الرسول صلى الله عليه وسلم ومراعاة مشاعر الناس
يهدف الإسلام إلى إسعاد الناس وصلاحهم؛ لذا وضع كثيرًا من المبادئ والأسس لصون المشاعر ومراعاة الأحاسيس؛ لأن هذا يزيد الوُدَّ بين الناس.
رأيت مُعلِّمًا ينادي أحدَ طلابه قائلاً: "أَقبِل يا أعمى"، ويجرح مشاعرَه بذلك، وشخصًا يرى مريضًا فيقول: "الحمد لله الذي عافاني من هذا البلاء"، ولا يراعي أن يقولها في سرِّه كي لا يجرح مشاعرَ المريض، وقد دعا الإسلام إلى الكلمة الطيبة؛ فيقول تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في حواره مع الكفار: ﴿ قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [سبأ: 25]؛ فلم يقل: لا تُسألون عما عمِلنا، ولا نسأل عما تُجرِمون، ويقول - جل شأنه -: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83]، ويقول أيضًا: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [الإسراء: 53].
راعى الإسلامُ عدم جَرْح مشاعر المخطئ؛ فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بال أعرابيٌّ في المسجد، فقام الناس إليه ليَقَعوا فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعوه وأريقوا على بوله سَجلاً من ماء))، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بترك هذا الأعرابي الجاهل حتى ينتهي من بوله، فلما انتهى أمَر أن يُراق على بوله سَجلٌ من ماء، فزالت المفسدة، ثم دعا الرسول صلى الله عليه وسلم الأعرابيَّ، فقال: ((إن هذه المساجد لا يَصلُح فيها شيء من الأذى أو القَذَر، إنما هي للصلاة وقراءة القرآن))، وروى معاوية بن الحَكَم السلمي: "بَيْنا أنا أُصلِّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطَس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القومُ بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه، ما شأنُكم تَنظُرون إليَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُصمِّتونني لكنِّي سكتُّ، فلما صلى عليه الصلاة والسلام فبأبي هو وأمي! ما رأيتُ مُعلِّمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه! فوالله ما كَهَرني ولا ضربني ولا شتمني، وإنما قال: ((إن هذه الصلاة لا يَصِح فيهما شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن))؛ رواه مسلم.
ألزمنا الإسلامُ بالاستئذان قبل دخول الأماكن الخاصة؛ فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 28]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا استأذن أحدكم ثلاثًا، فلم يُؤذَن له، فليرجِع))؛ متفق عليه، فمَن استأذن على الناس ثلاثًا، ولم يؤذن له فليرجع ولا يُصِر على الدخول؛ كي لا يؤذي مشاعرَ الناس، وإذا كان الباب مفتوحًا، فليقفِ الضيف على أحد جانبي الباب ويستأذن؛ فقد كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا أتى بابَ قومٍ لم يستقبل البابَ من تلقاءِ وجهِه، ولكن من ركنِه الأيمنِ أو الأيسرِ، ويقول: ((السلامُ عليكم السلام عليكم))، وذلك أن الدُّورَ لم يكن عليها يومئذٍ ستور؛ "صحيح أبي داود 5186"، وعندما يفتح باب البيت يجب ألا ينظر الضيف إلى ما داخل البيت، وإنما ينظر إلى مَن فتَح له الباب؛ فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل البصر فلا إِذْن))؛ صحيح، مسند أحمد 16 / 319.
نهى الإسلامُ عن سبِّ الأموات؛ لأن في سِبابهم إيذاءً لمشاعر الأحياء، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تَسُبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدَّموا))؛ رواه البخاري.
راعى الرسول صلى الله عليه وسلم شعورَ الناس في الصلاة؛ فعن عثمانَ بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أُمَّ قومَك، ومَن أَمَّ قومًا فليُخفِّف؛ فإن فيهم الكبير، وإن فيهم المريض، وإن فيهم الضعيف، وإن فيهم ذا الحاجة، فإذا صلَّى أحدُكمْ وحده فليُصلِّ كيف شاء))؛ "صحيح الجامع 1398".
كان النبي صلى الله عليه وسلم يُراعي شعورَ مَن أصيب بمصيبة، ويَجبُر خاطرَه ما لم يكن ذلك مُحرَّمًا؛ فعن ابن عمر قال: "لما تُوفِّي عبدالله بن أُبَي ابن سلولَ جاء ابنه عبدالله بن عبدالله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يُعطيه قميصَه يُكفِّن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُصلِّي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تُصلِّي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما خيَّرني الله فقال: ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً ﴾ [التوبة: 80]، وسأزيده على السبعين))، قال: إنه منافق، فصلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ﴾ [التوبة: 84]، فترك الصلاةَ عليهم"؛ رواه البخاري.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يُراعي السائلين، ولا يجرحهم، وإن كان السائل لا يَستحِق المال ردَّه النبي صلى الله عليه وسلم ردًّا جميلاً بكلمة طيبة ولم يَجرحه؛ فعن عبيدالله بن عدي بن الخيار قال: أخبرني رجلان أنهما أتيا النبيَّ صلى الله عليه وسلم في حَجَّة الوداع وهو يقسم الصدقة، فسألاه منها، فرفع فينا البصرَ وخفضه، فرآنا جَلْدين، فقال: ((إن شئتما أعطيتُكما، ولا حظَّ فيها لغني، ولا لقوي مُكتَسِب))؛ صحيح، مسند أحمد 17511.
إذا أتاك شخص لمقابلتك وأنت مشغول أو لا تريد مقابلته، فرُدَّه بقول جميل ولا تُعنِّفه؛ فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يدخل الجنةَ من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب))، قالوا: ومَن هم يا رسول الله؟ قال: ((هم الذين لا يكتوون، ولا يستَرْقون، وعلى ربهم يتوكَّلون))، فقام عكَّاشة فقال: ادعُ الله أن يجعلَني منهم، قال: ((أنتَ منهم))، قال: فقام رجلٌ فقال: يا نبي الله، ادعُ اللهَ أن يجعلني منهم، قال: ((سبَقك بها عكاشة))؛ صحيح مسلم 218، وورد في كتاب "شرح النووي على صحيح مسلم" أنه قيل: إن الرجلَ الثاني لم يكن ممن يَستحِقون تلك المنزلة - بخلاف عكَّاشة - فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بكلام مُحتَمل، ولم يُصرِّح له بأنه ليس منهم.
أرى شخصًا يقرأ القرآن بصوت عالٍ في المسجد فيؤذي المصلين، وآخر يرفع صوتَ التلفاز في بيته فيؤذي جيرانه، وآخر يترك أطفاله يبكون ويُحدِثون ضوضاء فيؤذي جيرانه، وآخر يصلى في المسجد فيؤذي المصلين برائحة عرقه ورائحة الثوم الذي أكله، وآخر يُدخِّن في وسائل المواصلات فيؤذي الرُّكاب، وآخر يجلس بسعة ويُضيِّق على مجاوريه في المسجد ووسائل المواصلات دون مراعاة شعور الآخرين، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن كلكم مناجٍ ربه، فلا يؤذينَّ بعضكم بعضًا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة))؛ "صحيح الجامع 2639"، وقد يُبرِّر هؤلاء فِعْلهم بأن ما يفعلونه شيءٌ بسيطٌ، لكنا نَرُد عليه بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((مَن اقتطع حقَّ امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النارَ وحرَّم عليه الجنةَ))، فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله، قال: ((وإنْ قضيبًا من أراكٍ))؛ صحيح مسلم.
أرى شخصًا يَصطحِب أطفاله ويتركهم يعبثون فترات طويلة في منزل مَن يزوره فيؤذيه ويكون ضيفًا ثقيلاً، ويقول تعالى: ﴿ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ ﴾ [الأحزاب: 53].
وأرى شخصًا يمزح مُزاحًا ثقيلاً مع غيره بأن يُخيفه أو يخبئ متاعه مثلاً فيؤذيه بذلك، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((لا يأخذن أحدُكم متاعَ أخيه لاعبًا ولا جادًّا))؛ حسن، صحيح أبي داود 5003، ويقول أيضًا: ((لا تروعوا المسلمَ؛ فإن روعة المسلم ظلم عظيم. [ضعَّفه الألباني في ضعيف الجامع: 6211].
نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحديث بين اثنين إذا كان الحاضرون ثلاثة؛ مراعاة لشعور الثالث؛ فقال: ((إذا كانوا ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون الثالث))؛ صحيح البخاري (6288).
أرى أبًا يُردِّد على ولده أنه يَكُد ويشقى كثيرًا للإنفاق عليه، وأُمًّا تُردِّد على ولدها أنها تتعب كثيرًا في خدمته، فيتأذَّى الولد ويشعر بأنه ثقيل، وشخصًا يُردِّد على مَن ساعدهم فضلَه، وقد نهانا الإسلام عن المنِّ؛ فروي عن أبي ذَرٍّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة لا يُكلِّمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يُزكِّيهم، ولهم عذاب أليم))، قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مِرارٍ، قال أبو ذر: خابوا وخسِروا! مَن هم يا رسول الله؟ قال: ((المُسبِل والمنَّان والمُنفِّق سلعتَه بالحَلِف الكاذب))؛ رواه مسلم.
حين تجد شخصًا يحتاج شيئًا لكنه لا يستطيع أن يَطلبه، فراعِ شعورَه وأدِّ حاجتَه؛ يقول تعالى: ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ [البقرة: 148]، وروى أبو سعيد الخدري أنه بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجلٌ على راحلة له، قال: فجعل يَصرِف بصره يمينًا وشِمالاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن كان معه فضل ظَهْر، فليَعُد به على مَن لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد، فليَعُد به على مَن لا زاد له))، قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حقَّ لأحد منا في فضل؛ صحيح مسلم.
إذا قدَّم لك شخصٌ هدية فرفضتها لسبب شرعي، فبيِّن له سببَ الرفض بلطف؛ فقد أهدى أبو جهم للنبي صلى الله عليه وسلم خميصةً لها أعلام (ثوب به زينة)، فلما صلى فيها عليه الصلاة والسلام، نظر إلى أعلامها نظرةً، فلما انصرف قال: ((اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وأتوني بأنبِجانيَّة أبي جَهْم؛ فإنها ألهتني آنفًا عن صلاتي))؛ صحيح البخاري، فبيَّن عليه الصلاة والسلام سبب الردِّ.
يُبرِّر البعض كلمته الجارحة وفِعْله المؤذي بأنه لم يكن يعرف أن كلمته أو فِعْله هذا يجرح المشاعر، ولكن تبريره مردود؛ لأنه كي يكون الجهل سببًا للعفو لا بد ألا يكون هناك تقصير في التعلم؛ لأن الإسلام فرَض علينا التعلم للتمكن من عمارة الأرض فقال تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرَف الحقَّ فقضى به، ورجل عرف الحق فَجَار في الحُكْم؛ فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهلٍ؛ فهو في النار))؛ صحيح، الترمذي 1185.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|