تفسير قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾
قوله: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ ﴾ "ذا": اسم إشارة، واللام للبعد، والكاف للخطاب، وهو عامٌّ لكل من يصح خطابه.
والمراد بـ﴿ الْكِتَابُ ﴾ القرآن الكريم، وهو على وزن "فعال" بمعنى "مفعول"؛ أي: مكتوب؛ لأنه مكتوب عند الله عز وجل في اللوح المحفوظ، وهو أيضًا مكتوب بالصحف التي بأيدي الملائكة، كما قال تعالى: ﴿ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾ [عبس: 13 - 16].
وهو مكتوب بالمصاحف التي بأيدي المؤمنين.
وأشار إليه بإشارة البعيد "ذلك"؛ لعظيم شرفه، وعلو منزلته، فهو أعظم وأشرف الكتب على الإطلاق، وأفضل كتب الله عز وجل؛ لما اشتمل عليه من الإعجاز في ألفاظه ومعانيه، وأحكامه وأخباره، كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴾ [الحجر: 87]، وقال تعالى: ﴿ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ﴾ [ق: 1]، وقال تعالى: ﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ﴾ [البروج: 21، 22]، وقال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، وقال تعالى: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأنعام: 155]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ﴾ [الواقعة: 77]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9]، وقال تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89]، وقال تعالى: ﴿ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]، وقال تعالى: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [الحشر: 21]، وقال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48].
﴿ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾: الريب: الشكُّ؛ أي: لا شك فيه أبدًا، لا قليل ولا كثير، بأي وجه من الوجوه، فالجملة خبرية، والنفيُ فيها على بابه، وعلى عمومه وإطلاقه، فالقرآن بذاته حقٌّ لا شك فيه، ينزل من عند الله يقينًا وحقًّا، وكل ما جاء فيه حق وصدق، كما قال تعالى: ﴿ الم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [السجدة: 1، 2]، وقال تعالى: ﴿ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ﴾ [الإسراء: 105]، وقال تعالى: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42]، وقال تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾ [الشعراء: 193، 194]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، وقال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ﴾ [الأنعام: 115]؛ أي: صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأحكام.
ولا يقدح في عموم نفيِ الشك في القرآن وإطلاقه شكُّ مَن شَكَّ فيه مِن أهل الكفر والزيغ والضلال؛ فقد يُنكِرُ الأعمى ضوءَ الشمس، والمريضُ طعمَ الماء، كما قيل:
قد تُنكِرُ العينُ ضوءَ الشمس مِن رَمَدٍ *** ويُنكِرُ الفمُ طعمَ الماءِ مِن سَقَمِ[1]
وقال المتنبي:
ومَن يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ *** يجدْ مُرًّا به الماء الزُّلالا[2]
وأيضًا فالجملة وإن كانت خبرية تدلُّ على نفي الريب والشك مطلقًا في القرآن، فهي متضمِّنة لمعنى النهي عن الشكِّ فيه.
المصدر: « عون الرحمن في تفسير القرآن »
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|