الطيب من القول والعمل
الحمد لله الكريم الفتاح، أهل الكرم والسماح، المجزل لمن عامله بالأرباح، سبحانه فالق الإصباح وخالق الأرواح، أحمده سبحانه على نعمٍ تتجدد بالغدو والرواح، وأشكره على ما صرف من المكروه وأزاح، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً بها للقلب انفساح وانشراح، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الذي أرسل بالهدى والصلاح، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ما بدا نجم ولاح، أما بعد:
فيقول الله تعالى: ﴿ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 100].
عبد الله، اسمع إلى كلام العزيز الحميد الذي بيَّن لنا أنه لا يستوي عنده الخبيث والطيب، فالطيب في أعلى الدرجات، والخبيث في أسفل الدَّركات، والله جعَل الدنيا دار ابتلاء وامتحان، لماذا؟ ليَميز الخبيثَ من الطيب.
والله تعالى طيب يُحبُّ الطيب من القول، ويُحب الطيب من العمل، ويضاعفه لأصحابه.
الله جل وعلا يحب الطيبين من الناس، ويرفع الطيّبَ من العمل والقول ويبارك لأصحابه فيه.
أيها المسلمون، الله أمرنا أن نكون طيبين في أقوالنا وأعمالنا وذواتنا وأموالنا، ونهانا أن نكون من الخبيثين في أقوالنا وأعمالنا وأموالنا وذواتنا، فانظروا وتأمَّلوا هل يستوي من طاب لسانه وطاب قوله، فلا يقول إلا طيبًا، ولا ينطق إلا خيرًا، إذا حضرتَ مجلسَه وجدتَه طيَّبًا مطيَّبًا بذكر الله والصلاة والسلام على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هل يستوي هذا مع ذلك الرجل الذي إذا تكلم، تكلم بغيبة ونميمة وتفريق بين الناس؟!
وصدق الله القائل: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [إبراهيم: 24-25].
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: «شبَّه الله تعالى الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة؛ لأن الكلمة الطيبة تُثمر العمل الصالح، والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع».
وجمهور المفسرين يقولون الكلمة الطيبة هي شهادة أن لا إله إلا الله, فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة.
عباد الله: الكلمة الطيبة قد تهدي إنسانًا، الكلمة الطيبة قد تُغيِّر مجتمعًا. والكلمة الطيبة قد يُنقذ الله بها قلوبًا أو يعمر بها نفوسًا، بل قد يحيي بها الله أقوامًا من السبات.
عباد الله، الكلمة الطيبة كحبة القمح المفردة قد تُهمل وتذهب أدراج الرياح، وقد تكون مباركة فتنبت وتثمر، وقد تكون الثمرة خصبة تتضاعف وتتضاعف.
الكلمة الطيبة كلمة الحق كالشجرة الطيبة ثابتة سامقة مثمرة لا تزعزعها الأعاصير، ولا تعصف بها رياح الباطل.
والكلمة الخبيثة كلمة الباطل كالشجرة الخبيثة قد تتعالى وتتشابك، ويخيَّل إلى البعض أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى، ولكنها تظل ضعيفةً، وما هي إلا فترة ثم تجتث من فوق الأرض فلا قرار لها ولا بقاء.
عباد الله، هل يستوي المؤمن طيبُ الأعمال الذي إذا رأيتَه رأيتَ عمله طيبًا، عملَه حسنًا، عملًا يحبه الناس ويحبه الله، يؤدي فرائض الله، طيبًا في أعماله، راعيًا لأمانته في وظيفته، هل يستوي هذا مع ذلك الذي خبث عمله وفعله؟ فتراه يغش ويظلم ولا يراعي أمانة الله، متقهقرًا في الصلوات، إذا استُرعي على مالٍ أكله، وإذا استُعمل على وظيفة ارتشى وغشَّ وخان.
أيها المؤمنون، هل يستوي المال الطيب والمال الخبيث؟! فالطيب من المال وإن قل فمآله إلى بركة، مآله إلى خير، وصاحب المال الحلال تُستجاب دعوته، ويبارك الله في أهله وأولاده، لا يستوي هذا مع صاحب المال الخبيث ولو كان الحرام قليلًا، فهو داءٌ وسُمٌّ زعاف، صاحب المال الحرام من أي مصدر كان؛ من رشوة أو ربا، أو غش أو خيانة لأموال المسلمين، فهو مالٌ خبيث، وبالٌ على صاحبه في الدنيا والآخرة.
عباد الله، أهل الإيمان معدنهم أفضل المعادن، فهم كالذهب وأصفى وأطيب؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾ [البينة: 7].
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن مثَل المؤمن كمثَل القطعة من الذهب، ينفخ فيها صاحبها فلم تتغير، والذي نفس محمد بيده، إن المؤمن كمثل النخلة أكلت طيبًا ووضعت طيبًا»؛ [السلسلة الصحيحة عن عبدالله بن عمرو بن العاص: «2288»].
وقال صلى الله عليه وسلم: «مثَل المؤمن كمثَل النخلة ما أخذتَ منها من شيء نفع»؛ [السلسلة الصحيحة للألباني: «2285»].
النخلة تُثمر بلحًا رطبًا، والمؤمن أينما حلَّ نفع، كالغيث والنخلة أغصانها وجذوعها وجريدها يُفيد البلادَ والعباد، والمؤمن كله خير؛ كلامه وماله وحركته.
النخلة تُرمَى بالحجر وترد بأطيب الثمر، وهكذا المؤمن يدفع الإساءةَ بالإحسان، النخلة أصلها ثابت لا يتزعزع، والمؤمن ثابت لا تغيِّره شهوة ولا شبهة ولا غيرها، فهو ثابت على دينه وتقواه.
النخلة فرعها في السماء، والمؤمن لا يأخذ زاده وغذاءه إلا من خالق السماء.
قال صلى الله عليه وسلم: «إن خير عباد الله: الموفون الطيبون، أولئك خيار عباد الله»؛ [السلسلة الصحيحة: «2677»].
معيشة المؤمن طيبة، ورزقه طيب، وحياته طيبة؛ ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70]، وقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222].
أسال جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من أهل الإيمان والتقوى بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم إنه تعالى جوادٌ كريم.
الخُطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيٍء عليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وبعد.
عباد الله، اعلموا أن الحياة الطيبة لا تكون إلا بالأعمال الصالحة والإيمان؛ قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].
عباد الله، الإيمان مع العمل الصالح جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض، ولا يهم أن تكون الحياة ناعمة بالمال، وفي الحياة أشياء أخرى غير المال تطيب بها الحياة، فالحياة الطيبة هي الحياة التي تمتلئ بالاتصال بالله والثقة به والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه.
الحياة الطيبة هي التي فيها الرضا بما قسم الله، والعيش على الذكر والقرآن، اللهم أحينا حياةً طيبة يا رب العالمين.
عباد الله، وفي الحياة الزوجية الطيبات للطيبين، قال جل وعلا: ﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [النور: 26].
والمؤمن ذريَّته طيبة مباركة؛ قال تعالى على لسان زكريا عليه السلام: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [آل عمران: 38].
فأنت - يا عبد الله - طيب، تزوجتَ طيبة، يعطيك الله ذريَّة طيبة، والمؤمن إن أنفق وأخرج من ماله، أنفَق من الطيبات؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ﴾ [البقرة: 267].
عباد الله، الجود لا بد أن يكون من أفضل الموجود، ولا يكون بالرديء الذي يعافه صاحبه، فالله أغنى عن تقبل الرديء الخبيث؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 267]، وقال تعالى: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92].
أيها المسلمون، والمؤمن رحلته طيبة إلى الله، فإذا مات جاءته ملائكة بيض الوجوه يقولون: «اخرجي - أيتها النفس الطيبة - إلى روح وريحان ورب راض غير غضبان»؛ قال: ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 32]. تتوفاهم الملائكة طيبة نفوسهم بلقاء الله، فهم بعيدون عن الكرب وعذاب الموت، يقولون: سلامٌ عليكم طمأنةً لقلوبهم وترحيبًا بقدومهم، ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون تعجيلًا لهم بالبشرى، وهم على أعتاب الآخرة جزاءً وفاقًا على ما كانوا يعملون.
والمؤمن في قبره يأتيه رجل طيب الرائحة طيب الملبس، جميل الصورة، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح، أنا عملك الطيب، فيفتح له نافذة إلى الجنة، ويوسِّع له في قبره، وفي الجنة تستقبل الملائكة المؤمنين؛ قال: ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ [الزمر: 73]. فهو الاستقبال الطيب والثناء المستحب لماذا؟ لأنكم طبتم وتطهَّرتم كنتم طيبين وجئتم طيبين.
فيا أيها المؤمن، عنوان السعادة والصلاح في الدين والدنيا والآخرة الإيمانُ الصحيح، فالمؤمن الحق لا يأتي إلا طيبًا، ولا يصدر منه إلا طيب، بدنه طيب، وخلُقُه طيب، مدخله طيب، ومخرجه طيب.
وأخيرًا، أسأل الله بأسمائه الحسنى أن يجعلني وإياكم من الذين طابت أقوالهم وأعمالهم ونفوسهم، وأسأل الله أن يَجعلنا وذريَّاتنا من الطيبين المطيبين، هذا وصلوا وسلموا على المصطفى محمد صلى الله عليه وعلى آله، فمن صلى عليه صلاةً صلى الله عليه بها عشرًا.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|