تفسير قوله تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾
قوله تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152]
امتن الله عز وجل على المؤمنين ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم فيهم يتلو عليهم آياته يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون، وهذه أصول النعم كلها وأهمها، ثم فرّع على ذلك أمرهم بذكره وشكره على هذه النعم.
قوله: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي ﴾ قرأ ابن كثير بفتح الياء: ﴿ فَاذْكُرُونِي ﴾، وقرأ الباقون: ﴿ فَاذْكُرُونِي ﴾ بإسكان الياء.
والفاء للتفريع، أي: فاذكروني واشكروني مقابل نعمي عليكم أي: فاذكروني بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم، فذكر الله بالقلب عدم نسيانه، وأن يكون القلب حاضراً غير غافل عند أداء العبادات القولية والفعلية، كما قال تعالى:
﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].
وذكر الله باللسان بالنطق بالذكر من قراءة القرآن وأنواع الذكر وكل قول يقرب إلى الله تعالى.
وذكر الله بالجوارح والأعضاء بكل فعل يقرب لله تعالى من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج والجهاد في سبيل الله، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ [العنكبوت: 45].
وذِكْرُ الله من حيث الإجمال واجب، أما من حيث التفصيل فمنه ما هو واجب، ومنه ما هو مندوب، وفي الحديث: "ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم"[1].
ومعنى "ترة" أي: حسرة وندامة.
﴿ أَذْكُرْكُمْ ﴾ جواب الأمر، أي: أذكركم وأثيبكم، بمغفرتي ورحمتي وذكري لكم، كما قال تعالى في الحديث القدسي: "أنا مع عبدي حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم"[2].
وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده"[3].
﴿ وَاشْكُرُوا لِي ﴾ معطوف على قوله: ﴿ فَاذْكُرُونِي ﴾ أشبه بعطف العام على الخاص؛ لأن الذكر هو رأس الشكر، فأمر بالذكر خصوصاً، ثم من بعده أمر بالشكر عموماً.
و"اللام" في قوله (لي) للاختصاص، أي: اشكروا لي وحدي على ما أعطيتكم من النعم، وما دفعت عنكم من النقم، والشكر: القيام بطاعة المنعم، ويكون بالقلب واللسان والجوارح، كما قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة
يدي ولساني والضمير المحجبا [4]
أي: واشكروني وحدي على ما أنعمت به عليكم بالاعتراف باطناً بقلوبكم بأن هذه النعم مني، والتحدث والثناء بها ظاهراً بألسنتكم، كما قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ [الضحى: 11]. وباستعمال الجوارح بطاعة الله تعالى شكراً له عليها.
وهو قيد للنعمة الموجودة، وصيد للنعمة المفقودة، أي: بقاء للموجود وزيادة من المفقود.
﴿ وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ الجملة معطوفة على جملة ﴿ وَاشْكُرُوا لِي ﴾ مؤكدة لها.
و"لا": ناهية، والفعل "تكفرون" مجزوم بحذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة والنون المذكورة نون الوقاية، وحذفت منه ياء المتكلم تخفيفاً لتناسب الفواصل.
والكفر: الجحود وهو ضد الشكر، أي: ولا تكفروني، ولا تجحدوا نعمتي في حال من الأحوال وفي وقت من الأوقات، بل داوموا على ذكري وشكري وشكر نعمتي.
وكفر النعمة مراتب أشدها جحودها وإنكارها، ونسبتها إلى غير مسديها، ثم قصد إخفائها، ثم السكوت عن شكرها، وقد قال عز وجل: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].
المصدر: « عون الرحمن في تفسير القرآن »
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|