أحداث ما بعد الفتح (1)
ثانيًا: مرحلة ما بعد الفتح:
1- صفة دخوله صلى الله عليه وسلم مكة:
كان فتح مكة في العشرين من رمضان[1]، الموافق العاشر من شهر يناير عام 630م[2]، وفي هذا اليوم الذي أعز الله فيه الإسلام والمسلمين، ونصر جنده المؤمنين، دخل صلى الله عليه وسلم خاشعا لله شاكرا لأنعمه، ولم يدخلها دخول الجبابرة العتاة الظالمين، بل كان صلى الله عليه وسلم خافضا رأسه إجلالا لله تعالى وشكرا له حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن لحيته لتكاد تمس راحلته من شدة تواضعه[3]، وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الفتح وهو على ناقته، ويرجِّع في قراءتها[4].
وقد لبس المِغْفَر على رأسه [5]، وفي رواية: إنه (صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء)[6].
2-تطهير البيت الحرام من الأوثان:
دعا النبي صلى الله عليه وسلم - قبل عشرين سنة تقريبا قبل الفتح - إلى نبذ الأوثان وإخلاص العبادة لله وحده، ويوم الفتح قام بما أراد القيام به في ذلك الوقت، فقد أمر بتحطيم الأصنام الموجودة حول الكعبة، وشارك بيده عليه الصلاة والسلام في إزالتها، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه قال: ( دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نُصُبًا، فجعل يطعنها بعود كان بيده، ويقول: ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ [7] وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [8] [9].
ثم أراد دخول الكعبة، لكنه (أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت، فأخرج صورة إبراهيم وإسماعيل-عليهما السلام- في أيديهما من الأزلام[10]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قط)). ثم دخل البيت فكبر في نواحي البيت)[11].
وطاف النبي صلى الله عليه وسلم سبعًا وهو على راحلته، وكان يستلم الركن بمحجن في يده[12]، تعليما لأمته وتيسيرا عليهم.
3-العفو عن قريش:
أصاب القرشيين رهبةٌ شديدة وخوف عظيم مما سيؤول إليه أمرهم بعد أن نصر الله نبيه نصرا مؤزرا، وتذكروا ما مضى منهم من الأذى له وللمسلمين، وإخراجه وأصحابه من مكة، واضطرارهم إلى مفارقة أهليهم وأوطانهم، وتوجسوا خيفة أن يجرد عليهم سيف الانتقام فيقتلهم وقد تملك رقابهم، وطمعوا بعفوه وصفحه عنهم، وقد عهدوه دوما عفوا حليما.
وكان الصحابة رضي الله عنهم قد عزموا على الثأر لقتلاهم في أحد، -لماَّ قُتل من الأنصار أربعة وستون رجلا، ومن المهاجرين ستة رجال، ومُثِّل بهم، وفيهم حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه، فقال الأنصار: لئن أصبناهم يوما مثل هذا لنُرْبِينَّ[13] عليهم، فلما كان يوم الفتح أنزل الله عز وجل: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [14]، فقال رجل: لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كفوا عن القوم غير أربعة))[15]، وفي رواية قال: ((نصبر ولا نعاقب)) [16].
وأعلن النبي صلى الله عليه وسلم عفوه عن أهل مكة، والملأ ملتفون حوله-رغم قدرته على إبادتهم، ورغم ما ألحقوه بالمسلمين من الأذى والاضطهاد - عند الكعبة، فقال لهم: ((يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟)) قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)). فأعتق رقابهم بعد أن أمكنه الله منها، فبذلك يسمى أهل مكة الطلقاء[17]، ودانت قريش واستسلم الطغاة ودخلت مكة في حوزة الإسلام وخضع أهلها لحكمه وسلطانه.
4- الذين أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمهم يوم الفتح:
أصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا إلى قواد جيش المسلمين، ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم، وأعطى الأمان لسائر أهل مكة، واستثنى منهم نفرا اشتد أذاهم على المسلمين، وأمر بقتلهم ولو وُجدوا تحت أستار الكعبة.
وقد اختلفت الروايات في تعيينهم[18]، وجمع الحافظ ابن حجر أسماءهم من مفرقات الأخبار وهم كالتالي:
عبد العزى بن خَطَل [19]، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح[20]، وعِكرمة بن أبي جهل، والحويرث بن نُقيذ[21]، ومُقيس بن صَبابة[22]، وهبَّار بن الأسود[23]، وقينتان كانتا لابن خَطَل، وسارة مولاة بني المطلب[24]، والحارث بن طُلاطل الخزاعي[25]، وكعب بن زهير[26]، ووحشي بن حرب[27]، وهند بنت عتبة[28]، وأَرْنب مولاة ابن خطل، وأم سعد، ويحتمل أن تكون أرنب وأم سعد هما القينتان[29]، اختلف في اسمهما باعتبار الكنية واللقب[30].
أما ابن خَطَل فقد قُتل وجاء خبر قتله في صحيح البخاري: (جاء رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: ((اقتله))[31].
وأما عبدالله بن أبي سرح رضي الله عنه فقد كان مسلما، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فارتد مشركًا، ففرَّ يوم الفتح إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه -وكان أخاه من الرضاعة-، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمأن أهل مكة، فاستأمن له، فصمت النبي صلى الله عليه وسلم طويلا ليقوم إليه أحد المسلمين فيقتله، فلم يقم أحد، فأمَّنه ثم أسلم[32].
وأما عِكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه فهرب إلى اليمن، وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث رضي الله عنها[33]، فاستأمنت له رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجت في طلبه حتى أتت به الرسول فأسلم[34].
أما الحُويرث بن نُقَيذ فقد كان ممن يؤذيه بمكة، وآذى ابنتيه فاطمة وأم كلثوم[35] رضي الله عنهما وهما مهاجرتان إلى المدينة، وقد قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه[36].
وأما مِقْيَس بن صُبَابة فقد أمر بقتله؛ لقتل الأنصاري الذي كان قتل أخاه خطأ ثم ارتداده مشركا إلى قريش، وقد قُتل[37].
وأما هبَّار بن الأسود رضي الله عنه فكان شديد الأذى للمسلمين، وعرض لزينب رضي الله عنها[38] بنت الرسول صلى الله عليه وسلم وهي مهاجرة، فنخس بها، فسقطت وأسقطت حملها، وقد عفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم[39].
وأما الحارث بن طُلاطل فقد قتل[40].
وأما قينتا ابن خطل فقد كانتا تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقتلت إحداهما وهربت الأخرى حتى استؤمن لها فأمنّها الرسول صلى الله عليه وسلم[41].
وأما سارة رضي الله عنها فكانت ممن يؤذيه بمكة، وقد استؤمن لها فأمنها النبي صلى الله عليه وسلم[42].
وأما كعب بن زهير رضي الله عنه فقد كان شاعرا مشهورا، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، ويشبب بنساء المسلمين، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه فهرب، ثم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد انصرافه من الطائف مستأمنا، فعفا عنه فأسلم[43].
وأما وحشي بن حرب رضي الله عنه، فقد هرب ثم وفد مع أهل الطائف وأسلم.
أما هند بنت عتبة فقد كانت تؤلب على المسلمين، وقد مثَّلت بحمزة رضي الله عنه يوم أحد، وأكلت من كبده[44]، وقد أسلمت وبايعت رضي الله عنها.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أباح لخزاعة أن يثأروا لقتلاهم الذين غُدر بهم في الوتير، ثم أمرهم بالكفّ عن القتل ورفع السيف، ثم لقي رهط منهم رجلًا من هذيل قد وترهم في الجاهلية فقتلوه، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم خطب في الناس وبين حرمة مكة، وودى القتيل[45].
كما أظهر عليه الصلاة والسلام للناس علمًا من أعلام النبوة فقال: ((لا يُقتل قرشي صبرًا[46] بعد هذا اليوم، إلى يوم القيامة))[47].
كما بين حرمة مكة وأنها تبقى دار إسلام أبد الدهر، فقال: (( لا تغزى هذه بعد اليوم إلى يوم القيامة))[48].
5- تسليم مفتاح الكعبة:
بعد أن تم تطهير البيت العتيق من الأوثان، أراد النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة داخل الكعبة، فأمر عثمان بن طلحة رضي الله عنه أن يأتي بمفتاح البيت، (فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أسامة بن زيد[49] وبلال وعثمان بن طلحة، فمكث به نهارا طويلا ثم خرج، فاستبق الناس فكان عبدالله بن عمر[50] أول من دخل، فوجد بلالا وراء الباب قائما، فسأله أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار له إلى المكان الذي صلى فيه)[51].
ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب في جموع الناس، ثم قام إليه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك.
فقال صلى الله عليه وسلم: ((أين عثمان بن طلحة؟))فدُعي له فقال: ((هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم برِّ ووفاء))[52]، وأبقاه على سدانة البيت رغم الذي كان بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه، وقال له: ((خذوها يا بني أبي طلحة، خذوا ما أعطاكم الله ورسوله تالدة خالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم))[53].
6- مبايعة أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم:
بادر أهل مكة رجالًا ونساءً يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام والسمع والطاعة لله ولرسوله، وانقادت أعنَّتهم للحق بعد أن حاربوه طويلًا، وكانوا مثلًا للبغي والظلم، وعلموا أن الإسلام هو الدين الحق الذي يجب اعتناقه، والانضواء تحت لوائه، وها هو ذا (النبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس يوم الفتح.. وجلس عند قرن مسفلة[54] فبايع الناس على الإسلام والشهادة)[55]- أي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله -، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أسفل منه يأخذ على الناس فبايعوه على السمع والطاعة ما استطاعوا.
ولما فرغ منهم بايع النساء، واجتمع إليه نساء من نساء قريش فيهن هند بنت عتبة رضي الله عنها، وهي متنقبة متنكرة لما كان من صنيعها بحمزة رضي الله عنه -وقد عفا عنها الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد- فبايعهن على ألا يشركن بالله شيئا، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن، وألا يعصين الرسول صلى الله عليه وسلم في معروف، فبايعهن الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك واستغفر الله لهن[56].
وأراد بعض أهل مكة أن يبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة، فلم يبايعه عليها، وأخبر بانقطاعها، يقول مجاشع السُلمي رضي الله عنه [57]: ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بأخي[58] بعد الفتح، فقلت: يا رسول الله، جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة، قال: ((ذهب أهل الهجرة بما فيها)). فقلت: على أي شيء تبايعه؟ قال: (( أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد))[59].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|