ؟ أي الغنى مع البلاد الخضراء ، مع الأمطار الغزيرة ، مع الدخل المرتفع ،
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾
هذا كلام رب العالمين :
﴿ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
المؤمن أحياناً يختل توازنه حينما يرى كافراً فاجراً فاسقاً منحلاً قوياً مسيطراً ، ربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾
[ سورة آل عمران : 196-197]
في آية أخرى يقول الله عز وجل :
﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾
[ سورة الفجر : 15]
هذه مقولته :
﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾
[ سورة الفجر : 16]
يقول الله عز وجل ،
﴿كَلَّا﴾
كلا أداة نفي وردع ، أي هذا ليس صحيحاً ، هذه مقولتكم ، هذا وهمكم ، هذا ظنكم ، ليس عطائي إكراماً ولا منعي حرماناً ، عطائي ابتلاء وحرماني دواء ، فإذا أعطى الله عبداً مالاً ، أو جاهاً ، أو قوة ، أو ذكاء ، أو وسامة ، هذه لا قيمة لها ، هذا العطاء موقوف على نوع استعماله ، فإذا أنفق ماله في طاعة الله ، انقلب المال إلى نعمة ، وإذا أنفق قوته في نصرة المظلوم ، انقلبت القوة إلى نعمة ، وإذا أنفق ذكاءه في الدعوة إلى الله ، انقلب ذكاءه إلى نعمة ، أما إذا أنفق ماله فيما لا يرضي الله صار المال نقمة ليس نعمة ، إذا أنفق جاهه فيما يغضب الله صار الجاه نقمة لا نعمة ، إذا أعمل فكره اللماح فيما لا يرضي الله صار هذا الذكاء وبالاً على صاحبه . فالنعمة الحقيقة هي النعمة التي تنفق فيما ترضي الله :
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾
[ سورة الأنعام : 44]
﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾
[ سورة آل عمران : 196-198]
بطولة الإنسان أن يكون على منهج الله :
قارون حينما خرج على قومه في زينته :
﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾
[ سورة القصص : 79-80]
فأنت أمام مظاهر البذخ والغنى والقوة والسيطرة ، أنت كمؤمن ممتحن قد يختل التوازن إذا رأيت أن هذا يزداد قوة ، ومناعة ، وسيطرة ، وهو في أحط الأحوال في الوحول ، فلئلا يختل توازنك تأتي هذه الآيات لتطمئنك . البطولة أن تكون على منهج الله ، كفاك على عدوك نصراً أنه في معصية الله ،
﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ﴾
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾
[ سورة ابراهيم: 42]
فالإنسان كلما رأى مظاهر القوة ، مظاهر الغنى ، يتمتع بها إنسان ، بعيد عن الدين، غارق بالمعاصي والشهوات ، لا ينبغي أن يختل التوازن ، يقول : ما بال هؤلاء المؤمنين فقراء مستضعفين ؟
الغنى والفقر بعد العرض على الله ، والإنسان كلما كان إيمانه قوياً يزداد ثقة بوعد الله .
﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾
[ سورة القصص : 61]
أقوى الناس من رضي الله عنه :
هذه الآيات أسوقها لكم كي يزداد المؤمن ثقة بربه ، لأن الله سبحانه وتعالى إذا رضي عنك فأنت أقوى الناس ، وأنت أغنى الناس ، وأنت أسعد الناس ، أنت المتفوق ، وأنت الفائز ، وأنت الرابح ، وأنت الناجح ، وأنت الفالح ، وأنت الذكي ، وأنت العاقل : ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾
[ سورة الأحزاب : 71]
أي المؤمن عندما يكون على منهج الله تماماً ، ويرى أحداً فاقه في الدنيا إذا شعر بالحرمان فو الله الذي لا إله إلا هو هذا ضعف كبير في إيمانه ، من أوتي القرآن فرأى أن أحداً أوتي خيراً منه فقد حقر ما عظمه الله ، أتاك الله القرآن ، أتاك الله الحكمة ، جعلك على صراط مستقيم ، جعلك في خدمة الخلق ، ألا يكفي الإنسان أن يقيم نفسه وفق هذه القاعدة ؟ إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما استعملك .
من استهلك حظه في الدنيا وفق ما يرضي الله فقد فاز بعطاء الله :
ما دورك في الحياة ؟ هناك أعمال مربحة جداً ، قائمة على أخذ ما في أيدي الناس، أو على إيذاء الناس ، أو على تخويف الناس ، هذه الأعمال لو درت عليك ألوف الملايين ، لا تعبأ بها ، اجعلها تحت قدمك ، ابحث عن رزق حلال ، ابحث عن رزق يرضي الله عز وجل ، ابحث عن خدمة للخلق ، لأن هذه الدنيا زائلة ، فهذا شيء أساسي في الدين ، إذا رأيت إنساناً قوياً ، مسيطراً ، يزداد قوة ومناعة ، وهو في أحط الدركات ، في الوحول ، في المعاصي ، في الآثام ، في الكفر ، في الفسق ، في الفجور ، لا ينبغي أن تقول : هذا الله أعطاه ، الله ما أعطاه شيئاً ، هذا ليس عطاء ، إذا أعطاك الله حظاً من حظوظ الدنيا فاستهلكته فيما يرضي الله هذا هو العطاء .
لا حسد إلا في اثنتين ، رجل أتاه الله علماً فهو يعلمه للناس ، ورجل أتاه الله مالاً فهو ينفقه في طاعة الله ، هؤلاء الشخصان لك أن تغبطهما ، أما أن تغبط غنياً على غناه ، سوف تسأل عن كل درهم كيف اكتسبته وكيف أنفقته .
يحشر الأغنياء أربع فرق يوم القيامة
فريق جمع المال من حرام وأنفقه في حرام ، هذا حسابه سريع جداً ، يقال : خذوه إلى النار .
فريق جمع المال من حرام - عنده ملهى - أنفقه في حلال ، اشترى بيتاً وتزوج ، يقال : خذوه إلى النار ، لأن فيه فقرة حرام
فريق جمع المال من حلال - تجارة مشروعة - وأنفقه في حرام ، على النوادي الليلية ، فيقال : خذوه إلى النار.
جمعه من حرام وأنفقه في حلال إلى النار .
وفريق جمع المال من حلال وأنفقه في حلال ، قال : هذا حاسبوه ، هذا قفوة فاسألوه ، هل تاه بماله على عباد الله ؟ هل نسيَ فرضاً أو واجباً ؟ هل قال جيرانه : يا رب لقد أغنيته بين أظهرنا فقصر في حقنا ؟ يقول عليه الصلاة والسلام :
((فما زال يسأل ويسأل - تركهم يسألونه ، وأمامه حساب طويل- حتى ما من ميت إلا وروحه ترفرف فوق النعش تقول : يا أهلي يا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي ، جمعت المال مما حلّ وحرم فأنفقته في حله وفي غير حله ، فالهناء لكم والتبعية علي))
من كانت مقاييسه وفق طاعة الله فقد فاز وربح :
أيها الأخوة الكرام ؛ العبرة أن تكون في طاعة الله :
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
[ سورة الحجرات : 13]
العبرة أن تكون على منهج الله ، العبرة أن تكون فيما يرضي الله .
الإمام الجنيد سئل: من هو الولي ؟!
أهو الذي يطير في الهواء ؟ قال : لا ، قالوا : أهو الذي يمشي على سطح الماء ؟ قال : لا ، قال : الولي كل الولي الذي تجده عند الحلال والحرام ، البطولة أن يجدك الله حيث أمرك ، وأن يفتقدك حيث نهاك ، هذا الولي . فالإنسان أحياناً يتألم لخلل مقاييسه، إذا مقاييسه فيها خلل يتألم ، أما إذا كانت مقاييسه وفق طاعة الله عز وجل ، وأن الآخرة هي الدار الحقيقية ، وأن الجنة هي المغنم الكبير ، وأن الله سبحانه وتعالى سميع بصير ، وعليم بأحوال عبده ، يقول الله عز وجل :
﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾
راتب النابلسي
موسوعة النابلسي للعلوم الاسلامية