شذرات من خصائص خير البشر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كما شهد هو سبحانه وتعالى أنه لا إله إلا هو، والملائكة، وأولو العلم، قائمًا بالقسط، لا إله إلا هو العزيز الحكيم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ختم به أنبياءه، وهدى به أولياءه؛ ونعته بقوله في القرآن الكريم: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، صلى الله عليه أفضل صلاة، وأكمل تسليم، وآله أجمعين[1]؛ أما بعد:
فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، إلى ها هنا معلوم الصحة متفق عليه بين النسابين، لا خلاف فيه ألبتة، وما فوق عدنان فمختلف فيه، وهو خير أهل الأرض نسبًا على الإطلاق، وأعداؤه يشهدون بذلك[2].
وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم، فأنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وأول مشفع))[3].
أثنى الله جل ثناؤه على نبيه؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: فصل سورة (ن) هي سورة "الخلق" الذي هو جماع الدين الذي بعث الله به محمدًا، صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى فيها: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، قال ابن عباس: "على دين عظيم"، وقاله ابن عيينة وأخذه أحمد عن ابن عيينة، فإن الدين والعادة والخلق ألفاظ متقاربة المعنى في الذات، وإن تنوعت في الصفات، كما قيل في لفظ الدين: فهذا دينه وديني أبدًا[4].
حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا مبارك عن الحسن عن سعد بن هشام بن عامر، قال: ((أتيت عائشة، فقلت: يا أم المؤمنين، أخبريني بخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: كان خلقه القرآن، أما تقرأ القرآن؛ قول الله عز وجل: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]؟ قلت: فإني أريد أن أتبتل، قالت: لا تفعل؛ أما تقرأ: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [الأحزاب: 21]؟ فقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وُلد له))[5].
يقول ابن عاشور في كتابه التحرير والتنوير: "فكما جعل الله رسوله صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم، جعل شريعته لحمل الناس على التخلق بالخلق العظيم بمنتهى الاستطاعة"[6].
وبهذا يزداد وضوحًا معنى التمكن الذي أفاده حرف الاستعلاء في قوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، فهو متمكن منه الخلق العظيم في نفسه، ومتمكن منه في دعوته الدينية[7].
واعلم أن جماع الخلق العظيم الذي هو أعلى الخلق الحسن هو التدين، ومعرفة الحقائق، وحلم النفس، والعدل، والصبر على المتاعب، والاعتراف للمحسن، والتواضع، والزهد، والعفة، والعفو، والجمود، والحياء، والشجاعة، وحسن الصمت، والتؤدة، والوقار، والرحمة، وحسن المعاملة والمعاشرة[8].
والأخلاق كامنة في النفس ومظاهرها تصرفات صاحبها في كلامه، وطلاقة وجهه، وثباته، وحكمه، وحركته وسكونه، وطعامه وشرابه، وتأديب أهله ومن لنظره، وما يترتب على ذلك من حرمته عند الناس، وحسن الثناء عليه والسمعة[9].
وأما مظاهرها في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي ذلك كله وفي سياسته أمته، وفيما خص به من فصاحة كلامه وجوامع كلمه[10].
قال القاضي عياض: "ومما ذكر من خصائصه وبر الله تعالى به أن الله تعالى خاطب جميع الأنبياء بأسمائهم، فقال تعالى: يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، يا موسى، يا داود، يا عيسى، يا زكريا، يا يحيى، ولم يخاطب هو إلا: يا رسول الله، يا أيها النبي، يا أيها المزمل، يا أيها المدثر"[11].
قال الله تعالى: ﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الحجر: 72]، اتفق أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صلى اله عليه وسلم[12].
قال ابن جرير الطبري: "حدثني المثنى، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا سعيد بن زيد، قال: ثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، قال: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسًا أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره؛ قال الله تعالى ذكره: ﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الحجر: 72]"[13].
كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز من جمال خَلْقِه، وكمال خلقه بما لا يحيط بوصفه البيان، وكان من أثره أن القلوب فاضت بإجلاله، والرجال تفانوا في حياطته وإكباره، بما لا تعرف الدنيا لرجل غيره، فالذين عاشروه أحبوه إلى حد الهيام، ولم يبالوا أن تندق أعناقهم ولا يخدش لهم ظفر، وما أحبوه كذلك إلا لأن أنصبته من الكمال الذين يعشق عادة لم يُرزق بمثلها بشر[14].
قالت أم معبد الخزاعية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تصفه لزوجها: "ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزر به صلعة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، وفي عنقه سطع، أحور، أكحل، أزج، أقرن، شديد سواد الشعر، إذا صمت علاه الوقار، وإن تكلم علاه البهاء، أجل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنه وأحلاه من قريب، حلو المنطق، فضل، لا نزر، ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظمن يتحدرن، ربعة، لا تقحمه عين من قصر، ولا تشنؤه من طول، غصن بين غصنين، فهو أنظر الثلاثة منظرًا وأحسنهم قدرًا، وله رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند"[15].
حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن أبي يونس، عن أبي هريرة، قال: ((ما رأيت شيئًا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحدًا أسرع في مشيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنما الأرض تطوى له، إنا لنجهد أنفسنا، وإنه لغير مكترث))[16].
وكان عمر ينشد قول زهير في هرم بن سنان:
لو كنت في شيء سوى البشر
كنت المضيء لليلة بدر
ثم يقول: كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم[17].
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفصح الناس وأبينهم وأحكمهم، وكانت حياته كلها هداية ونورًا، وأفعاله وأقواله جميعها مددًا يستمد منه الخلق سدادهم ورشادهم، في معاشهم ومعادهم؛ ولهذا حرص المسلمون على حفظ ذلك الأثر العظيم حرصًا لم توفق إلى مثله أمة في حفظ آثار رسولها؛ فجمعوا من كلامه ووصف أفعاله وأحواله الأسفار الضخام، ووعوا منها في صدورهم ما لا يدخل تحت حصر، وكلامه صلى الله عليه وسلم منزه عن اللغو والباطل، وإنما كان في توضيح قرآن أو تقرير، أو إرشاد إلى خير، أو تنفير من شر، أو في حكمة ينتفع الناس بها في دينهم ودنياهم، بعبارة هي في الفصاحة والبلاغة، والإيجاز والبيان، بالدرجة الثانية بعد القرآن، ولذلك كان تأثيرها في اللغة والأدب بالمنزلة التالية لكلام الله تعالى، ولا سيما حكمه وجوامع كلمه، التي هي القدوة الحسنة للأديب، والحلية التي يزدان بها كلام الكاتب والخطيب[18].
وروى مسلم وغيره أن ضمادًا لما وفد عليه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، قال له: أعد عليَّ كلماتك هؤلاء؛ فلقد بلغن قاموس البحر، هاتِ يدك أبايعك))[19].
قال الإمام ابن القيم: "ومن ها هنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول، وما جاء به، وتصديقه فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا، ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا ينال رضا الله ألبتة إلا على أيديهم، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق، ليس إلا هديهم وما جاؤوا به، فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأخلاق والأعمال، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، فأي ضرورة وحاجة فرضت، فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير، وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديه، وما جاء به طرفة عين، فسد قلبك، وصار كالحوت إذا فارق الماء، ووضع في المقلاة، فحال العبد عند مفارقة قلبه لِما جاء به الرسل، كهذه الحال، بل أعظم، ولكن لا يحس بهذا إلا قلب حي وما لجرح بميت إيلام[20].
وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقةً بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب على كل من نصح نفسه، وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين به، ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه، والناس في هذا بين مستقل، ومستكثر، ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم[21].
وقال القاضي عياض في فصل اجتماع خصال الكمال والجلال البشري في النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كانت خصال الكمال والجلال ما ذكرناه، ووجدنا الواحد منا يشرف، بواحدة منها أو اثنتين، إن اتفقت له في كل عصر، إما من نسب أو جمال، أو قوة أو علم، أو حلم أو شجاعة أو سماحة، حتى يعظم قدره، ويضرب باسمه الأمثال، ويتقرر له بالوصف بذلك في القلوب أثرة وعظمة، وهو منذ عصور خوالٍ رمم بوالٍ، فما ظنك بعظيم قدر من اجتمعت فيه كل هذه الخصال إلى ما لا يأخذه عد، ولا يعبر عنه مقال، ولا ينال بكسب ولا حيلة، إلا بتخصيص الكبير المتعال، من فضيلة النبوة، والرسالة، والخلة، والمحبة، والاصطفاء، والإسراء، والرؤية، والقرب، والدنو، والوحي، والشفاعة، والوسيلة، والفضيلة، والدرجة الرفيعة، والمقام المحمود، والبراق، والمعراج، والبعث إلى الأحمر والأسود، والصلاة بالأنبياء، والشهادة بين الأنبياء والأمم، وسيادة ولد آدم، ولواء الحمد، والبشارة، والنذارة، والمكانة عند ذي العرش، والطاعة ثم، والأمانة، والهداية، ورحمة للعالمين، وإعطاء الرضا، والسؤل، والكوثر، وسماع القول، وإتمام النعمة، والعفو عما تقدم وما تأخر، وشرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر، وعزة النصر، ونزول السكينة، والتأييد بالملائكة، وإيتاء الحكمة، والكتاب، والسبع المثاني، والقرآن العظيم، وتزكية الأمة، والدعاء إلى الله، وصلاة الله تعالى والملائكة، والحكم بين الناس بما أراه الله، ووضع الإصر والأغلال عنهم، والقسم باسمه، وإجابة دعوته، وتكليم الجمادات والعجم، وإحياء الموتى، وإسماع الصم، ونبع الماء من بين أصابعه، وتكثير القليل، وانشقاق القمر، ورد الشمس، وقلب الأعيان، والنصر بالرعب، والاطلاع على الغيب، وظل الغمام، وتسبيح الحصى، وإبراء الآلام، والعصمة من الناس، إلى ما لا يحويه محتفل، ولا يحيط بعلمه إلا مانحه ذلك ومفضله به، لا إله غيره، إلى ما أعد له في الدار الآخرة من منازل الكرامة، ودرجات القدس، ومراتب السعادة، والحسنی، والزيادة التي تقف دونها العقول ويحار دون أدانيها الوهم"[22].
واعلم أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازم كما كان في حال حياته، وذلك عند ذكره وذكر حديثه وسنته، وسماع اسمه وسيرته، ومعاملة آله وعترته، وتعظيم أهل بيته وصحابته[23].
قال أبو إسحاق التجيبي: "واجب على كل مؤمن ذكره أو ذكر عنده أن يخضع ويخشع، ويتوفر ويسكن من حركته، ويأخذ في هيبته وإجلاله بما يأخذ به نفسه لو كان بين يديه، ويتأدب بما أدبنا الله به"[24].
قال مالك وقد سُئل عن أيوب السختياني: "ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه، قال: وحج حجتين فكنت أرمقه ولا أسمع منه، غير أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت، وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم، كتبت عنه"[25].
وحدثني عمرو الناقد، وزهير بن حرب، قالا: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((آتي باب الجنة يوم القيامة، فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت، لا أفتح لأحد قبلك))[26].
وحدثنا داود بن عمرو الضبي، حدثنا نافع بن عمر الجمحي، عن أبن أبي مليكة، قال: قال عبدالله بن عمرو بن العاص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء، وماؤه أبيض من الورق، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، فمن شرب منه فلا يظمأ بعده أبدًا))[27].
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما أكرمك وأعظمك حيًّا وميتًا! قد اصطفاك الله جل ثناؤه لرسالته للعالمين، وحفظ لنا بفضله وكرمه منهاج سنتك المطهرة، وسيرتك، وتاريخك المجيد، مع الصحابة الميامين، رضي الله عنهم؛ لننهل منها ونعتصم بها، فلا نكون من الضالين، ونلتقي بك أمام الكوثر إن شاء الله رب العالمين.
أسأل الله عز وجل لي ولكل من يتبع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع حبه وتعظيمه، رؤيته في الدنيا منامًا، وفي الآخرة عيانًا، وشربة من حوضه لا نظمأ بعدها أبدًا.
هذا، والله أعلم وأكبر وأجل.
وصلى الله على نبينا ومحمد وآله وسلم تسليمًا.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|