خطبة النبي كأنك تراه أخلاقه وشمائله للشيخ ثروت سويف
خطبة الجمعة 25من ذي القعدة 1443هـ الموافق 24 يونيو 2022م
تحت عنوان ( النبي كأنك تراه في أخلاقه وشمائله )
اقرأ في هذه الخطبة
اولا : سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم
ثانيا : دعوة النبي جاءت بمكارم الاخلاق
ثالثا : مواقف اخلاقية لسيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم
الخطبة الاولي
الحمد لله الذي أرسل إلينا رسوله خير الأنام ورسول الملك العلام فجاءنا بشريعة كالشمس في ضحاها وبسنة كالقمر اذا تلاها فأبان لنا الحق جليا كالنهار إذا جلاها وطمس الكفر كالليل اذا يغشاها
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك العظيم الرؤوف الرحيم الجواد الكريم امتن علينا ان بعث لنا سيد الانبياء خير النفوس واحلاها فسبحان ربي رفع السماء وبناها وبسط الأرض وطحاها وخلق النفس فسواها فألهما فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المثنى عليه من ربه بقوله: وإنك لعلى خلق عظيم [القلم:4]. اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين الي يوم أن تؤتي النفوس كتبها بيمناها أو يسراها
أما بعد:
فهو الرسول العظيم والنبيّ الكريم، بل هو أفضل الرسل قاطبة، هو خير خلق الله أجمع، هو خير من ركب المطايا، ما ولدت النساء مثلَه، وما أظلّت السماء له نظيرا.
اولا : سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم
فهو سيدنا محمد صاحب التاج والمعراج والبراق والعلم دفع الله به البلاء والوباء والقحط والمرض والألم أسمه مكتوب مرفوع مشفوع منقوش في اللوح والقلم سيد العرب والعجم جسمه مقدس معطر مطهر في البيت والحرم شمس الضحى بدر الدجى صدر العلى نور الهدى كهف الورى مصباح الظلم جميل الشيم شفيع الأمم صاحب الجود والكرم الله عاصمه وجبريل معلمه والبراق مركبه والمعراج سفره وسدرت المنتهى مقامه وقاب قوسين مطلوبه والمطلوب مقصوده والمقصود موجوده سيد المرسلين خاتم النبيين شفيع المذنبين أنيس الغريبين رحمة للعالمين راحه العاشقين مراد المشتاقين شمس العارفين سراج السالكين مصباح المقربين محب الفقراء والغرباء والمساكين سيد الثقلين نبي الحرمين امام القبلتين وسيلتنا في الدارين صاحب قاب قوسين محبوب رب المشرقين والمغربين جد الحسن والحسين مولانا ومولى الثقلين أبو القاسم سيدنا محمد بن عبد الله نور من نور الله يا أيها المشتاقون لنورجماله صلوا عليه وآله وأصحابه وسلموا تسليما .
ان كلّ نبي يبعث إلى قومه وبعث للثقلين: الأنس والجن، ورسالته هي خاتمة الرسالات، وهو خاتم الأنبياء والرسل، لا نبي بعده، فرسالته باقية ما دامت السموات والأرض.
هو من يفتح الجنة، هو الشافع المشفّع في المحشر، قال : ((أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة، وأول من تنشقّ عنه الأرض))، يقول أبو هريرة : (ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله ، كأن الشمس تجري في وجهه)، وقال ابن عباس: (كان رسول الله أفلج الثنيّتين، إذا تكلم رئي كأن نورًا يخرج من بين ثناياه)، وعن أنس قال: (كان رسول الله أزهر اللون، كأن عروقه اللؤلؤ، إذا مشى تكفّى، وما مسست ديباجًا ولا حريرًا ألين من كف رسول الله ، ولا شممت مسكًا ولا عنبرًا أطيب ريحا من رسول الله ).
فصيح اللسان، واضح البيان، بليغ القول، موجز العبارة، موضح في الإشارة، غير متكلّف في اللفظ، جميل المنطق، سلس مبين، أوتي جوامع الكلم وبدائع الحكم.
وصفته أم معبد في طريق هجرته فقالت: (رجل ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه تجلة، ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشعاره وطف، وفي صوته صحل، وفي عنقه سطح، أحور، أكحل، أزجّ، أقرن، شديد سواد الشعر، إذا صمت علاه الوقار، وإن تكلم علاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم وأحلاهم من قريب، حلو المنطق، فصل، لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظِمنَ يتحدّرن، ربعة، لا تقحمه عين من قصر، ولا تشنؤه من طول، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرًا، وأحسنهم قدرًا، له رفقاء يحفّون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره، محفود، محشود، لا عابس، ولا مفنّد).
وقيل في شأنه أيضًا:
بلغ العلى بكماله…كشف الدّجى بجماله
حسنت جميع خصاله…صلّوا عليه وآله
وقال حسان:
وأحسن منك لم تر قطّ عيني…وأفضل منك لم تلد النساء
خلِقت مبرّأً من كل عيب…كأنك قد خلقة كما تشاء
وفوق هذا وذاك قول الحق تبارك وتعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
يا من له الأخلاق ما تهوى العلا…منها وما يتعشق الكبراء
زانتك في الخلق العظيم شمائل…يغرى ِبِهن ويولع الكرماء
فإذا سخوت بلغت بالْجود الْمدى…وفعلت ما لا تفعل الأنواء
وإذا عفوت فقادرا ومقدّرا…لا يستهين بعفوك الجهلاء
وإذا رحمت فأنت أم أو أب…هذان فِي الدنيا هُما الرحماء
وإذا غضبت فإنما هي غضبة…في الحق لا ضغن ولا بغضاء
وإذا رضيت فذاك من مرضاته…ورضا الكثير تَحلّم ورياء
وإذا خطبت فللمنابر هزة…تعرو النديَّ وللقلوب بكاء
وإذا قضيت فلا ارتياب فكأنَّما…جاء الخصومَ من السماء قضاءُ
وإذا أخذت العهد أو أعطيته…فجميع عهدك ذمة ووفاء
إن الله يغضب أن ينال رسوله بسوء: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ [سورة المسد]، وقال في العاص بن وائل: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [سورة الكوثر]، فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:137]، فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:94، 95]، أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [سورة الشرح].
إن عرض رسولنا ليس كلأً مباحًا لكل أفّاك أثيم، ولا حمى مهينا لكل أمّة، لقد هجا أحد المشركين رسول الله فما كان من شاعر الرسول حسان إلا أن تصدّى له فقال:
ألا أبلغ أبا سفيان عني…فأنت مُجوف نخب هواء
بأن سيوفنا تركتك عبدًا…وعبد الدار سادتها الإماء
هجوتَ محمدًا فأجبت عنه…وعند الله فٍي ذاك الجزاء
أتهجوه ولستَ له بكفءٍ…فشرّكما لخيركما الفداء
هجوتَ مباركًا برًّا حنيفًا…أمينَ الله شيمته الوفاء
فمن يهجو رسول الله منكم…ويمدحه وينصُره سواء
فإن أبي ووالده وعرضي…لعرض محمد منكم وقاء
لسانِي صارم لا عيب فيه…وبحري لا تكدّره الدلاء
فقال له : ((وقاك الله حرّ النار يا حسان)).
ثانيا : دعوة النبي جاءت بمكارم الاخلاق
جعل الله تعالى مدار شريعة محمد على تزكية النفوس وتطهيرها وإصلاح الأخلاق وتنقيتها، ولهذا صح عنه قوله: ((إنما بُعِثت لأتمم مكارم الأخلاق)) أخرجه البخاري في الأدب المفرد فكأنّ النبي حَصَر بعثته على تقويم الأخلاق وإتمام مكارمها، ولذلك فإن المتأمل في أركان الإسلام يجد أنها جميعًا تدعو إلى تقويم الأخلاق وتهذيب الطِّباع واستقامة السلوك، فالصلاة تُبعِد المسلم عن الرذائل، وتطهّره من سوء القول والعمل وكانت دعوة النبي إلى إصلاح الأخلاق إلى جانب إصلاح العقائد، وحسبكم دليلاً على ذلك قول الحق تبارك وتعالى في معرض الثناء على نبيه الكريم: وإنك لعلى خلق عظيم [القلم:4].
فمن الأصول الجامعة في بيان محاسن الأخلاق في الإسلام أنها بذل المعروف وكفّ الأذى قولاً كان ذلك أو فعلاً. وبالجملة فقاعدتُها العامة في الإسلام التخلُّق بأخلاق الشريعة والتأدُّب بآداب الله التي أدّب بها عباده،
إن حسن الخلق منحة ربّانية ومِنّة إلهية، لا يعطيها الله عزّ وجلّ إلا لمن يصطفيه ويحبّه، ولله درّ الشاعر حينما قال:
فالناس هذا حظُّهُ مالٌ وذا ـــ عِلْم وذاك مكارم الأخلاقِ
فإذا رُزِقت خليقةً محمودة ـــ فقد اصطفاك مُقَسِّمُ الأرزاقِ
عن عائشة رضي الله عنها أن سعد بن هشام سألها فقال: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله ، قالت أليس تقرأ القرآن؟! قال: بلى، قالت: فإن خلق نبي الله كان القرآن. رواه مسلم
وصف أمير الشعراء في هَمْزِيّته المشهورة النبي صلي الله عليه وسلم قائلاً:
يا أيها الأُمّي حَسْبك رُتْبةً ـــ في العلم أنْ دَانَت بك العلماءُ
يا مَن له الأخلاق ما تهوى العُلا ـــ منها وما يَتَعَشّقُ الكُبراءُ
لو لم يقم دينٌ لقامت وحدَها ـــ دينًا تُضيء بنوره الآناءُ
اعلموا عباد الله أن رسول الله كان أكمل الناس خلالا، وأفضلهم حالا، وأفصحهم مقالا، وقد امتن الله عز وجل علينا ببعثته فقال عز وجل: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم [التوبة:128]. وزكاه الله عز وجل: وإنك لعلى خلق عظيم [القلم:4].
ثم أمرنا الله عز وجل بالاقتداء به ، والاهتداء بهديه، والتخلق بأخلاقه، فقال عز وجل: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا [الأحزاب :21].
وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي فقالت: ((كان خلقه القرآن)) تعني يأتمر بأوامره، وينزجر عن زواجره، ويرضى لرضاه، ويغضب لغضبه؛ أي كان متمسكاً بآدابه، وأوامره، ونواهيه، وما يشتمل عليه من المكارم والمحاسن والألطاف.
وقال ابن القيم رحمه الله: وقد جمع الله له مكارم الأخلاق في قوله: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين [الأعراف:199]. قال جعفر بن محمد: أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق، من تحقيق المسلم لمدلول شهادة أن محمداً رسول الله.
وحقيقة حسن الخلق بذل المعروف، وكف الأذى، وطلاقة الوجه، وتحمل الأذى والأخلاق المحمودة على الإجمال أن تكون مع غيرك على نفسك، فتنصف منها ولا تنتصف لها، وعلى التفصيل: العفو، والحلم، والجود، والصبر، وتحمل الأذى من الخلق، والرحمة بهم، والشفقة عليهم، وقضاء حوائجهم، ونحو ذلك.
وقال الماوردي رحمه الله: "الأخلاق غرائز كامنة تظهر بالاختيار، وتُقهر بالاضطرار" انتهى.
فأركان حسن الخلق أربعة: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل.
وكان حبيبنا أعَفُّ الناس وأشرفهم، لم تمسّ قطّ يدُه امرأةً لا تحلّ له، كاملُ الوفاءِ مع أهل بيته وصحابتِه رضي الله عنهم، كان يذبَح الشاة ثم يقطِّعها أعضاءً، ثم يبعَثها إلى صواحِبِ خديجة بعد وفاتها وفاءً لها وصلّى على قتلَى أحُدٍ بعد ثماني سنين من الغزوةِ كالموَدِّع لهم
وكان يُكرِم صحابتَه ولا يؤثِر لنفسه شيئًا دونهم، يقول عثمان رضي الله عنه: كان رسول الله يواسينَا بالقليلِ والكثير وسِعَ الناسَ بخُلُقه، حليمٌ لا يجزى بالسيئة، ولكن يعفو ويصفَح، لا يغضَب لنفسه ولا ينتصِر لها، يجذبه الأعرابيّ يريد مالاً، فيلتفِتُ إليه مبتسِمًا ويعطيه سؤلَه، عفا عمّن سحره، ولم يثرِّب على من وضَع السمَّ في طعامه، وصفح عمّن قاتله، وقال لهم في فتح مكة: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) تقول عائشة رضي الله عنها: ما نِيلَ منه شيء قطّ فينتقِمَ مِن صاحبه
ليّنُ الجانِب دائم البِشر، يقول جرير بن عبد الله رضي الله عنه: ما رآني رسول الله إلا تبسَّم. رواه البخاري .
يتفقّد أصحابَه، ويؤثِر أهلَ الفضل بأدبه، جميلُ المعاشرة، حسَن الصّحبة، يصِل ذوي رحمه ولا يجفو على أحد، عَفّ اللسان، لم يكن فاحِشًا ولا متفحِّشًا، بل كان أشدَّ حياءً من العَذراء في خِدرها، خِلاله على سجيّته، لا يحِبّ تعظيمَ الألفاظ ولا تشدّقَها، جاء ناسٌ إليه فقالوا: يا رسول الله، يا خيرَنا وابنَ خيرنا، وسيّدَنا وابنَ سيّدِنا، فقال: ((يا أيّها الناس، قولوا بقولِكم، ولا يستهوينّكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحِبّ أن ترفعوني فوقَ منزلتي التي أنزلني الله عز وجل)) رواه النسائي
أيها المسلمون: ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله أحسن الناس خلقاً))، وفيهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: لم يكن رسول الله فاحشاً ولا متفحشاً وكان يقول: ((إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً)).
وفي الترمذي وغيره عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي قال: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله يبغض الفاحش البذيء))، وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقا)).
وفيه أيضاً عنه رضي الله عنه قال: سئل رسول الله عن أكثر ما يدخل الناس الجنة قال: ((تقوى الله وحسن الخلق)). وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار قال: ((الفم والفرج)).
وفي سنن أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم))، وفيه عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أنا زعيم - يعني ضامن - ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه))، وفي الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ألا أخبركم بمن يحرم على النار - أو بمن تحرم عليه النار - تحرم على كل قريب هين لين سهل)).
فاتقوا الله عباد الله، وحسنوا أخلاقكم، وتنافسوا في طاعة ربكم، واتقوا شر ألسنتكم، تكونوا من خيار الناس، وأكملهم إيمانا، وتثقل موازينكم، وتحرم عليكم النار، وتدخلوا الجنة في أقرب منزلة من نبيكم ، في أعالي الجنات بشهادة نبيكم إذ يقول: ((إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً)).
ثالثا : مواقف اخلاقية لسيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم
عباد الله: ان سيدنا محمد صاحب الخلق العظيم رفَع الله ذكرَه، وأعلى شأنه، معجزاتُه باهرة، ودلائلُه ظاهرة، منصورٌ بالرعب، مغفورُ الذنب، أوّل من ينشقّ عنه القبر، وأوّلُ الناس يشفَع يوم القيامة، وأكثرُ الأنبياءِ تبَعًا، وأوّل من يقرَع بابَ الجنة، وأوّل من يعبر الصراطَ، كان عبدًا لله شكورًا، يقوم من الليلِ حتى تتفطّر قدماه، قرّةُ عينِهِ في الصلاة، يقوم لله مخلِصًا خاشعًا، يقول عبد الله بن الشّخّير رضي الله عنه: أتيتُ رسولَ الله وهو يصلّي ولجوفِه أزيزٌ كأزيزِ المِرجَلِ من البكاء. رواه أحمد.
وقال عن نفسه: ((والله، إني لأتقاكُم لله)) متفق عليه
أشدُّ الناسِ تَواضعًا وأحسنُهم بشرًا، يجالِس الفقراءَ، ويُؤاكل المساكينَ، يخصِف نعلَه، ويخدم أهلَه ونفسَه، وشرَب من القِربة البالية، وحمل مع صحابتِه اللَّبِن في بناءِ المسجد، لا يعيبُ على الخدَم ولا يوبِّخُهم، قال أنس رضي الله عنه: خدمتُ رسولَ الله تسعَ سنين فمَا عابَ عليَّ شيئًا قط. رواه مسلم
يوقِّر الكبارَ ويتواضَع للصغار، إن مرَّ على صبيانٍ سلَّم عليهم
ورأى أبا عُميرٍ رضي الله عنه وكان صبيًّا فقال مداعِبًا له: ((أبَا عمير، ما فعل النّغير؟)) متفق عليه يقول أنس رضي الله عنه: ما رأيتُ أحدًا كان أرحمَ بالعيال من رسول الله. رواه مسلممعظِّمٌ لربّه، رفيق الأدَب مع خالقه، لا يدّعي لنفسِه شيئًا ممّا لا يملكه إلاّ الله، قال سبحانه: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188]. وجَاءَه رَجل فقال له: ما شاءَ الله وشِئتَ، فقال له: ((أَجَعلتني لله ندًّا؟! قل: ما شاءَ الله وحده)) رواه النسائي
ونظر الإسلام إلى الإنسان بأنه حر، وليس عبدا، وتمثل ذلك بقول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)، هذه العبارة الذهبية التي نطق بها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في وجه عمرو بن العاص والي مصر وقتئذ لماذا؟ لأن ابن عمرو قد اعتدى على المصري القبطي دون وجه حق، فأنزل عمر عقابه على المعتدي، فهذه عدالة الإسلام وهذه رعايته للإنسان، فأين كرامة الإنسان في أمريكا من هذه الحادثة الإنسانية؟
ولقد اجتمع الأخنس بن شريق، مع أبي جهل يوم بدر، وكلاهما مخالف له وعدو له، قد أجمع على قتله وقتاله، فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم ليس هنا غيري وغيرك يسمع كلامنا، فأخبرني عن محمد أصادق أم كاذب؟ فقال أبو جهل: والله إن محمد لصادق وما كذب محمد قط.
فاعترف أعداؤه بمناقبه، ولا يقدرون على إنكار شيء من فضائله
الإنسانية والاخلاق في التعامل مع المخطئ: فعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَامَ أعرَابِيٌّ فَبَالَ في الْمَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ: "دَعُوهُ وَهَرِيْقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، أوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَم تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ"(البخاري). وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - ﷺ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَا ثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي، لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا ﷺ فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ، وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ، لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ"(مسلم).
وقد تجلَّت مظاهر الإنسانية والاخلاق في تعامل رسول الله مع الأسرى؛ فعن علِيٍّ قال: لَمَّا أَتَى بِسَبَايَا طَيئ وَقَفَتْ جَارِيَةٌ حَمْرَاءُ لَعْسَاءُ ذَلْفَاءُ عَيْطَاءُ، شَمَّاءُ الأَنْفِ، مُعْتَدِلَةُ الْقَامَةِ وَالْهَامَةِ، دَرْمَاءُ الْعَيْنِ، خَدِلَةُ السَّاقَيْنِ، لَفَّاءُ الْفَخِذَيْنِ، خَمِيصَةُ الْخَصْرَيْنِ، ضَامِرَةُ الْكَشْحَيْنِ، مَصْقُولَةُ الْمَتْنَيْنِ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهَا أُعْجِبْتُ بِهَا وَقُلْتُ: لأَطْلِبَنَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَجْعَلَهَا فِي فَيْئِي، فَلَمَّا تَكَلَّمَتْ أُنْسِيتُ جَمَالَهَا لِمَا رَأَيْتُ مِنَ فَصَاحَتِهَا، فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ، إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُخَلِّيَ عَنَّا وَلا تُشْمِتْ بِي أَحْيَاءَ الْعَرَبِ فَإِنِّي ابْنَةُ سَيِّدِ قَوْمِي، وَإِنَّ أَبِي كَانَ يَحْمِي الذِّمَارَ وَيَفُكُّ الْعَانِيَ، وَيُشْبِعُ الْجَائِعَ، وَيَكْسُو الْعَارِي، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَيُفْشِي السَّلامَ، وَلا يَرُدُّ طَالِبَ حَاجَةٍ قَطُّ، أَنَا ابْنَةُ حَاتِمِ طَيئ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا جَارِيَةُ، هَذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا، لَوْ كَانَ أَبُوكِ مُسْلِمًا لَتَرَحَّمْنَا عَلَيْهِ، خَلُّوا عَنْهَا فَإِنَّ أَبَاهَا كَانَ يُحِبُّ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ"، فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ دِينَارٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- يُحِبُّ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ إِلا بِحُسْنِ الْخُلُقِ"(دلائل النبوة للبيهقي).
لقد عاتَبَ سيد الانسانية جُندَه على قتل رجل مشرك رحمةً بامرأة تحبه، فقد روى الطبراني في الأوسط بسند حسن): أن رسول الله ﷺ بَعَثَ سريةً فغنموا، وأخذوا رجلا منهم، فقال: إني لستُ منهم، إني عشقتُ امرأةً فلحقتها، فدعوني أنظر إليها ثم اصنعوا ما بدا لكم، فلما رآها قال: أسلمي حُبَيْش قبل نفاد العيش. قالت: نَعَمْ فدَيْتُكَ. ثم قدموه وضربوا عنقه. فوقعت عليه وشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت حَزَنًا، فلما قَدِمُوا على رسول الله ﷺ أخبروه بما جرى فقال: "أما كان فيكم رجل رحيم؟!!".
فقد تجاوزت إنسانيته واخلاقه ﷺ ذلك كله إلى الحيوان والبهيمة؛ فيروي عبد الله بن جعفر -رضي الله عنهما- أن النبي ﷺ دخل حائطًا لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل، فلما رأى النبيَّ ﷺ حنَّ وذرفت عيناه، فأتاه -صلى الله عليه وسلم- فمسح ظفراه فسكت، فقال ﷺ: "مَن رَبُّ هذا الجَمَلِ؟ لمن هذا الجمل؟"، فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال له: "أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا؛ فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ"(أبو داود)، (وَتُدْئِبهُ: أَيْ تُكْرِههُ وَتُتْعِبهُ وَزْنًا وَمَعْنًى).
وقد مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ فَقَالَ: "اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً وَكُلُّوهَا صَالِحَةً"(أبو داود، وابن خزيمة بسند صحيح)، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ قَالَ: "عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُّ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ"(متفق عليه)، وفي المقابل: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - ﷺ: "بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ"(متفق عليه)، و"المُوقُ: الخف". وَ "يُطِيفُ: يدور حول"، "رَكِيَّةٍ: البئر". بشربة ماء غفرت ذنوبها، وبشربة ماء سترت عيوبها، وبشربة ماء رضي عنها ربها، بل بشربة ماء غفر الله الخطايا للبغايا فكيف بمن يرحم عباد رب البرايا؟!!
وتتجاوز انسانيته واخلاقه البهائم إلى الطيور الصغيرة التي لا يَنتفع بها الإنسانُ كنفعه بالبهائم، ولننظر إلى رحمته بعصفور! حيث يقول رسول الله ﷺ: "مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا عَجَّ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: يَا رَبِّ، إِنَّ فُلانًا قَتَلَنِي عَبَثًا، وَلَمْ يَقْتُلْنِي لِمَنْفَعَةٍ"(النسائي وابن حبان).
أيها المسلمون: هذا غيضٌ مِن فيض من صُوَر ونماذج اخلاق وشمائل سيد المرسلين ؛ وما أغفلناه أكثرُ ممَّا ذكرناه، ويكفي القلادةُ ما أحاط بالعنق!!!
عباد الله، إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وثلث بكم من جنه وأنسه، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على عبدك ورسولك محمّد صاحب الحوض المورود، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء..
جمع وترتيب \ ثروت سويف \ امام وخطيب ومدرس بالأوقاف المصرية
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|