الكلمة وطوق النجاة
(للنفوس التي أرهقها الحدثان).
"النجاة من الكرب العظيم":
نبي الله نوح كان لديه أهل، وكان له ذرية، ابن عاق واحد اشتهر، ونُسي الباقون مع أن منهم أجدادنا!
الشهرة ليست دائمًا جيدة.
وفي سورة الأنبياء ذكر نوح عليه السلام بآيتين فقط (76 - 77)، مع أنها سورة الأنبياء، وباسمهم، وهو - عليه السلام - أبو الأنبياء؛ قال تعالى: ﴿ وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الأنبياء: 76، 77]:
ولكن لأول مرة - على كثرة ما تلوتها وسمعتها - أدهشني أمر، هو أنه سبحانه سمى ما كان فيه نوح عليه السلام بـ: "الكرب العظيم"، مع أنه لم يتعرَّض هو وأتباعه للتعذيب والهجر والتقتيل! جاهدهم بالكلمة، وناصبوه العداء بالجدل العقيم والتكذيب، والمكر والتهديد.
أواه، بلى، هو كرب عظيم، سبحانك ربي.
تخيل نفسك تدعو قومًا، بل قومك، ألف سنة إلا خمسين عامًا، تسعمائة وخمسين سنة!
تخيل، أنت إذا ناقشت أحدهم تسع دقائق حنقت أنه لم يبصر الحق الذي هو كالشمس، ولو تابعت ندوة لتسعين دقيقة قلب الحق فيها باطلًا، أو شاركت في دورة لتسعة أسابيع بل تسعة أيام للدعوة للحق دون تجاوب يذكر، لبلغ انزعاجك الذروة، ستقول لي: هذا نبي، ولكن كم بلغ جهدك مقارنة بالنبي في الدعوة إلى الله تعالى ﴿ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ﴾ [العنكبوت: 14]؟!
وأضف للجدل العقيم والتكذيب قبح الاستهزاء[1]، وخسة المكر: ﴿ وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ﴾ [نوح: 22]، ومرارة الزجر والسب؛ قال تعالى: ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ﴾ [القمر: 9]، (قال المفسرون: زُجِر عن تبليغ رسالته بالسب وغيره).
هو حقًّا كرب عظيم، مع أنه اقتصر على الجهاد بالكلمة!
لذلك كان الخروج منه باللفظ القرآني نجاة بفضل الله تعالى مباشرة: ﴿ فَنَجَّيْنَاهُ ﴾ [الأنبياء: 76]!
ولذلك كان نوحٌ من أولي العزم من الرسل عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم[2].
ولذلك عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا ﴾ [القمر: 9] نشعر بفيض رباني عجيب من الرحمة في كلمة "عبدنا"، هو فيض جمع رفقًا إلى قوة، ومنعة إلى حنان، ولطفًا إلى تمكين، سبحان الله!
الكلمة التي تثمر:
ذلك ملمح من قصة نوح - عليه السلام - مع قومه:
• يعلمنا تنويع الأدوات - ما استطعنا - في الدعوة إلى الله تعالى بالكلمة؛ فنوحٌ بعد أن بسط لقومه دعوته لعبادة الله وحده بشَّرهم، وأنذرهم، وخاطب عقولهم، وكذلك قلوبهم، وكلمهم سرًّا وعلانية، وطرق فيهم ملكة التفكر والتدبر بعلوم تدعو للإيمان؛ كعلم الفلك، وعلم الجنين: ﴿ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴾ [نوح: 13، 14]، بل ودلَّهم على أسرار الربح والخسارة في الدنيا قبل الآخرة: ﴿ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10 - 12].
• ويعلمنا الصبر على طول المدة، ونحن قوم نستعجل، لا سيما أن جهاد الكلمة لا يمكن أن يكون "حربا خاطفة" إذا شئتَ له أن يثمر؛ قال تعالى للحبيب بعد أن روى قصة أخيه نوح: ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [هود: 49]، ﴿ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ﴾ [العنكبوت: 14] كان نوح طوالها في قمة الصبر على مكرهم وإضلالهم للناس (فوق الصد والتكذيب)، أحرز خلالها رصيدًا من الطاعة والجهاد في الدعوة، تجعلك تفهم بأي ثقة وأي يقين نادى ربه: ﴿ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ﴾ [القمر: 10]، ثم استحقَّ هو ومن معه العاقبة في الجنة أن كانوا الأوائل في زمرة المتقين، واستحقوا إغراق "قوم السوء" أجمعين؛ نصرة لهم.
كلمات تحيي، وأخرى تقتل:
سبحان الله! انظر كيف أن كلمات نوح في الدعوة إلى الله أحيَت مَن اتبعوه، ونجوا في السفينة، وكلمات الذين حاربوه بها تكذيبًا وسخرية وزجرًا ومكرًا - وهم الأكثرية - قتلتهم غرقًا بعد ألف إلا خمسين عامًا من الاستكبار عن الحق، وكأن التاريخ يعيد نفسه، وتتوالى أجيال تحارب شرعة الديان، والسائرين على صراطه المستقيم بالكلمة وغير الكلمة، وهم يحدثون ويطوعون جيشًا من الأدوات يتبع "سلاح الكلمة"، ويعتمد الخداع البصري والعاطفي في تجييش المشاعر، وحرف الأفكار في عصر العولمة والميديا!
يقول ابن كثير: "فإنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله عز وجل، فلم يؤمن به منهم إلا القليل، وكانوا يقصدون لأذاه ويتواصَوْن قرنًا بعد قرن، وجيلاً بعد جيل على خلافه".
ولكن انتظر؛ فلهذا المشهد (الملمح) من القصة بقية، تزيدك تعجبًا، فلقد استمر ذلك التواصي المشين إصرارًا واستكبارًا.
الجحود الوقح:
هذا حديث نبوي يدعو للتأمل، يوضح إلى أي حد يمكن أن يصل الجحود بالإنسان! هو حديث يبين فظاعة قوم نوح - عليه السلام - وعِظَم صبره عليهم قبل أن يدعو عليهم؛ عن أبي سعيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يجيء نوحٌ وأمته فيقول الله تعالى: هل بلغت؟ فيقول: نعم أيْ ربِّ، فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا من نبي (!!)، فيقول لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمدٌ صلى الله عليه وسلم وأمته، فنشهد أن قد بلغ، وهو قوله جل ذِكره: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ [البقرة: 143]، والوسَط: العدل))؛ رواه البخاري[3].
يا إلهي، أعلى ربِّ العالَمين يكذبون؟ وبين يدي الساعة؟!
وجدت نفسي أقول: بلى، نشهد - يا أبا الأنبياء عليك السلام - أنك بلَّغتهم، وأنوفهم راغمة، سبحان الله! ما أسوأهم من قوم! وما أشدها دعوة النبي على قومه: ﴿ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ﴾ [نوح: 26، 27].
والحمد لله الذي أغرقهم بالطوفان فلم يبقِ منهم ديارًا، لتنقرض مورثات هذا التشويه السلوكي والفكري اللاأخلاقي، إلا أن تكون طفرة، ونجد حولنا بشرًا نُسَخًا من قوم نوح، يستحقون تلك الدعوة المشهودة: اللهم عليك بكل مجرم كفار، وأرِنا فيهم عجائبَ قدرتك!.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|