صور من التسامح الفعلي في واقع المسلمين
حفل الإسلام بالدعوة إلى التسامح منذ بزغ فجره، لكن الدعوات ليست كلَّ شيء، فكثيرًا ما سمعنا دعواتٍ لم تتحقق؛ لأن التطبيق العملي شيء، والبيان النظري شيء آخر، أو لأن الدعاة مخادعون يبتغون التمويه والتضليل لأغراض يُخفونها، وما زال العالَم يذكر مبادئ "ولسون" الأربعة عشر بعد الحرب العالمية الأولى 1914 م - 1918 م، ويعلم أنه لم يحقق منها شيئًا، وما زال العالم يسخَر من وعود إنجلترا وأمريكا في الحرب العالمية الثانية؛ لأنها وعود كاذبة ذهبت مع الريح[1].
أما الإسلام، فقد قام على التسامح قولاً وعملاً، وإليك صورًا من التسامح العملي للإسلام.
سماحة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية:
اشترطت قريش على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صُلح الحديبية شروطًا قاسية، منها:
أن من جاء من محمد إلى قريش لا ترده إلى محمد، ومن جاء إلى محمد بغير إذنِ وليِّه رده محمد.
وقبِل النبي - صلى الله عليه وسلم - شرطهم الجائر لحكمة رآها، وتبرَّم بعضُ الصحابة بالشرط، وما كادوا ينتهون من توقيع المعاهدة حتى جاء أول امتحان للوفاء؛ إذ وصل مسلم من مكة اسمه: "أبو جندل بن سهيل" يرسف في الحديد، فارًّا من أذى قومه، وألح على الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أن يضمَّه إليه، لكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سلَّمه لقريش، وفاءً بعهده؛ فقال أبو جندل: إنهم سيعذِّبونني، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: ((اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعلٌ لك ولمن معك من المستضعفين فرَجًا ومخرجًا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم)).
ثم وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - "أبو بصير عتبة بن أسيد" فردَّه، وقال له مثل ما قال لأبي جندل[2].
وإن سماحة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسماحة الإسلام لتتجلى حتى في الموقف المهتاج الذي تطمئن فيه النفوسُ إلى الانتقام؛ فقد كانت الأمم تعامل أَسْراها معاملةَ العدو البغيض، فتقتلهم، أو تبيعهم، أو تسترقهم وتسخِّرهم في أشق الأعمال.
سماحة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع أسرى بدر وفتح مكة:
أما الرسول- صلى الله عليه وسلم - فقد عامَل الأَسرى معاملة حسنة، وهذا هو مع أَسرى "غزوة بدر"، وقد وزع الأسارى السبعين على أصحابه، وأمرهم أن يُحسنوا إليهم، فكانوا يفضلونهم على أنفسهم في طعامهم، ثم استشار أصحابه في شأنهم، فأشير عليه بقتلهم، وأشير عليه بفدائهم، فوافق على الفداء، وجعل فداء الذين يكتبون أن يعلِّمَ كلُّ واحد منهم عشَرةً من صبيان المدينة الكتابةَ[3].
وأشير عليه أن يمثل بـ: "سهيل بن عمرو" - أحد المحرضين على محاربة الإسلام والمسلمين - بأن ينزع ثنيتيه السفليتين، فلا يستطيع الخَطابة، فرفض النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: ((لا أمثِّل به؛ فيمثل الله بي وإن كنت نبيًّا))[4]، وكذلك أطلق أَسرى بني المصطلق[5].
• ولما فتح مكة قال لقريش: ((ماذا تظنون أني فاعل بكم؟))، قالوا: خيرًا، أخٌ كريم وابنُ أخٍ كريم، فقال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء، لا تثريبَ عليكم اليوم، يغفر الله لي ولكم))[6].
ومنع المسلمين في غزوة خيبر - بلد اليهود الذين نكثوا عهدهم مع المسلمين، وحرَّضوا العرب على غزوهم، وانضموا إليهم - من أن يدخلوا بيتًا من بيوت اليهود إلا بإذنه، ومن أن يضربوا نساءَ اليهود، أو يعتدوا على ثمراتهم[7].
وكان - صلى الله عليه وسلم - يحضُرُ ولائمَ أهل الكتاب، ويَغْشَى مجالسهم، ويواسيهم في مصائبهم، ويعاملهم بكل أنواع المعاملات التي يتبادلها المجتمعون في جماعة يحكمها قانون واحد، وتشغل مكانًا مشتركًا؛ فقد كان يقترض منهم نقودًا، ويرهنهم متاعًا، ولم يكن ذلك عجزًا من أصحابه عن إقراضه، فإن بعضهم كان ثَريًّا، وكلهم يتلهف على أن يقرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل كان يفعل ذلك تعليمًا للأمة، وتثبيتًا عمليًّا لِما يدعو إليه من سلام ووئام، وتدليلاً على أن الإسلام لا يقطع عَلاقات المسلمين مع مواطنيهم من غير دينهم[8].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|