السيرة النبوية: النشأة والطفولة
النشأة والطفولة
أيها المسلمون؛ بعد أن أمضى النبي ثلاث سنوات في بادية بني سعد، يعود إلى حضن أمه آمنة بنت وهب، فترعاه وتهتم به، ثم تذهب في زيارة أخوالها بني النجار في المدينة التي كانت تسمى يثرب، وتصحب معها ابنها الصغير والوحيد محمدًا، وبعد أن تقضي زيارتها، وتصل رحمها، تعود إلى أهلها في مكة، وحين تبلغ الأبواء، ينقضي الأجل وتنتهي الرحلة، وتسلم الروح، وتترك محمدًا وحيدًا يتيمًا، قد فقد أمه بعد أن فقد أباه، ويعود الفتى الصغير إلى مكة يتيم الأبوين، لا أم تحضنه ولا أب يتلقاه؛ فيكفله جده عبدالمطلب، ولعبدالمطلب مع محمد حديث مختلف؛ فإن في نفسه حديثًا حدثه ملك اليمن سيف بن ذي يزن؛ حيث التقى هناك عبدالمطلب بالملك، فأسرَّ إليه سيف بن ذي يزن حديثًا عن ولد يولد بمكة، إذا وُلد مولود تهامة بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة إلى يوم القيامة، وقال له: يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه، وفي النهاية قال له: وإنك لجده يا عبدالمطلب، من غير كذب.
فكان يحفظه، ويهتم به، ويقدمه حتى على أبنائه.
ثم لا يلبث أن يموت عبدالمطلب، وقد نال حظه وشرفه في رعاية محمد وكفالته، ألا تعجبون أيها الإخوة من هذا النبي الكريم الذي ذاق اليتم حين يقول: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين)).
يموت عبدالمطلب ويوصي به أبناءه، فينهض أبو طالب شقيق أبيه، فيكفله ويضمه إلى أبنائه، وينشأ معهم، ويلازمه أبو طالب حتى صار اسمه "يتيم أبي طالب"، لكن هذا اليتيم لم يسكن إلى اليتم، ولم يستسلم إلى الضعف، ويعتذر بالظروف، وهو يرى عمه أبا طالب، وكثرة أولاده، وصعوبة حالته، وقلة ما بيده، بادر من تلقاء نفسه، وهو ما يزال غلامًا صغيرًا يرعى الغنم لأهل مكة، على قراريط زهيدة، يتبع الغنم ويرعاها في الجبال، ويسير بها بين الوديان، يساعد عمه ويخفف شيئًا من أعبائه وينهض معه بأحماله.
إنها المسؤولية التي يتحلى بها هذا اليتيم، وهو ما يزالُ صغيرَ السن، ضعيفَ الحال، ولم يكتفِ بذلك، بل إنه لما كبر، وتحسنت أحواله، ضم إليه أحدَ أبناء عمهِ أبي طالب، يكفله كما كفله عمه قبل ذلك، فضم إليه علي بن أبي طالب ينشأ في بيته، كما نشأ هو في بيت عمه، وزوجه بابنته فاطمة، إنه المعروف يُرَدُّ بالمعروف، والفضائل ترد بأفضل منها؛ فلا تنسَ - أيها اليتيم - فضل من أحسن إليك من عم أو أخٍ أو خال، فرُدَّ إليه معروفه بأفضلَ منه.
وحين يبلغ محمدٌ الثانية والعشرين من عمره، يسافر مع عمه أبي طالب إلى الشام للتجارة كبقية قريش، وحين يبلغون موضعًا قبل الشام يسكنه بحيرى الراهب أحد علماء أهل الكتاب، وقد كانوا ينزلون إليه قبل ذلك في رحلاتهم، فلا يخرج إليهم، ولا يلتفت نحوهم، ولا يهتم لأمرهم.
لكنه هذه المرة ما إن نزلوا، وقد أحس أن الأرضَ غير الأرض، والأحجار غير الأحجار، خرج إليهم في استغراب منهم وهم يرونه يدور بينهم كأنه يبحث عن شيء مخفيٍّ بينهم، ميزهم واحدًا بعد آخر، حتى وقع نظره على التاجر الجديد، فقال: لمن هذا الغلام؟ فقال أبو طالب: هو ابني، فقال الراهب: ليس ابنك، لا ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيًّا، فقال: نعم، هو ابن أخي، وقد مات أبوه وهو حمل في بطن أمه، فقال الراهب لعمه: ما إن نزلتم بأرضي ما بقي حجرٌ ولا شجرٌ إلا خرَّ ساجدًا لهذا الغلام، وإنه للنبي الموعود، فارجع به ولا تعلم به اليهود؛ فإني أخشاهم عليه؛ إنهم اليهود، أعداء محمد في طفولته وفي رجولته، أمره أبو طالب بالعودة إلى مكة؛ تنفيذًا لوصية الراهب وطلبًا للسلامة، هذا محمدٌ في صباه، أما محمدٌ في شبابه، فما إن بلغ مبلغ الشباب حتى تناقلت مكةُ أخباره وأخبار أمانته، وصدقه وتعففه، وبعده عن كل ما يشين الرجال، فلا يشرب الخمر، ولا يغازل النساء، ولا يأكل الميتة، ولا يسجد لصنم، ولا يفعل النقائص، ومن كانت هذه أخلاقه، فهو طمعُ كلِ فتاةٍ عفيفةٍ شريفة، فتخطبه خديجة بنت خويلد لنفسها، وتكونُ الرسل بينها وبين عمه أبي طالب، فيخطبها أبو طالب لابن أخيه البالغ من العمر خمسة وعشرين عامًا، وهي تبلغ أربعين عامًا، وقد سبق لها الزواج مرتين قبل ذلك، فيتزوجها والفرق بينهما خمسة عشر عامًا، إنه هو محمد الذي لا يبحث عن الشهوات، ولا يفكر باللذات، اختار امرأة تناسبه، وإن كانت تكبره بالسن، ولم يمنعه أن سبق لها الزواج قبل ذلك، فما بال الناس اليوم يعرضون عن الزواج بمطلقةٍ لم توفق في زواجها، أو أرملةٍ مضى قدر الله فيها؟ لقد وضع الله البركة في هذا الزواج المتوافق، فأنجبت له أبناءه بعد أن تجاوزت الأربعين: القاسم، وعبدالله، ورقية، وزينب، وأم كلثوم، وفاطمة، ولا بد لمحمد أن يبرزَ أكثرَ فأكثر، فيأتي سيلٌ عظيمٌ يهدمُ الكعبة، فتتنادى قريش إلى إعادة بنائها، وحين تنتهي من ذلك، ويكتمل البناء، وتأتي لحظة الشرف، وساعة التاريخ، من يضع الحجر الأسود في مكانه؟ فيختلفون في ذلك اختلافًا شديدًا، يصل بهم إلى حد الاقتتال بينهم، كلهم يرغب في أن ينالَ هنا الشرف، ويحظى بهذا الفضل، لكنهم لا يصلون إلى حلٍّ، ولا يقبل أحدٌ منهم أن يتنازل.
ومع طول الخصام لا يجدون بدًّا من التحكيمِ بينهم، والفصلِ في هذا النزاع، فيرضون بأولِ داخلٍ عليهم، يقضي بينهم، وكأنهم ملوا طول النزاع، فيكون الداخل عليهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، فيرددون فرحين مستبشرين، لأنه عُرف بالعدلِ والإنصاف، فهذا الصادق الأمين يقتنعون بحكمه، إنها لحظة التجلي، فيأمرهم أن يضعوا الحجر في ثوبٍ، يرفعونه جميعهم بأيديهم، كل واحدٍ منهم يمسكُ بطرفٍ منه، حتى ينتهوا إلى موضع الحجر، لقد أرضاهم جميعًا، وحقق لهم مرادهم بالتساوي، لم يجعل لأحدٍ فضلًا على أحد، بل كان الفضل له وحده، فيأخذ الحجر بيديه، ولا يليق بالحجر الأسود من بين هذه الأيدي إلا يد محمد صلى الله عليه وسلم، فيضعه في مكانه إلى هذا اليوم، لم يغير أحدٌ موضع يد محمد صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنب وإثم وخطيئة؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية: الحمد لله الذي يرفع من يشاء، ويخفض من يشاء، وهو العليم الحكيم، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
أيها المسلمون، أن يكون المرء نبيًّا ليس أمرًا هينًا، بل إنه عند الله عظيم، الله يصطفي من الملائكة رسلًا ومن الناس، "إنه اصطفاء واختيار"، ولا يأتي أمر الله هذا فجأة بلا مقدمات، بل إنه سبحانه يُهيئ له الأسباب، ويضع له الأمور في نفس النبي أولًا، ثم في نفوس الناس بعد ذلك؛ وكما قال سبحانه: ﴿ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴾ [المؤمنون: 69]، كانت تلك العلامات التي سبقت يمكن أن تقع لأي أحدٍ من أهل الكرمِ والمروءات، كانت علامات تأتي على فترات متباعدة، حتى جاءت علامةٌ صريحةٌ لصاحبِ الأمر؛ ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم عليَّ بالنبوة قبل أن أكون نبيًّا))، الأحجار والأشجار تسلم عليه بالنبوة، وتخبره بالرسالة؛ إنه – إذًا - إعدادٌ عظيم، وتهيئةٌ للأمرِ الكبير.
ثم كانت الرؤيا الصادقة التي تأتي كفلق الصبح؛ الرؤيا يراها في المنام، ثم يراها على الأرض كما هي لا تتغير، وهذه وقعت له قبل النبوة، لقد بدأ العد التنازلي، واقتربت ساعة التكليف، وأزفت النبوة يا معشر أهل الأرض، ستةُ أشهرٍ تفصلُ بينه وبين أن يكون نبيًّا صلى الله عليه وسلم، وإذا يسر الله تعالى في يوم الجمعة القادمة، فسيكون الحديث عن بدءِ الوحي ونزول القرآن الكريم.
﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم على محمد وآل محمد، وبارك على محمد وآل محمد، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين، اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وجازهم خير الجزاء، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، في الدنيا والآخرة، ونسألك الستر والتوفيق، والصلاح والسلامة من السوء، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين، ووفق إمامنا لما فيه الخير والصلاح، اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 - 182].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|