ذم عز وجل أهل الكتاب في الآيات السابقة لرغبتهم عن ملة إبراهيم، وأنكر عليهم ادعاءهم أنهم على الحق، وعلى ما أوصاهم به يعقوب عليه السلام، مع مخالفتهم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتبع ذلك بذكر دعوتهم إلى اليهودية والنصرانية، وحصرهم الهدى فيما كانوا عليه، وأبطل ذلك وبين أن الاهتداء إنما هو باتباع ملة إبراهيم عليه السلام.
قوله: ﴿ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ﴾ الواو: استئنافية، أي: وقال اليهود والنصارى؛ لأن السياق معهم في قوله: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [البقرة: 130]، وفي قوله: ﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ ﴾ [البقرة: 133].
و"أو": للتقسيم والتنويع، لا للتخيير؛ لأن كل واحد من الفريقين يكفر بالآخر، أي: وقال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: ﴿ كُونُوا هُودًا ﴾ أي: كونوا يهوداً على ملتنا تهتدوا، وقالت النصارى لهم: كونوا نصارى على ملتنا تهتدوا.
و﴿ تَهْتَدُوا ﴾ جواب الأمر مجزوم بحذف النون، وفيه إيذان بمعنى الشرط، أي: إن كنتم كذلك تهتدوا، أي: وإن لم تكونوا يهوداً أو نصارى فلستم بمهتدين.
ومعنى ﴿ تَهْتَدُوا ﴾: ترشدوا وتصيبوا الحق، فحصر اليهود الهداية فيما هم عليه، وحصر النصارى الهداية فيما هم عليه، غروراً من كل منهما واستكباراً.
عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قال عبدالله بن صوريا الأعور لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد. وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾"[1].
﴿ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ جواب عن قول اليهود والنصارى:﴿ كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ﴾، والخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم، و"بل": للإضراب الإبطالي، تبطل ما سبق.
﴿ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾: منصوب بفعل محذوف تقديره: "نتبع" أو نحو ذلك، أي: لا نكون هوداً أو نصارى، بل نتبع ملة إبراهيم حنيفاً، أي: نتبع دين إبراهيم عليه السلام، ولا اهتداء إلا باتباع ملة إبراهيم عليه السلام.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إني لم أبعث باليهودية ولا النصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة"[2].
﴿ حَنِيفًا ﴾: حال، أي: حال كونه حنيفاً، والحنيف: "فعيل" بمعنى "فاعل" مشتق من "الحنف".
و"الحنف": الميل، ومنه سُمي الأحنف بن قيس؛ لميل إحدى قدميه بالأصابع إلى الأخرى، قالت أمه: والله لو لا حنف برجله
ما كان في فتيانكم من مثله[3]
ومعنى ﴿ حَنِيفًا ﴾: مائلا عن الشرك إلى التوحيد، وعن الباطل إلى الحق، مسلماً مخلصاً، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 120]، وقال تعالى: ﴿ وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا ﴾ [آل عمران: 67]، ولهذا قال:
﴿ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ وهذا توكيد من حيث المعنى؛ لقوله تعالى: ﴿ حَنِيفًا ﴾؛ لأن الجمل المنفية تفيد كمال ضدها، فنفيه عز وجل أن يكون إبراهيم من المشركين توكيد لكمال توحيده وإخلاصه لله تعالى وأنه عليه السلام ما كان في وقت من الأوقات أو في حال من الأحوال من المشركين عبدة الأصنام.
و"كان" هنا مسلوبة الزمان تفيد اتصاف اسمها بخبرها في جميع الأوقات.
وفي الآية تعريض بما عليه أهل الكتاب والعرب من الشرك بالله كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 120]، وقال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 123].