الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
تقدم في الكلمة السابقة الحديث عن مشاهد وأحداث من غزوة بدر المباركة، ولا زال الحديث موصولاً في ذلك.
روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه قال: (انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: (لَا يُقَدِّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ)، فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: (قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ)، قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؟! قَالَ: (نَعَمْ)، قَالَ: بَخٍ بَخٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: (مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ)، قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: (فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا)، فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ[1] فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ)[2].
ومن المشاهد والأحداث:
ما روى البخاري في صحيحه من حديث عروة بن الزبير رضي اللهُ عنه قال: (قَالَ الزُّبَيْرُ: لَقِيتُ يَوْمَ بَدْرٍ عُبَيْدَةَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَهُوَ مُدَجَّجٌ لَا يُرَى مِنْهُ إِلَّا عَيْنَاهُ، وَهُوَ يُكْنَّى أَبُو ذَاتِ الْكَرِشِ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ بِالْعَنَزَةِ[3] فَطَعَنْتُهُ فِي عَيْنِهِ فَمَاتَ. قَالَ هِشَامٌ: فَأُخْبِرْتُ أَنَّ الزُّبَيْرَ قَالَ: لَقَدْ وَضَعْتُ رِجْلِي عَلَيْهِ، ثُمَّ تَمَطَّأْتُ، فَكَانَ الْجَهْدَ أَنْ نَزَعْتُهَا، وَقَدْ انْثَنَى طَرَفَاهَا. قَالَ عُرْوَةُ: فَسَأَلَهُ إِيَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم فَأَعْطَاهُ، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم أَخَذَهَا، ثُمَّ طَلَبَهَا أَبُو بَكْرٍ فَأَعْطَاهُ، فَلَمَّا قُبِضَ أَبُو بَكْرٍ سَأَلَهَا إِيَّاهُ عُمَرُ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، فَلَمَّا قُبِضَ عُمَرُ أَخَذَهَا، ثُمَّ طَلَبَهَا عُثْمَانُ مِنْهُ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ وَقَعَتْ عِنْدَ آلِ عَلِيٍّ، فَطَلَبَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَكَانَتْ عِنْدَهُ حَتَّى قُتِلَ)[4].
وروى البخاري في صحيحه من حديث عروة رضي اللهُ عنه قال: (كَانَ فِي الزُّبَيْرِ ثَلَاثُ ضَرَبَاتٍ بِالسَّيْفِ، إِحْدَاهُنَّ فِي عَاتِقِهِ، قَالَ: إِنْ كُنْتُ لَأُدْخِلُ أَصَابِعِي فِيهَا، قَالَ: ضُرِبَ ثِنْتَيْنِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَوَاحِدَةً يَوْمَ الْيَرْمُوكِ. قَالَ عُرْوَةُ: وَقَالَ لِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ حِينَ قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: يَا عُرْوَةُ: هَلْ تَعْرِفُ سَيْفَ الزُّبَيْرِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا فِيهِ؟ قُلْتُ: فِيهِ فَلَّةٌ[5] فَلَّهَا يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ: صَدَقْتَ، بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ[6]، ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى عُرْوَةَ. قَالَ هِشَامٌ: فَأَقَمْنَاهُ بَيْنَنَا ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَأَخَذَهُ بَعْضُنَا، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ أَخَذْتُهُ)[7].
قال الحافظ في الفتح:
(قوله: صدقت بهن فلول من قراع الكتائب هذا شطر من بيت مشهور من قصيدة مشهورة للنابغة الذبياني، وأولها:
كليني لِهَمِّ يَا أُمَيْمَة نَاصب
ولَيلٍ أُقَاسِيه بِطِيءِ الكَوَاكِبِ
ولا عَيْبَ فِيْهم غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُم
بِهِنَّ فلُولُ مِن قِراعِ الكَتَائِبِ
وهو من المدح في معرض الذم، لأن الفل في السيف نقص حسي لكنه لما كان دليلاً على قوة ساعد صاحبه، كان من جملة كماله)[8].
وفي رواية أخرى عن عروة رضي اللهُ عنه قال: (كَانَ سَيْفُ الزُّبَيْرِ ابْنِ الْعَوَّامِ مُحَلًّى بِفِضَّةٍ)[9].
وروى البخاري في صحيحه من حديث عروة بن الزبير رضي اللهُ عنه: (أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم قَالُوا لِلزُّبَيْرِ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ: أَلَا تَشُدُّ فَنَشُدَّ مَعَكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي إِنْ شَدَدْتُ كَذَبْتُمْ، فَقَالُوا: لَا نَفْعَلُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى شَقَّ صُفُوفَهُمْ، فَجَاوَزَهُمْ وَمَا مَعَهُ أَحَدٌ، ثُمَّ رَجَعَ مُقْبِلًا، فَأَخَذُوا بِلِجَامِهِ، فَضَرَبُوهُ ضَرْبَتَيْنِ عَلَى عَاتِقِهِ، بَيْنَهُمَا ضَرْبَةٌ ضُرِبَهَا يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ عُرْوَةُ: كُنْتُ أُدْخِلُ أَصَابِعِي فِي تِلْكَ الضَّرَبَاتِ أَلْعَبُ وَأَنَا صَغِيرٌ، قَالَ عُرْوَةُ: وَكَانَ مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، فَحَمَلَهُ عَلَى فَرَسٍ، وَوَكَّلَ بِهِ رَجُلًا)[10].
ومنها شجاعة حمزة رضي اللهُ عنه: روى ابن إسحاق بسنده: (أَنَّ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ سَأَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنَ بْنَ عَوْفٍ فَقَالَ: مَنِ الرَّجُلُ مِنْكُمُ المُعَلِّمُ بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ فِي صَدْرِهِ يَوْمَ بَدْرٍ؟ قُلْتُ: ذَلِكَ عَمُّ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم ذَلِكَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، قَالَ: ذَاكَ الَّذِي فَعَلَ بِنَا الأَفَاعِيلَ)[11].
وروى البخاري في صحيحه من حديث وحشي قال: (إِنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ طُعَيْمَةَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ يَوْمَ بَدْرٍ)[12].
لقد انتهت معركة بدر بنصرٍ حاسمٍ للمسلمين، فقد قتلوا سبعين من قادة قريش وساداتهم وأسروا سبعين، وحصلت في هذه المعركة المعجزات والكرامات العظيمة التي أيد الله بها المؤمنين، وجاء دور الغنائم، فلقد خلفت قريشٌ الكثير منها، ومن هذه الغنائم أموال المهاجرين التي تركوها في مكة، وانتزعها المشركون منهم، وهذه الغنيمة التي حصلت للمسلمين هي فضلٌ من الله يعطيه لأوليائه إذ مكنهم من رقاب أعدائهم قتلاً وأسراً، ومن أموالهم غنيمةً طيبةً للمؤمنين.
وكان انهزام القوم وتوليهم حين زالت الشمس عند الغروب من يوم الجمعة، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبادة بن الصامت رضي اللهُ عنه قال: (خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فَشَهِدْتُ مَعَهُ بَدْراً، فَالتَقَى النَّاسُ فَهَزَمَ اللهُ العَدُوَّ، فَانْطَلَقَتْ طَائِفَةٌ فِي آثَارِهِمْ يُطَارِدُونَ وَيَقْتُلُونَ، وَأَكَبَّتْ طَائِفَةٌ عَلَى المَغْنَمِ يَحُوزُونَهُ وَيَجْمَعُونَهُ، وَأَحْدَقَتْ طَائِفَةٌ بِرَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم لَا يُصِيبُ العَدُوُّ مِنهُ غَرَّةً، وجاء في آخر الحديث: فَأَنزَلَ اللهُ: ﴿
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 1] [13][14].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.