من هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته (أمهات المؤمنين) (2)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأحيطك أيها القارئ الكريم علمًا قبل أن تبدأ القراءة، أنه قد تقدَّم الكلام عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته (أمهات المؤمنين) (1)، وفي هذا المقال نكمل الحديث إن شاء الله تعالى عن نفس الموضوع.
إن مما لا شك فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم تشْغَلْهُ أمور الدعوة والإصلاح، وتعليم المسلمين والجهاد، وغير ذلك من الأمور العظيمة - عن حُسْنِ عِشْرَتِهِ لزوجاته أمهات المؤمنين؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة في جميل المعاشرة ورعاية الحقوق، وهذه بعض مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن:
رابعًا: المبالغة في إكرامهن:
ومما يدل على إكرام النبي صلى الله عليه وسلم لزوجاته إكرامُهُ لأمِّ المؤمنين خديجة؛ فلم يتزوج عليها مدة حياتها حتى ماتت، وكان يُكْثِرُ ذِكْرَها والثناء عليها بعد موتها، وكثرة الذكر دليلٌ على عِظَمِ المحبة؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((استأذنت هالةُ بنت خويلد أختُ خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف استئذان خديجة، فارتاع لذلك، فقال: اللهمَّ هالةَ، قالت: فَغِرْتُ، فقلت: ما تَذْكُرُ من عجوزٍ من عجائز قريش، حمراءِ الشِّدْقَيْنِ، هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيرًا منها))[1]، وفي رواية الإمام أحمد: قال صلى الله عليه وسلم: ((ما أبدلني الله عز وجل خيرًا منها، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذَّبني الناس، وواسَتْنِي بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولادَ النساء))[2].
قال ابن حجر: "بيان تصديقها للنبي صلى الله عليه وسلم في أول وهلة، ومن ثباتها في الأمر ما يدل على قوة يقينها، ووفور عقلها، وصحة عزمها... وكان لأمِّ المؤمنين خديجة من الاستواء ما ليس لغيرها؛ إذ كانت حريصة على رضاه بكل ممكن، ولم يصدر منها ما يغضبه قط، كما وقع لغيرها"[3].
خامسًا: اعتناؤه بصحتهن:
كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعَوِّذَ أهله؛ عن عائشة رضي الله عنها: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُعَوِّذُ بعض أهله، يمسح بيده اليمنى، ويقول: اللهم ربَّ الناس، أذهب البَاسَ، اشْفِهِ وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سَقَمًا))[4].
قال ابن القيم: "ففي هذه الرُّقْيَةِ توسُّلٌ إلى الله بكمال ربوبيته، وكمال رحمته بالشفاء، وأنه وحده الشافي، وأنه لا شفاءَ إلا شفاؤه، فتضمَّنت التوسل إليه بتوحيده وإحسانه وربوبيته"[5].
وفي رواية الإمام مسلم عن عائشة قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مَرِضَ أحد من أهله، نفث عليه بالمُعَوِّذات، فلما مَرِضَ مرضَهُ الذي مات فيه، جعلت أنْفُثُ عليه، وأمسحه بيد نفسه؛ لأنها كانت أعظم بركةً من يدي))[6].
قال ابن حجر: "النَّفْثُ: أي: تَفْلٌ بغير ريق أو مع ريق خفيف... والمعوذات: أي: الإخلاص، والفلق، والناس"[7].
سادسًا: يسابقهن، ويداعبهن، ويمرح معهن:
كان صلى الله عليه وسلم يداعب أزواجه ويُسابِقُهن؛ عن عائشة قالت: ((خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وأنا جارية لم أحْمِلِ اللحم ولم أبْدُنْ، فقال للناس: تقدَّموا، فتقدموا، ثم قال لي: تَعَالَيْ حتى أُسابِقَكِ، فسابقته، فَسَبَقْتُهُ، فسكت عني، حتى إذا حملتُ اللحم وبَدُنْتُ ونسيت، خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: تقدَّموا، فتقدموا، ثم قال: تَعَالَيْ حتى أسابقك فسابقته، فسبقني، فجعل يضحك، وهو يقول: هذه بتلك))[8].
دل الحديث على أن سفر النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنعه من مسابقة أم المؤمنين عائشة مرة بعد مرة، وكان من أهداف المسابقة التودُّدُ والتحبُّبُ والاهتمام، وإدخال السرور على أهله صلى الله عليه وسلم.
سابعًا: يتواضع لهن ويرفق بهن:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((لما رجع صلى الله عليه وسلم من غزوة خيبر، وتزوج صفية بنت حُيَيٍّ رضي الله عنها، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحَوِّي لها وراءه بِعَبَاءَةٍ، ثم يجلس عند بعيره، فيضع رُكْبَتَهُ، فتضع صفية رِجْلَها على ركبته، حتى تركب))[9].
قال الواقدي: "سترها النبي صلى الله عليه وسلم بثوبه، وأدنى فَخِذَهُ لتضع رجلها عليه، فأبت، ووضعت ركبتها على فخذه"[10].
فيؤخذ من الحديث: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم ورِفْقُهُ بأهله، وشفقته عليهم، وحسن تلطُّفِهِ لهم أمام أعين الصحابة الكرام، وفيه: ظهور منزلة أم المؤمنين صفية رضي الله عنها العاقلة الحليمة، والتي كانت تُعظِّم أن تضع رجلها على ركبته صلى الله عليه وسلم.
وجملة القول:
إن من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم مع أمهات المؤمنين الإكرامُ، والمراعاة، والاحترام، والبشاشة، والتواضع، وعذوبة الألفاظ.
نسأل الله أن يوفقنا الله وإياكم لحسن التأسِّي، وجميل الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأن يبارك لنا ولكم في والدينا وأزواجنا وذرياتنا وجميع المسلمين.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|