دروس وعبر من سير الصحابة الكرام (4)
لقد كانت عنايةُ هذا الجيل بالقُرآن الكريم[1] وتدبُّره والعمل به وتعليمه - عِنايةً عُظمَى؛ فقد كانوا يتلقَّون القُرآن فيَعُونه، ومُعظَمهم عرب أَبْيِناء، ويعمَلُون به فَوْرَ سَماعه، ويعمَلُون به كما يعمَلُ الجندي عندما يتلقَّى الأمرَ اليومي في الميدان فينفذه فور تلقِّيه.
عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - أنَّه قال: كان الرجل منَّا إذا تعلَّم عشْر آيات لم يُجاوِزْهن حتى يعرف مَعانيَهنَّ والعمل بهنَّ[2].
ونُقِلَ عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أنَّه حَفِظَ سورة البقرة في ثماني سنوات[3].
لقد كان اعتِزازُ هذا الجيل بالقُرآن اعتزازًا كبيرًا؛ عرَفُوا قدرَه، وظهَر أثرُه في حياتهم؛ فاستغنوا به عمَّا سِواه.
يُمثِّل هذا المعنى الكلمةُ الرائعةُ التي قالها ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - عندما رأى بعضَ المسلمين يسألون أهلَ الكتاب عمَّا ورَد في كتبهم بشأن بعضِ الأمور، فبيَّن لهؤلاء المسلمين أنَّ كتابهم القُرآن الكريم الذي أكرمَهُم الله به فيه كلُّ شيء ممَّا يتَّصل بدُنياهم وأُخراهم، فقال:
"يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهلَ الكتاب عن شيءٍ، وكتابُكم الذي أنزل الله على نبيِّه أحدثُ أخبار الله تقرَؤُونه محضًا لم يُشَبْ؟ وقد حدَّثَكُم الله أنَّ أهل الكتاب قد بدَّلُوا كتابَ الله وغيَّرُوه، وكتبوا بأيديهم الكتابَ وقالوا: هذا من عند الله؛ ليشتروا به ثمنًا قليلاً، أفلا يَنهاكم ما جاءكم من العِلم عن مَسألتهم؟ ولا والله ما رأينا منهم أحدًا قطُّ سألَكُم عن الذي أُنزِلَ إليكم"؛ رواه البخاري برقم 2685 و7523.
وكانت وصيَّة رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه أنْ يلتزموا هذا الكتابَ الكريم، وألاَّ يلتَفِتوا إلى غيرِه من الكتب ممَّا بُدِّلَ وغُيِّرَ.
أخرج أحمد في "مسنده" أنَّ عُمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - أتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بكتابٍ أصابَه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبي -صلى الله عليه وسلم- فغَضِبَ وقال: ((أمُتهوِّكون فيها يا بن الخطَّاب؟ والذي نفسي بيده، لو أنَّ موسى - عليه السلام - كان حَيًّا، ما وَسِعَه إلا أنْ يتبعني))[4].
الصحابة بشرٌ غير معصومين:
ونقول: إنَّ الصحابة - رضوان الله عليهم - مع فضلهم العظيم هم بَشَرٌ من البَشَرِ، قد يُخطِئون ويُصِيبون، ولا نثبت لهم العصمةَ، فالعصمةُ عندنا - نحن أهلَ السُّنَّة والجماعة - للرَّسول -صلى الله عليه وسلم- وحدَه.
ويبقى جيلُ الصحابة الجيلَ المثالي، والأساس الصلب الذي قامَ عليه دِينُ الإسلام العظيم.
ويحسُن أنْ نذكُر ما قالَه الأستاذ العلاَّمة الذَّوَّاقة سيد قطب، فقد قال:
"كثيرًا ما نُخطِئ نحن حين نتصوَّر لصَحابته - رضوان الله عليهم - صورةً غير حقيقيَّة، أو غير كاملة، نُجرِّدهم فيها من كلِّ المشاعر والعواطف البشريَّة، حاسِبين أنَّنا نرفعهم بهذا ونُنزِّههم عمَّا نعدُّه نحنُ نقصًا وضعفًا.
وهذا الخطأ يرسم لهم صورةً غير واقعيَّة، صورة مُلفعة بهالات غامضة لا نتبيَّن من خِلالها ملامِحَهُم الأصيلة؛ ومن ثَمَّ تنقطعُ الصلة البشريَّة بيننا وبينهم، وتبقى شُخوصهم في حِسِّنا بين تلك الهالات أقرب إلى الأطياف التي لا تُلمَس ولا تتماسَكُ في الأيدي! ونشعُر بهم كما لو كانوا خلقًا آخَر غيرنا، ملائكة أو خلقًا مثلهم مجرَّدًا من مشاعر البشر وعَواطفهم على كلِّ حال!
ومع شفافية هذه الصورة الخياليَّة، فإنها تُبعِدهم عن محيطنا، فلا نعودُ نتأسَّى بهم أو نتأثَّر؛ يأسًا من إمكانيَّة التشبُّه بهم أو الاقتداء العملي في الحياة الواقعيَّة.
وتفقد السيرة بذلك أهمَّ عُنصر محرِّك، وهو استِجاشة مشاعرنا للأسوة والتقليد، وتحلُّ محلها الروعة والانبِهار، اللذان لا يُنتِجان إلا شُعورًا مبهمًا غامضًا سِحريًّا ليس له أثرٌ عمليٌّ في حَياتنا الواقعيَّة، ثم نفقد كذلك التجاوب الحيّ بيننا وبين هذه الشخصيَّات العظيمة؛ لأنَّ التجاوب إنما يقع نتيجةً لشعورنا بأنهم بشرٌ حقيقيُّون، عاشوا بعواطفَ ومشاعرَ وانفِعالاتٍ حقيقيَّة من نوع المشاعر والعواطف والانفِعالات التي نُعانِيها نحن، ولكنَّهم هم ارتقوا بها وصفَّوْها من الشَّوائب التي تُخالِج مشاعرنا.
وحكمةُ الله واضحةٌ في أنْ يختارَ الله رسلَه من البشر، لا من الملائكة ولا من أيِّ خلقٍ آخَر غير البشر؛ كي تبقى الصلة الحقيقيَّة بين حياة الرسل وحياة أتْباعهم قائمة؛ وكي يحسَّ أتباعهم أنَّ قلوبهم كانت تعمُرها عواطفُ ومشاعر من جنس مشاعرِ البشَر وعَواطفهم، وإنْ صفتْ ورقَّتْ وارتقتْ، فيحبُّوهم حبَّ الإنسان للإنسان؛ ويطمَعُوا في تقليدهم تقليدَ الإنسان الصغير للإنسان الكبير"[5].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|