حديث: يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وأسالوا الله العافية
عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أيامه التي لقي فيها العدو، انتظر حتى مالت الشمس، فقام فيهم فقال: "يا أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، وأسالوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبِروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف"، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم منزِّل الكتاب ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصُرنا عليهم".
الجهاد: هو بذل الجهد في فتال الكفار والمرتدين، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111]، والآيات في الجهاد كثيرة وهو فرض كفاية، إذا قام به قوم سقط عن الباقين، ويطلق على مجاهدة النفس والشيطان والفراق، قال أحمد: لا أعلم شيئًا من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد.
قوله: (انتظر حتى مالت الشمس) في حديث النعمان بن مقرن عند البخاري: "وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلاة"، ولأبي داود: "وينزل النصر".
قال الحافظ: فيظهر أن فائدة التأخير لكون إقامة الصلاة مظنة إجابة الدعاء وهبوب الريح، قد وقع النصر به في الأحزاب، فصار مظنةً لذلك، والله أعلم.
قوله: (لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا).
قال ابن بطال: حكمة النهي أن المرء لا يعلم ما يؤول إليه الأمر، وهو نظير سؤال العافية من الفتن، وقد قال الصديق: لأن أعافى فأشكر أحبُّ إليَّ من أن أُبتلى فأصبر، وقال غيره: إنما نهى عن تمني لقاء العدو، لما فيه من صورة الإعجاب والاتكال على النفوس والوثوق بالقوة، وقلة الاهتمام بالعدو، وكل ذلك يباين الاحتياط والأخذ بالحزم، وأخرج سعيد بن منصور من طريق يحيى بن أبي كثير مرسلًا لا تَمنوا لقاء العدو، فإنكم لا تدرون عسى أن تبتلوا بهم، وقال ابن دقيق العيد: لَما كان لقاء الموت من أشق الأشياء على النفس، وكانت الأمور الغائبة ليست كالأمور المحققة، لم يؤمن أن يكون عند الوقوع كما ينبغي، فيُكره التمني لذلك لما فيه لو وقع من احتمال أن يختلف الإنسان ما وعد من نفسه، ثم أمر بالصبر عند وقوع الحقيقة[1].
قال الحافظ: واستدل بهذا الحديث على ما طلب المبارزة، وهو رأي الحسن البصري، وكان علي يقول: لا تَدْعُ إلى المبارزة، فإذا دُعيت فأجِب تُنصَر؛ لأن الداعي باغٍ[2].
قوله: (واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف).
وقال البخاري: باب الجنة تحت بارقة السيوف، وساق الحديث قال ابن المنير: كان البخاري أراد أن السيوف لما كانت لها بارقة، كان لها أيضًا ظل، قال القرطبي: وهو من الكلام النفيس الجامع الموجز المشتمل على ضروب من البلاغة، مع الإجازة وعذوبة اللفظ، فإنه أفاد الحض على الجهاد والإخبار بالثواب عليه، والحض على مقارعة العدو، واستعمال السيوف والاجتماع حين الزحف حتى تصير السيوف تظل المتقاتلين[3].
قوله: (اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم).
قال الحافظ: أشار بهذا الدعاء إلى وجوه النصر عليهم، فبالكتاب إلى قوله تعالى: ﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ﴾ [التوبة: 14]، وبمجرى السحاب إلى القدرة الظاهرة في تسخير السحاب؛ حيث يحرك الريح بمشيئة الله تعالى، وحيث يستمر في مكانه مع هبوب الريح، وحيث تمطر تارة وأخرى لا تمطر، فأشار بحركته إلى إعانة المجاهدين في حركتهم في القتال، وبوقوفه إلى إمساك أيدي الكفار عنهم، وبإنزال المطر إلى غنيمة ما معهم؛ حيث يتفق قتلهم وبعدمه إلى هزيمتهم؛ حيث لا يحصل الظفر بشيء منهم، وكلها أحوال صالحة للمسلمين، وأشار بهازم الأحزاب إلى التوسل بالنعمة السابقة، وإلى تجريد التوكل، واعتقاد أن الله هو المنفرد بالفعل، وفيه التنبيه على عِظم هذه النعم الثلاث، فإن بإنزال الكتاب حصلت النعمة الأخروية وهي الإسلام، وبإجراء السحاب حصلت النعمة الدنيوية وهي الرزق، وبهزيمة الأحزاب حصل حفظ النعمتين، وكأنه قال: اللهم كما أنعمت بعظيم النعمتين الأخروية والدنيوية وحفظتهما، فابقهما، وروى الإسماعيلي في هذا الحديث من وجه آخر أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا أيضًا، فقال: اللهم أنت ربُّنا وربُّهم، ونحن عبيدك وهم عبيدك، نواصينا ونواصيهم بيدك، فاهزمهم وانصُرنا عليهم[4]؛ انتهى.
وقال البخاري أيضًا: باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، وساق الحديث بلفظ: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب على المشركين، فقال: اللهم منزل الكتاب سريع الحساب، اللهم اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلْهم[5].
قال الحافظ: وفي الحديث استحبابُ الدعاء عند اللقاء والاستنصار ووصية المقاتلين بما فيه صلاح أمرهم، وتعليمهم بما يحتاجون إليه، وسؤال الله تعالى بصفاته الحسنى وبنعمه السالفة ومراعاة نقاط النفوس، لفعل الطاعة والحث على سلوك الأدب، وغير ذلك[6]؛ انتهى والله أعلم.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|