حقوق أمهات المؤمنين رضي الله عنهن (1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله أجمعين، وأزواجه الطيبات الطاهرات، أمهات المؤمنين، وأصحابه الهداة المهتدين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:
الإخوة الكرام والأخوات الفضليات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يلحظ القارئ للكتابِ والسُّنَّةِ المتفهم لمعانيهما أنهما قد اهتما غاية الاهتمام ببيان فضائل وحقوق أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، ثم وفق الله سبحانه وتعالى أهل الحديث فبوَّبوا أبوابًا ضمن ما جمعوا من الأحاديث في فضائل أمهات المؤمنين، ومناقبهن وحقوقهن؛ بل إن المصنفين قديمًا وحديثًا صنفوا مصنفات مستقلة؛ منها: "السمط الثمين في مناقب أمهات المؤمنين"، لمحب الدين الطبري أحمد بن عبدالله، المتوفى سنة 694 ه، وكتاب: "الأربعين في مناقب أمهات المؤمنين"، لابن عساكر الشافعي، المتوفى سنة 620 ه.
ولعل من المناسب ذكر حقوق أمهات المؤمنين رضي الله عنهن بشيء من التفصيل حسب الاستطاعة، واللَّه المستعان.
الترضي والاستغفار عن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن:
جرت عادة السلف والخلف من عموم الأمة الترضي والاستغفار والترحم عن الصحابة رضي الله عنهم، وأمهات المؤمنين رضي الله عنهن يدخلن في عموم الصحابة؛ لأنهن منهم؛ قال تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ [التوبة: 100]، وقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].
فيُستحب "الترضي والترحُّم على الصحابة والتابعين، فمن بعدهم من العلماء والعبَّاد وسائر الأخيار، فيُقال: رضي الله عنه، أو رحمه الله، ونحو ذلك"[1].
ومن السنة "تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبتهم وذكر محاسنهم، والترحم عليهم، والاستغفار لهم، والكف عن ذكر مساوئهم، وما شجر بينهم، واعتقاد فضلهم، ومعرفة سابقتهم... ومن السنة: الترضي عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين المطهرات المبرآت من كل سوء، أفضلهن خديجة بنت خويلد، وعائشة الصديقة بنت الصديق، التي برأها الله في كتابه، زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فمن قذفها بما برأها الله منه، فقد كفر بالله العظيم"[2].
والجدير بالذكر أن آيات القرآن والأحاديث النبوية قد أكدَّا ورغَّبا في الدعاء، والترحم والتصدق، والحج، وسائر الطاعات على موتى المسلمين عرفانًا بحقهم وفضلهم، وفي ذلك فوائد للأموات، فالدعاء للسابقين مستجاب؛ اعتمادًا على فضل وسَعَةِ رحمة الله تعالى، يصل إليهم ثواب جميع العبادات، وكذا فوائد للأحياء، فهي من الصدقات الجارية التي يلحقهم ثوابها بعد الموت.
حفظ وصية النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فيهن، والإِحسان إليهن:
وعن الوصاة بأهل بيته صلى اللَّه عليه وسلم وقرابته، عن ابن عمر، عن أبي بكر رضي الله عنهم، قال: " ارْقُبُوا [3] مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ "[4].
قوله: "((ارقبوا محمدًا في أهل بيته))، يخاطب بذلك الناس ويوصيهم به، والمراقبة للشيء المحافظة عليه، يقول: احفظوه فيهم، فلا تؤذوهم، ولا تسيئوا إليهم"[5].
وعن توقير آل البيت وعلوِّ منزلتهم؛ قال الحافظ ابن كثير: "ولا ننكر الوصاة بأهل البيت، والأمر بالإحسان إليهم، واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة، من أشرف بيت وُجد على وجه الأرض، فخرًا وحسبًا ونسبًا، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية، كما كان عليه سلفهم، كالعباس وبنيه، وعليٍّ وأهل بيته وذريته، رضي الله عنهم أجمعين"[6].
وقد دخل "الأزواج في الآل وخصوصًا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تشبيهًا لذلك بالسبب؛ لأن اتصالهن بالنبي صلى الله عليه وسلم غير مرتفع، وهن محرمات على غيره في حياته، وبعد مماته، وهن زوجاته في الدنيا والآخرة"[7].
ومن باب الوصاة بأهل البيت، كان عمر يقدمهم في العطاء على جميع الناس، ويفضلهم في العطاء؛ عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال لعمر بن الخطاب: ((إِنَّ فِي الظَّهْرِ[8] نَاقَةً عَمْيَاءَ، فَقَالَ عُمَرُ: ندْفَعْهَا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَنْتَفِعُونَ بِهَا، فَقُلْتُ: وَهِيَ عَمْيَاءُ؟ قَالَ: يَقْطُرُونَهَا بِالإِبِلِ، قَالَ: فَقُلْتُ: كَيْفَ تَأْكُلُ مِنَ الأَرْضِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: أَمِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ هِيَ، أَمْ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ؟ قال: فَقُلْتُ: مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَرَدْتُمْ، وَاللَّهِ، أَكْلَهَا، فَقُلْتُ: إِنَّ عَلَيْهَا وَسْمَ الْجِزْيَةِ، فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ، فَنُحِرَتْ، وَكَانَ عِنْدَهُ صِحَافٌ تِسْعٌ، فَلَا تَكُونُ فَاكِهَةٌ وَلَا طُرَيْفَةٌ، إِلَّا جَعَلَ مِنْهَا فِي تِلْكَ الصِّحَافِ، فَيبَعَثَ بِهَ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَكُونُ الَّذِي يَبْعَثُ بِهِ إِلَى حَفْصَةَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ نُقْصَانٌ، كَانَ فِي حَظِّ حَفْصَةَ، قَالَ: فَجَعَلَ فِي تِلْكَ الصِّحَافِ مِنْ لَحْمِ تِلْكَ الْجَزُورِ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَ بِمَا بَقِيَ، فَصُنِعَ، فَدَعَا عَلَيْهِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ))[9].
فكان عمر رضي الله عنه "يفضِّل أهل السوابق ومَن له مِن رسول الله قرابة في العطاء، وفضَّل أزواج النبي في العطاء على الناس أجمعين، ففرض لكل واحدة اثني عشر ألفًا، ولم يلحق بهن أحدًا إلا العباس، فإنه جعله في عشرة آلاف، وذهب عثمان في ذلك إلى التفضيل، وبه قال مالك"[10].
ونستنتج من الآثار المتواترة: أهمية الوصاة بأهل البيت، واختلاف الصحابة رضي الله عنهم في قسم الفيء والعطاء، فرُوى عن بعضهم التسوية في العطاء بين الحر والعبد، والشريف والوضيع، وروى عن البعض الآخر التفضيل بين الناس، وهذا يدل على محبة آل البيت، والرفق بهم والمحافظة عليهم، واحترامهم ومراعاتهم، وحبهم وتوقيرهم.
والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه، وأزواجه وذريته والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليمًا كثيرًا
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|