أساليب المشركين في محاربة الدعوة (2)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نحمدك ربنا على ما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضل رسلك، وأنزلت علينا خير كتبك، وشرعت لنا أفضل شرائع دينك، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون، تحدثنا في الخطبة الماضية عن الأساليب التي انتهجها المشركون للصد عن دعوة الحق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم،ومنها: الاعتراض على وحدانية الله وإنكار البعث والنشور، والاعتراض على شخص النبي صلى الله عليه وسلم واتهامه بما ليس فيه، فاعترضوا على بشريته، وعلى فقره، واتهموه بالكهانة والشعر والجنون والسحر والكذب والإتيان بأساطير الأولين وغيرها، واتهموا المؤمنين بالضلال، ولا يزال حديثنا مستمرًّا عن بعض تلكم الأساليب في خطبتنا اليوم [1].
عباد الله، من الأساليب الأخرى للمشركين في محاربة الدعوة نذكر ما يلي:
الأسلوب الرابع: محاولة التأثير على عمِّه أبي طالب والتهديد بمنازلته في حرب بين الطرفين:
وقد سبق الحديث عن هذا حينما ذهبوا إلى أبي طالب وطلبوا منه أن يكف عنهم ابن أخيه، فلما لم يفعل ذهبوا عنده ثانيةً، وقالوا له: "يا أبا طالب، إن لك سِنًّا وشرفًا ومنزلةً فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين"، وكذلك أعداء الله في كل مكان وزمان يلجئون في البداية إلى التأثير من خلال توظيف وسائل الإعلام وغيرها من وسائل التأثير، بهدف صرف المسلمين عن دينهم، فإذا لم تفلح هذه الوسائل، استعملوا أسلوب الترهيب.
الأسلوب الخامس: التشويش على الدعوة:
إن المشركين يتواصون بينهم بافتعال ضجة عالية وصياح منكر عندما يقرأ القرآن، حتى لا يصل إلى سمع أحد وقلبه فيؤثر فيه، وفي ذلك قال الله عز وجل: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26]، ومن تشويشهم نشر الاتهامات الباطلة - السابقة معنا - بين القبائل وكل من يقصد مكة، بأن محمدًا مجنون أو ساحر أو غير ذلك، وأسوق مثالًا من قصة إسلام ضماد الأزدي، ذلك أن ضمادًا، قدم مكة وكان من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الريح (المراد بالريح هنا الجنون)، فسمع سفهاء من أهل مكة، يقولون: إن محمدًا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، قال: فلقيه، فقال: يا محمد، إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الحمدَ لله، نحمدُهُ ونستعينُه، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أمَّا بَعْدُ))، قال: فقال: أعِدْ عليَّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثلاث مرات، قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر (أي: قعره الأقصى)، قال: فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وعلى قومِكَ))، قال: وعلى قومي، قال: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سَريَّةً، فمروا بقومه، فقال صاحب السَّريَّة للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئًا؟ فقال رجل من القوم: أصبت منهم مطهرةً (إناء يتطهر به)، فقال: ردوها؛ فإن هؤلاء قوم ضماد"[2].
فاستفدنا من قصة إسلام ضماد ما يلي:
• صبر وحلم النبي صلى الله عليه وسلم حينما عرض عليه معالجته من الجنون، وهذا موقف من شأنه أن يغضب له النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكنه لم يفعل؛ فدل على أهمية ضبط النفس.
• الاستجابة السريعة لضماد في الدخول إلى الإسلام تدل على أنه دين الفطرة، يستجيب له الناس بمجرد ما يتعرفون عليه بسهولة؛ ولكن المشكلة فيمن يحجب عن الناس نور الهداية ونور الإسلام بالامتناع عن الدعاية له، ومنع كل مظاهره، وتشويه صورته وصورة المسلمين في الإعلام، ووصفهم بكل قبيح كما يفعل بعض الإعلام الغربي، فإذا فعل المسلم المتجنس بجنسيتهم شيئًا حسنًا نسبوه إلى دولتهم، وإذا فعل شيئًا قبيحًا نسبوه إلى دولته الأصلية، ونعتوه بالصفات القبيحة.
• عدم اكتفاء النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ البيعة عن ضماد وحده بل على قومه أيضًا، فكان سببًا في إسلام قومه، وهذا يُبيِّن أهمية نشر الدعوة في العشيرة والأقارب ومن حولك، ((ولأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حُمْرِ النَّعَم))، كما قال صلى الله عليه وسلم.
فاللهم، أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى، وآله وصحبه، ومن اقتفى، أما بعد:
رأينا في الخطبة الأولى أن من أساليب المشركين في محاربة الدعوة؛ محاولة التأثير على عمِّه أبي طالب والتهديد بالحرب بين الطرفين، والتشويش على الدعوة بإطلاق الاتهامات ونشرها، وأختم بـ:
الأسلوب السادس: السخرية والاستهزاء والضحك والغمز واللمز والتعالي على المؤمنين:
ومن ذلك: قول الله تعالى عن سخريتهم من الذين آمنوا: ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾ [الأنعام: 53].
وروى البخاري أن أبا جهل قال مستهزئًا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فنزلت: ﴿ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الأنفال: 32، 33] [3]، ففهمنا أيها الإخوة المؤمنون أن سبب منع نزول العذاب عليهم أمران:
الأول: وجود النبيصلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم:
فوجود الصالحين المصلحين يمنع نزول العذاب؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 117]، وعن أبي بكر الصديق، قال: يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية، وتضعونها على غير مواضعها: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105]، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمَّهم اللهُ بعقابه))[4].
الثاني: استغفار المؤمنين: فكثرة الاستغفار تمنع نزول العذاب، قال صلى الله عليه وسلم: ((العبد آمن من عذاب الله، ما استغفر الله))[5]، وقال الإمام ابن القيم: "الاستغفار الذي يمنع العذاب هو الاستغفار بالإقلاع عن كل ذنب، وأما من أصرَّ على الذنب وطلب من الله المغفرة، فاستغفاره لا يمنع العذاب؛ لأن المغفرة هي محو الذنب وإزالة أثره ووقاية شره، لا كما ظنَّه بعض الناس أنها الستر، فإن الله تعالى يستر على من يغفر له ومن لا يغفر له، فحقيقتها وقاية شر الذنب".
وهذه السخرية والاستهزاء بالمؤمنين لا يزال مستمرًّا في كل زمان ومكان، فيتهم القابض على دينه والمتمسك به بشتى أنواع النعوت والصفات القدحية، وخاصةً من اللادينيين وأعداء الفضيلة والطهر والقيم المثلى، الذين لا يفرحهم أبدًا أن يروا مظاهر التدين في صفوف الشباب والشابات، فهم يحرصون أن يروجوا للتافهين ليجعلوهم قدوةً يُحتذى بها في المجتمع، والكثير من الناس أغاظهم ما رأوا عليه اللاعبين المغاربة في مونديال قطر، من التمسُّك بهويتهم ودينهم، وإحياء التمسُّك بالأسرة وقيمها، فراحوا يقدحون ويسخرون ويستهزئون ويشمتون، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11].
فاللهم انصر من نصر الدين، وأخذل من خذل المسلمين، آمين،
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|