قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 5].
الإشارة إلى المتقين المتصفين بالصفات المذكورة، وأشار إليهم بإشارة البعيد ﴿ أُولَئِكَ ﴾ في الموضعين؛ تعظيمًا لشأنهم، وبيانًا لرفعة مرتبتهم، وعلوِّ منزلتهم.
﴿ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ﴾؛ أي: على هداية من ربِّهم؛ هداية علم وبيان بكتابه الذي هو هدى للمتقين، وهداية توفيق، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الحج: 54]؛ أي: دالُّهم ومرشدُهم ومنوِّر قلوبهم بالإيمان والعلم النافع، وموفِّقهم للعمل الصالح، كما قال تعالى: ﴿ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النور: 35]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور: 40].
وجاء في التعبير بـ((على)) الدالة على الاستعلاء؛ لأن صاحب الهدى مستعلٍ بالهدى مرتفعٌ به، ونكَّر ((هدى)) للتعظيم؛ أي: هدى عظيم، وفي قوله: ﴿ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ تعظيم أيضًا للهدى الذي منَحَهم الله إياه، وامتنان عليهم به؛ لأنه من ربِّهم، خالقهم ومالكهم ومربِّيهم بربوبيته الخاصة بأوليائه، فأَعظِمْ به من هدى، وأَكرِمْ بها من مِنَّة!
﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾: الفلاح: الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب.
أي: أولئك هم الفائزون بالسعادة في الدنيا والآخرة؛ الفائزون بالجنة، الناجون من النار، وقد أكَّد هذا الوعدَ لهم، وحصَرَه فيهم بكون الجملة اسمية، معرَّفة الطرفين، وبضمير الفصل ((هم)).
الفوائد والأحكام:
1- إثبات إعجاز القرآن الكريم وعظمته، والتحدي بفصاحته وبلاغته وإعجازه؛ لقوله تعالى: ﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ﴾ [البقرة: 1، 2].
2- أن القرآن العظيم مكتوب في اللوح المحفوظ، وبالصحف التي بأيدي الملائكة، وبالمصاحف؛ لقوله تعالى: ﴿ الْكِتَابُ ﴾.
3- أن القرآن العظيم أعظمُ الكتب، وأعظم كتب الله تعالى، وإذا أُطلق بالتعريف ﴿ الْكِتَابُ ﴾ فالمراد بذلك القرآن الكريم؛ لقوله تعالى: ﴿ الْكِتَابُ ﴾، ولا يقدح في هذا إطلاق ﴿ الكِتَاب ﴾ على التوراة؛ لأنها كانت أعظم كتب الله تعالى المنزَّلة قبل القرآن الكريم، فلما نزل القرآن الكريم صار هو المهيمن على جميع الكتب السماوية، والحاكم عليها، وأعظمها وأفضلها، كما قال تعالى في سورة المائدة بعدما امتدح التوراة والإنجيل: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48].
4- أن القرآن الكريم حقٌّ وصدق لا شك فيه؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾ [البقرة: 2].
وبهذا يُرَدُّ على القول بتعدُّد نزول بعض السور وتكرُّره، بناءً على آثار رويتْ في ذلك صحَّتْ أو لم تصحَّ.
كما يُرد بهذا على قول من قال: إن ترتيب السور كان اجتهادًا من الصحابة رضي الله عنهم.
كما يُرد بهذا قول من قال: إن البسملة لم تكتب في مطلع سورة براءة؛ لاختلاف الصحابة: هل هي والأنفال سورة واحدة أو سورتان؟
وهذا باطل؛ فالصحيح أنها لم تكتب في مطلع براءة؛ لأنها لم تنزل مع هذه السورة، ولو نزَلتْ لَحُفظت، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].
كما يُرد بهذا قول من قال: إن للقرآن الكريم تَنزُّلَين: الأول: من السماء السابعة إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ومن ثم نزل مفرَّقًا بعد ذلك.
والصحيح: أن القرآن نزل مرة واحدة؛ نزل من السماء السابعة من عند الله تعالى بواسطة جبريل مباشرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أول نزوله في رمضان، ثم تتابَعَ نزوله بعد ذلك مفرَّقًا.
5- أن القرآن هدى وبيان وإرشاد للمتقين؛ لقوله تعالى: ﴿ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2].
6- فضل التقوى والترغيب فيها، وعظم مكانة المتقين؛ لأن الله خصَّهم بهداية القرآن الكريم الخاصة، وإلا فهو من حيث العموم هدى لجميع الناس.
7- الثناء على المتقين بذكر صفاتهم والتنويه والترغيب فيها؛ من الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق مما رزَقَهم الله، والإيمان بالقرآن والكتب المنزلة قبله، والإيقان بالآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ [البقرة: 3، 4].
8- عظم مكانة الإيمان بالغيب من الإيمان؛ فهو أصل الإيمان، ومن أعظم واجباته وأركانه، فالإيمان بالله وملائكته واليوم الآخر كلُّ ذلك من الإيمان بالغيب؛ لهذا جُعل من أخصِّ وأول صفات المتقين الإيمانُ بالغيب، وفي هذا ردٌّ على المعتزلة ومن سار على منهجهم من العقلانيين الذي لا يوقنون إلا بالمُشاهَد المحسوس.
9- عظم مكانة الصلاة في الدين؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ﴾ [البقرة: 3]، ولا غرو في هذا؛ فهي عمود الإسلام، والركن الثاني من أركانه بعد الشهادتين، وأعظم العبادات، والصلة بين العبد وبين ربِّه؛ لأن الله جعلها أول صفات المتقين بعد الإيمان بالغيب.
10- فضل الإنفاق من رزق الله في الواجب والمستحب؛ لأن الله ثنَّى بالإنفاق بعد إقام الصلاة؛ ولهذا فالزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، وهي أعظم العبادات المالية، وأعظم العبادات بعد الصلاة.
11- لا بد من الإيمان بجميع ما أُنزِل على الرسل، فبهذا يصح الإيمان؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ [البقرة: 4].
12- إثبات أن الله عز وجل عالٍ على خلقه، بائنٌ منهم، له علوُّ الذات وعلوُّ الصفات؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ [البقرة: 4]، والإنزال يكون من أعلى إلى أسفل.
13- إثبات أن القرآن الكريم منزَّلٌ من عند الله عز وجل غير مخلوق، وكذا غيره من كتب الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ [البقرة: 4].
14- وجوب الإيقان بالآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ [البقرة: 4].
15- جمَعَ التشريع الإسلامي بين طهارة الباطن والظاهر، وأعمال القلوب الباطنة، وأعمال الجوارح الظاهرة، بين الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى عباد الله.
16- حصر هداية الله تعالى في المتقين المتصفين بالصفات المذكورة، وتأكيد ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ [البقرة: 5].
17- إثبات ربوبية الله تعالى الخاصة بالمؤمنين؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ [البقرة: 5].
18- حصر الفلاح والفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة وتأكيده للمتقين الموصوفين بما ذكر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 5].
المصدر: « عون الرحمن في تفسير القرآن »
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|