الخطبة الأولى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، عبده المُصطفى ونبيه المُجتبى، فالعبد لا يُعبد، كما الرسول لا يُكذَّب، فاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّم عَلَيْهِ وعَلَىٰ آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ سَارَ عَلَىٰ نَهْجِهِم، وَاقْتَفَى أَثَرَهُم، وأحبَّهم وذَبَّ عنهم إِلَىٰ يَومِ الدِّيْنِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيْمًا كَثِيْرًا؛
أَمَّا بَعْدُ:-
عباد الله! فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله حق التَّقْوَى، واستمسكوا بدينك الإسلام بعروته الوثقى، فإنَّ أجسادنا عَلَىٰ النَّار لا تقوى، ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا المؤمنون! ثبت في الصحيحين [1] من حديث أنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "بينما كان النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب الجمعة، إذْ دخل أعرابيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ" أي: قاطع النَّبِيّ وهو يخطب، لأمرٍ حاجيٍّ ذي شأن، "فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هلك المال، وجاع العيال، وانقطعت السبل، فادعُ الله أن يغيثنا"، قَالَ أنسٌ: "فرفع النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يديه واستسقى ربه"، أي: دعا ربه أن ينزل المطر والسقيا، "فوالله ما في السماء من قزعة، حَتَّى ظهرت سحابةٌ من وراء سلع" أقرب الجبال إِلَىٰ مسجده عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، "فتوسطت فانتشرت، فمُطرنا سبتًا" لم يروا فيها الشَّمْس ما بين مطرٍ وديم، "حَتَّى جاءت الجمعة الأخرى، وبينهما هو صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب إذْ دخل ذلك الأعرابي أو غيره، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هلك المال، وانقطعت السبل"، ولم يقل: جاع العيال، "فادعُ الله أن يُمسِك عنَّا، فتبسَّم صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، أتدرون لِمَ؟
لأنَّ العِباد قريبٌ قنوطهم وسريعٌ تغيير حالهم، وفي الحديث يقول صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ الله يعجب إِلَى قنوط عباده وقُرْب غِيَره»، في الجمعة الَّتِي قبلها: «أزلين قنطين»، وفي هٰذِه الجمعة طلب فيها أن يُمسك الله عنَّا، ولم يجبه صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَىٰ طلبته، كما أجابه في الجمعة الَّتِي مضت إِلَىٰ طلبته، بل قَالَ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَابِ، وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ»، "وأصبح يشير بإصبعه للسحاب هٰاهُنا وَهٰاهُنا"، قَالَ أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "فخرجنا نمشي في الشَّمْس".
هٰذَا حديثٌ عظيمٌ يدلُّ عَلَىٰ آيةٍ من آيات النُّبُوَّة في تأييد الله عَزَّ وَجَلَّ لنبيه صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيه حثٌّ لكم أَيُّهَا المؤمنون الَّذِينَ لا عيش لكم إِلَّا بهذا المطر، لا عيش لأبدانكم ولا لبهائمكم إِلَّا بهذا المطر، أن تفزعوا إِلَىٰ الله جَلَّ وَعَلَا استسقاءً وسؤالًا وحالًا، وعرض حوائجكم وحُسْن ظنكم بربكم، وكمال ثقتكم به، وَهٰذِه يا عباد الله! إحدى صور الاستسقاء.
ومن صوره -الصورة الثانية-: أنه يُصلي النَّاس صلاة الاستسقاء كصلاة العيد، ثُمَّ يدعون ربهم جَلَّ وَعَلَا، ويزيدون ذلك بأن يستقبلوا القبلة، فيرفعوا أيديهم إِلَىٰ الله بالضراعة، ثُمَّ يقلِّب أرديتهم تفاؤلًا بأنَّ الله جَلَّ وَعَلَا يقلِّب حالهم من حالٍ إِلَىٰ حال، وقد صلَّاها صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته، وصلاها الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بعد موته.
ففي صحيح البخاري [2] وغيره: أنه في عام الرَّمادة، وهي السنة السابعة عشرة من الهجرة أضحت طرقات المدينة وسككها كالرماد، من الجدب وقلة المطر، شكا ذلك النَّاس إِلَىٰ عمر، فواعدهم يومًا فخرجوا يستسقون، فَقَالَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في كلامه: "اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نستسقيك بنبينا" أي: بدعائه في حياته، "كُنَّا نستسقيك بنبينا فتسقينا، وإنَّا نستسقيك بعمِّ نَبِيِّنَا، قُم يا عبَّاس! فادعُ الله لنا، فقام العباس بن عبد المطلب رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَىٰ عَنْهُ وعن الصَّحَابَة، فرفع يديه فاستسقى، فما غادرا مُصلَّاهم إِلَّا والمطر ينهمر عليهم"، سألوا ربهم بحسن ظنٍّ به سُبْحَانَهُ، وحُسْن رجائه، وتوكل عليه، فعاجلهم ربي جَلَّ وَعَلَا بالإجابة، ونحن ندعو ربنا جَلَّ وَعَلَا وقد يتأخر هٰذه الإجابة، تتأخر إجابة لمطر؛ لما في قلوبنا من الضعف في حُسن الظَّنّ بالله، ومن ضعف الثقة به، ومن كونها عادةً ليس فيه تعلُّق أنياط القلب به.
ومن ذلكم يا عباد الله! أن من النَّاس من يبخل بزكاة ماله، وقد قَالَ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وما منع قومٌ زكاة أموالهم إِلَّا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا» [3].
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: ﴿
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [الشورى: 28].
نفعني الله وَإِيَّاكُمْ بالقرآن العظيم، وما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه كان غفَّارًا.
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلَىٰ إحسانه، والشكر له عَلَىٰ توفيقه وامتنانه، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إعظامًا لشانه، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الدَّاعي إِلَىٰ رضوانه، صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وعَلَىٰ آلِهِ وَأَصْحَابِهِ ومن سلف من إخوانه، وسَارَ عَلَىٰ نَهْجِهِم، وَاقْتَفَى أَثَرَهُم إِلَىٰ يوم رضوانه، وَسَلَّمَ تَسْلِيْمًا كَثِيْرًا؛
أَمَّا بَعْدُ:-
عباد الله! من صور استسقائه صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَهٰذِه الصورة الثالثة-: "أنه كان جالسًا مع أصحابه، فذكروا قلَّة نزول المطر، وكان جالسًا عَلَى منبره، فرفع يديه صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو قاعدٌ عَلَى منبره، ورفع النَّاس أيديهم، فاستسقوا ربهم، ودعوه وسألوه"؛ وَهٰذَا لا يرتبط بزمانٍ ولا بمكانٍ، ولا بإذنٍ لولي الأمر، أهل البوادي في بواديهم، وأهل المجالس في مجالسهم، وهم راكبون أَيْضًا عَلَىٰ سياراتهم، وفي مجامعهم، يسألون الله جَلَّ وَعَلَا أن يغيثهم؛ لأنَّ المغيث هو الله، والمنزِل للمطر هو الله.
ثُمَّ اعلموا عباد الله! أنه يقع عند النَّاس في هٰذَا الصدد أغلاطٌ عظيمة:
ومن ذلك: اعتقادهم أن نزول المطر هو بسبب المخفض الجوي الفلاني، أو بسبب الريح الفلانية، ولا ينسبون نزول المطر إِلَىٰ الله جَلَّ وَعَلَا.
ومنهم من ينسبه إِلَىٰ نجمٍ من النُّجُوم، أو كوكبٍ من الكواكب، أو فصلٍ من الفصول، وينسون أن الَّذِي أنعم وينعم بإنزال المطر ويولي به، ويستحق عليه الحمد هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ.
ومن أغلاط النَّاس في هٰذَا الباب يا عباد الله: ما ينتشر بين البوادي إذا نزل المطر سألوا عن كثرته، أبلغ كفًّا، أو بلغ رسغًا، أو بلغ إِلَىٰ كوعٍ أو كرسوع، أو أنه توسَّد هٰذَا الثرى توسُّدًا، وغاب عنهم وعن غيرهم قول النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس السنة ألَّا تُمطروا، ولكن السنة أن تُمطروا ثُمَّ تُمطروا، ولا تُنبت الأرض شيئًا» [4]، فَالعِبْرَة عباد الله بالبركة بالمطر، لا بكثرته ولا بفيضانه.
ثُمَّ اعلموا عباد الله! أنَّ أصدق الحديث كلام الله، وَخِيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثة بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وعليكم عباد الله بالجماعة؛ فإنَّ يد الله عَلَىٰ الجماعة، ومن شذَّ؛ شذَّ في النَّار، ولا يأكل الذئب إِلَّا من الغنم القاصية.
اللَّهُمَّ أنت الله لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللَّهُمَّ أغثنا، اللَّهُمَّ أغثنا، اللَّهُمَّ غيثًا مغيثًا، هنيئًا مريئًا، سحًّا طبقًا مجللًّا، اللَّهُمَّ سُقيا رحمة لا سُقيا عذابٍ، ولا هدمٍ، ولا غرقٍ، ولا نَصَبٍ، اللَّهُمَّ أغث بلادنا بالأمن والأمطار والخيرات، وأغِث قلوبنا بمخافتك وتعظيمك وتوحيدك يا ذا الجلال والإكرام، اللَّهُمَّ إنك ترى ما بنا من الحاجة واللأواء، اللَّهُمَّ ارحمنا برحمتك الَّتِي وسعت كل شيء، اللَّهُمَّ ارحمنا برحمتك الَّتِي وسعت كل شيء، اللَّهُمَّ لا تردنا من دعائك خائبين، ولا عن بابك مطرودين، اللَّهُمَّ عزًّا تعزُّ به الإسلام وأهله، وذِلًّا تُذِلُّ به الكفر وَالشِّرْك وأهله يا ذا الجلال والإكرام، اللَّهُمَّ أبرِم لهٰذِه الأُمَّة أمرًا رشدًا، يُعزُّ فيه أهل طاعتك، ويُذَلُّ فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر يا ذا الجلال والإكرام، اللَّهُمَّ آمنَّا والمسلمين في أوطاننا، اللَّهُمَّ أصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، اللَّهُمَّ اجعل ولاياتنا والمسلمين فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللَّهُمَّ كُن لجنودنا المرابطين عَلَىٰ حدودنا، الساهرين عَلَىٰ أمننا، كُن لنا ولهم وليًّا ونصيرًا وظهيرًا يا ذا الجلال والإكرام، اللَّهُمَّ من ضارَّنا أو ضارّ المسلمين فضره، ومن مكر بنا أو بعبادك المؤمنين فامكر به يا خير الماكرين، اللَّهُمَّ اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات يا ذا الجلال والإكرام.
سُبْحَانَ رَبِّك رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ.
والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ