أحداث ما بعد الفتح (3)
9- بعث البعوث لهدم الأوثان الموجودة خارج مكة:
لما تمَّ للرسول صلى الله عليه وسلم تطهير البيت الحرام من الأصنام، بعث عدة سرايا لهدم ما تبقى من الأصنام الموجودة خارج مكة، وقد ذكر الله تعالى أسماء بعض هذه الأصنام في قوله: ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ﴾ [1]، وتوالت أحداث هدمها كما يأتي:
أ- هدم العُزى[2]:
بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه في ثلاثين فارسا لخمس ليال بقين من رمضان، لهدم العزى، وكانت بنخلة[3]، - وكانت قريش وجميع بني كنانة يعظمونها، وكانت من أعظم أصنامهم بزعمهم الفاسد - فانتهوا إليها فهدمها، ثم رجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبره فقال: ((هل رأيت شيئا؟)). قال: لا، قال: ((فإنك لم تهدمها فارجع إليها فاهدمها)).
فرجع خالد فجرد سيفه، فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ناشرة الرأس[4]، فجعل السادن يصيح بها، فضربها فجزلها باثنين.
ورجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال(نعم تلك العزى وقد يئست أن تعبد ببلادكم أبدا))[5].
ب- هدم سُواع[6]:
ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه في شهر رمضان، إلى سُواع وهو صنم هُذَيل ليهدمه، فانتهى إليه وعنده السادن فقال: ما تريد؟ قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهدمه. قال: لا تقدر على ذلك. قال: ولم؟ قال: تمنع. قال: حتى الآن أنت في الباطل، ويحك هل يسمع أو يبصر؟ ثم دنا منه فكسره، وهدم بيت خزانته فلم يجد شيئا، ثم قال للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله[7].
ج- هدم مناة[8]:
وبعث صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة سعد بن زيد الأشهلي[9] رضي الله عنه إلى مناة لهدمها، لستٍّ بقين من رمضان، وكانت بالمشلَّل[10]، فلما انتهى إليها قال له السادن: ما تريد؟ قال: هدم مناة. قال: أنت وذاك، فأقبل إليها، فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل والثبور، وتضرب صدرها، فقال السادن: مناة دونك بعض عصاتك، فضربها سعد وقتلها، وهدم الصنم ولم يجد في خزانته شيئا ورجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم [11].
10- مبعث خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى بني جذيمة:
بعد زوال العقبة الكؤود من طريق دعوة الإسلام (أهل مكة)، عمل الرسول صلى الله عليه وسلم على نشر دين الإسلام في المناطق المجاورة لمكة، وكان ممن بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه، وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعيًا للإسلام، ولم يبعثه مقاتلا[12]، فوصل إلى ديار بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، بل قالوا: صبأنا، صبأنا، فأخذ خالد فيهم قتلاً وأسرًا.
وأنكر عليه بعض أصحابه ذلك، ثم أخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم، فغضب وتبرأ مما فعله خالد، والظن بمثل خالد رضي الله عنه أنه إنما أراد نصرة الإسلام، وأنه اجتهد في أمر وتأول فأخطأ، وفهم من كلامهم أنهم يتبرؤون من الإسلام، ولعل هذا هو السبب في أن النبي صلى الله عليه وسلم عذره ولم يعزله - وإن تبرأ من فعله[13].
وأكتفي بإيراد أصح الروايات في هذه القصة وهي ما رواه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا. فجعل خالد يقتل منهم ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره، حتى إذا كان يوم، أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرناه له، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يده فقال: ((اللهم، إني أبرأ إليك مما صنع خالد)) مرتين)[14].
ونادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم بمكة: من كان يؤمن بالله ورسوله فلا يدعنَّ في بيته صنما إلا كسره، فأخذ المسلمون يكسرون تلك الأصنام.
وجعلت هند بنت عتبة رضي الله عنها تضرب صنما لها في بيتها بالقدوم فلذة فلذة، وهي تقول: كنا منك في غرور[15].
ثم أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوما، نظم فيها أمورها، ووطد لدين الإسلام فيها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوما يصلي ركعتين) [16].
ثم خلف فيها عتاب بن أسيد رضي الله عنه أميرا عليها[17]، ومضى يريد لقاء هوازن[18].
وهكذا كانت عودة النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة مظفرا منتصرا، بعد أن أخرج منها خائفا مترقباً، فتحا عظيما ونصرا مبينا من الله، وقد دانت قريش واستسلم الطغاة، ودخلت مكة في حوزة الإسلام، وطُهرت من الرجس والأوثان، وخضع أهلها لحكم الإسلام وسلطانه بعد عداوة مديدة، وقد كان لذلك أعظم الآثار وأكثرها بركة على الإسلام والمسلمين، كما سيتضح من المبحث التالي.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|