أساليب المشركين في محاربة الدعوة (3)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نحمدك ربنا على ما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضل رسلك، وأنزلت علينا خير كتبك، وشرعت لنا أفضل شرائع دينك، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرِّضا، أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون، تحدَّثنا في الخطبة الماضية عن الأساليب التي انتهجها المشركون للصدِّ عن دعوة الحق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم،ومنها: محاولة التأثير على عمِّه أبي طالب والتهديد بمنازلته في حرب بين الطرفين، والتشويش على الدعوة، والسخرية والاستهزاء والضحك والغمز واللمز والتعالي على المؤمنين، ولا يزال حديثُنا مستمرًّا عن بعض تلكم الأساليب في خطبتنا اليوم[1].
عباد الله، من الأساليب الأخرى للمشركين في محاربة الدعوة نذكر ما يلي:
الأسلوب السابع: المساومات والمفاوضات:
وممَّا يوضِّح هذا الأمر ما أورده ابن هشام في سيرته: "أن عتبة بن ربيعة، وكان سيِّدًا، قال يومًا وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا؛ لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون، فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلِّمْه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة (أي: الشرف) في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرَّقت به جماعتهم، وسفَّهْتَ به أحلامهم، وعِبْتَ به آلهتهم ودينهم، وكفَّرْت به مَن مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها؛ لعلك تقبل منها بعضها، قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قل يا أبا الوليد، أسمع))، قال: يا بن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد به شرفًا سوَّدْناك علينا، حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به مُلْكًا ملَّكْناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيًّا (ما يتراءى للإنسان من الجن) تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نُبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع (من يتبع الناس من الجن) على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له. حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال: ((أقد فرغت يا أبا الوليد؟))، قال: نعم، قال: ((فاسمع مني))، قال: أفعل، فقال: ((﴿ بسم الله الرحمن الرحيم * حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ﴾ [فصلت: 1 - 5]...)) ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة، أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها، فسجد ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك.
فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولًا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فو الله، ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلْكُه مُلْكُكُمْ، وعِزُّه عِزُّكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
فتعلَّمْنا من هذه القصة مايلي:
• عدم دخول النبي صلى الله عليه وسلم مع الوليد في معارك جانبية، مع الحلم ورحابة الصدر.
• خطورة المغريات، ومنها فتنة المال والجاه والنساء أمام الدُّعاة إلى الله، ولنا كذلك بجانب هذه القصة الأسوة في قصة يوسف عليه السلام.
• ثبات النبي صلى الله عليه وسلم على المبدأ، وعدم تقديم تنازلات قيد أُنْمُلة.
فاللهم، أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطِلَ باطلًا وارزقنا اجتنابه، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشِّرْك والمشركين، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى، وآله وصحبه ومن اقتفى، أما بعد:
رأينا في الخطبة الأولى أن من أساليب المشركين في محاربة الدعوة؛ المساومات والمفاوضات- كما رأينا في قصة الوليد - فقد حاولت قريش من خلال هذا الأسلوب أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق، وذلك بأن يترك المشركون بعض ما هم عليه، ويترك النبي صلى الله عليه وسلم بعض ما هو عليه، قال تعالى: ﴿ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ﴾ [القلم: 9]؛ أي: تمنوا لو لاينتهم ولاطفتهم على حساب الدين، فيلينون لك ويلاطفونك.
ثم جاء الأمر الإلهي الحاسم بنزول سورة الكافرون، ذكر المُفسِّرون أن سورة الكافرون نزلت في رهط من قريش منهم: الحارث بن قيس السهمي، والعاص بن وائل، والوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب بن أسد، وأمية بن خلف، قالوا: يا محمد، هلُمَّ فاتِّبع ديننا ونتَّبِع دينك ونشركك في أمرنا كله، تعبد آلهتنا سنةً ونعبد إلهك سنةً، فإن كان الذي جئت به خيرًا كنا قد شركناك فيه وأخذنا حظَّنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيرًا كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظِّك منه، فقال: معاذ الله أن أشرك به غيره، قالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك، فقال: حتى أنظر ما يأتي من عند ربِّي، فأنزل الله عز وجل: ﴿ قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴾ [الكافرون: 1] إلى آخر السورة، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش، فقام على رؤوسهم ثم قرأها عليهم حتى فرغ من السورة، فأيسوا منه عند ذلك وآذوه وأصحابه.
ومعنى الآيات:
1- ﴿ قُلْ ﴾ - أيها الرسول -: ﴿ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴾ بالله.
2 – ﴿ لَا أَعْبُدُ ﴾ في الحال ولا في المستقبل ﴿ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ من الأصنام.
3 – ﴿ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴾ أنا؛ وهو الله وحده.
4 – ﴿ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ ﴾ من الأصنام.
5 - ﴿ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴾ أنا، وهو الله وحده.
6 - ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ ﴾الذي ابتدعتموه لأنفسكم، ولي ديني الذي أنزله الله عليَّ، وبنزول هذه السورة حسمت هذه المساومة الهزلية.
ودول الكفر اليوم تساوم الدول الإسلامية والمسلمين القاطنين في دولهم على الخصوص، والمسلمين عمومًا على التخلِّي عن دينهم، والذوبان في ثقافة هذه الدول وعاداتها وتقاليدها، وتفرض على المسلمين قوانينها في الأسرة والتعليم وغيرها، ويساومونهم شرَّ المساومة حينما يكونون في حاجة إلى استدانة أو قرض، فلا يُعطى لهم ما يطلبون إلا بتقديم تنازلات تمسُّ دينهم، وهناك دعوات للتقريب بين الأديان بدعوى التسامح، وهي دعوة باطلة، فلا يمكن للحق أن يتعايش مع الباطل.
ألا فليتذكر المسلمون جيدًا، وكل من كان في موقع الترافُع عن المسلمين قوله تعالى: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 6] التي تقرر توحيد العبادة والبراءة من الشرك، والتمايُز التام بين الإسلام والشرك.
فاللهم انصر من نصر الدين، وأخذل من خذل المسلمين، آمين،
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|