الحمد لله الذي أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، وخلق الزوجين الذكر والأنثى، وأرانا في خلقه وأمره شيئًا من عظمته، وأرانا في آياته ما يدل على وحدانيته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، السراج المنير، والبشير النذير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي الفضل والنهى، وعلى من تَبِعهم بإحسان إلى يوم الملتقى،
أما بعد:
التقوى جماع الخير كله؛ لذا تكرر في القرآن والسنة الأمر بها؛ فهي سبيل الرشاد والفلاح في الدنيا والآخرة ﴿
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
المسلم العاقل الذي يتأمل طريقه، ويتحسَّس مواضع صوابه وخطئه، معتمدًا في ذلك على ربه، طالبًا منه الرشد والهداية، مهتديًا بنصوص القرآن والسنة، وذلك من خلال نظره وتأمله في عاقبة عمله ومآله، فإن كان خيرًا أقدم عليه، وإن كان شرًّا أحجم عنه.
ومما يعين العبد على معرفة ذلك أن يتأمل في إقباله أو إدباره عند العمل للدنيا أو العمل للآخرة، فهذه المقارنة تفتح أبوابًا لإيقاظ الأرواح وتزكيتها، وتقطع الأعذار والتعليلات التي تتعلق بها النفوس لحظة تقصيرها، في المقارنة بين الهمة العالية للأعمال الدنيوية والتثاقل في الأعمال الأخروية كشفٌ للمسار الذي يسير عليه العبد، وهذا أسلوب قرآني عظيم؛ لتنبيه القلوب الغافلة، وتزكية القلوب المؤمنة، العاملة لطاعة بارئها، فتأمل النفس وعملها هو الطريقة لتصويب الخطأ، وتعزيز الصواب، وطريقة لوعظ النفس وزجرها.
عبد الله، كلما وجدت نفسك تفتر وتستثقل عملًا من أعمال الآخرة، ورأيت عقلك يبتكر العلل والمعاذير، فتنبَّه، وضع نظير ومثيل عمل الآخرة في صورة من أعمال الدنيا، وكيف هو نشاطك لعمل الدنيا دون عمل الآخرة، ثم بعد ذلك عاتب نفسك، واستغفر ربك، وصحِّح مسارك.
عبد الله، تأمَّل في نصوص القرآن والسنة التي استخدمت هذا الأسلوب لعلاج فتور الناس عن الطاعة.
فلقد قارن القرآن العظيم نشاط أهل الجاهلية في ذكر مفاخر آبائهم وأجدادهم وقبائلهم وفتورهم في ذكر الله، قال تعالى: ﴿
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾ [البقرة: 200].
وكذا مقارنة حال المستبشر بذكر من دون الله، واشمئزازه عند ذكر الله عياذًا بالله، قال تعالى: ﴿
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [الزمر: 45].
فيا من ثقلت عليه مجالس الخير والذكر، فاشمأزت نفسه عند الذكر؛ تدارك نفسك.
وتأمل حال بعض الناس حين تأتي مصالحهم الدنيوية يرفعون الأكُفَّ متضرعة لبارئها؛ ولكنها تقصر دعاءها على صلاح دنياها، وتغفل عن معادها ومآلها، ما هذا الحرمان؟! قال تعالى: ﴿
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [البقرة: 200-202].
وحين تخلف من تخلف عن غزوة تبوك كانت المقارنة حاضرة، قال تعالى: ﴿
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [التوبة: 42].
وكذا نبه القرآن العظيم على نفوس، إذا كان الحكم الشرعي موافقًا لميولها ومصلحتها تنقاد وتسلم، وتنفر إذا كان الحكم الشرعي لا ينسجم مع مصلحتها، ونبه أن هذا العمل ليس عمل أهل الإيمان، قال تعالى: ﴿
وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 48-51].
ولقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب في ضرب الأمثال، فقارن بين همة البعض في الوصول للطعام، وتثاقله في الخروج للصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عَرْقًا سمينًا أو مَرْماتَيْنِ حسنتين، لشَهِدَ العشاء))؛ والعَرْق: هو العظم الذي عليه لحم، والمَرْماتين: هما ما بين ظلفي الشاة من اللحم.
فما أجمل هذا الأسلوب! وما أعظم أثر المقارنة بين العمل للدنيا والعمل للآخرة في تصحيح المسار! وكم هو مقياس رائع لا يخطئ، ونافع لصاحب القلب الذي أراد أن ينتفع، قال تعالى: ﴿
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37].
عبد الله، اسأل نفسك عن إقبالك وإدبارك، ما حالنا في القيام لصلاة الفجر، وما حالنا في القيام للعمل، ما حالنا حين تقف الأقدام في الصلاة بين يدي رب الأنام، وما حالنا حين تقف الأقدام للتبايع، أو حتى للاستمتاع بفضول الكلام.
ما حالنا حين نُقلِّب صفحات المصحف بين أعظم الآيات، وما حالنا ونحن نطالع ما في الجوالات.
كم نمضي مع خير الكلام من الأوقات، وكم نمضي مع وسائل التواصل.
ما حال النفس حين تدعى للإنفاق في سبيل الله، وما حالها حين تدعوها النفس لشراء شهوات النفس ومحبوباتها.
مقياس لا يخطئ، والسعيد من استدرك الهفوة، واستغل الفرصة، وعمل في زمن المهلة، ولم يفوت الفرصة، والسعادة كل السعادة في رضا الله سبحانه.
عبد الله، الدنيا خدَّاعة غرَّارة؛ ولذا جاء التحذير الكبير من الافتنان بها، قال تعالى: ﴿
يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [فاطر: 5].
ولقد فهم السلف الأخيار هذا التحذير من الاغترار؛ فبذلوا النفيس من الأثمان في سبيل رضا الرحمن؛ فها هو صهيب الرومي يدفع ماله لقريش حتى يُمكِّنوه من الهجرة، فيبيع الدنيا بالآخرة، فتأتيه البشارة من رسول الله: ((ربح البيع أبا يحيى))، وتتنزَّل آيات الله ﴿
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 207].
وذا حنظلة بن أبي عامر يخطب لنفسه فتاة اسمها جميلة بنت عبدالله، ويستأذن حنظلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يدخل عليها فيأذن له، وأفضى حنظلة إلى زوجه، فيقع منه ما يقع بين الرجل وزوجه، ثم سمع حنظلة داعي الجهاد، فشغله صوت الداعي عن كل شيء، وأعجلته الاستجابة السريعة حتى عن الاغتسال، فقاتل، ثم استشهد، فغسلته الملائكة.
فيقدم حنظلة -حديث العهد بالعرس- أمرَ الله على شهوة نفسه، فظفر بالشرف العظيم؛ حنظلة غسيل الملائكة، وعند نزول قوله: ﴿
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92]، تنافس المتنافسون لتطبيق ما في التنزيل الكريم.
فعمر يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أصب مالًا قطُّ هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر، فما تأمرني به قال: ((احبس الأصل، وأسبل الثمرة))؛ انظر الصحيحين.
وأبو طلحة يعلنها صريحة أن بيرحاء أحب أمواله إليه، فيتصدَّق به، ويضعه في قرابته؛ امتثالًا لأمر رسول الله.
وهذا ابن عمر الفاروق يعتق جارية له؛ لأنها أحب أمواله إليه؛ تطبيقًا لهذه الآية ﴿
رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ﴾ [الأحزاب: 23]، وحين دعا رسول الأنام لتجهيز جيش العسرة؛ توالت النفقات، وضربت أروع الأمثال في التضحيات.
ولا تنسَ أن المال محبب للنفوس، قال تعالى: ﴿
وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾ [الفجر: 20]، فعثمان يأتي بثلاث مئة بعير وألف دينار، وأبو بكر يأتي بجميع المال، والفاروق عمر وعبدالرحمن بن عوف بنصفه، والعباس بمال كثير.
وتتابعت الصدقات حتى من الفقراء، فأبو خيثمة الأنصاري يتصدَّق بصاع تمر، وأبو عقيل بنصف صاع، ومنهم من لا يجد مالًا فيتصدَّق بعرضه للمسلمين.
والنساء يتصدَّقْن بما قدرن عليه؛ بل حتى بحليهن، ولا تسأل عن صحابة لم يجدوا شيئًا، لا يملكون إلا الدمع، وكأني أنظر إليهم يأتون لرسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم يطلبون منه العون والمساعدة؛ ليلحقوا بالجيش العظيم، فيعتذر منهم، استمع لوصف القرآن لهم: ﴿
وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴾ [التوبة: 92].
قال الله جل جلاله: ﴿
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23].
الخطبة الثانية
أيها المبارك، طالع نفسك، وفتِّش فيها، وانظر في عملك حين تعمل للدنيا، وانظر لعملك حين تعمل للآخرة.
وأهمس في أذن كل أب وأم حريصين على ولدهما في اختباراته، وأقول جزاكما الله خير الجزاء، وأراكما في ذرياتكما ما يسر قلوبكما، وأقول كيف هي متابعتكما لهم فيما يصلح شؤون آخرتهم؟
أعاننا الله على هذه المسؤولية العظيمة، اللهم اجعلنا معظمين لأمرك، مؤتمرين به، واجعلنا معظمين لما نهيت عنه، منتهين عنه، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تعز الإسلام والمسلمين، وأن تذل الشرك والمشركين، وأن تدمر أعداء الدين، وأن تنصر من نصر الدين، وأن تخذل من خذله، وأن توالي من والاه، بقوتك يا جبار السماوات والأرض.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى.
اللهم كن لإخواننا المرابطين على الحدود، وجازهم خير الجزاء، اللهم اقبل من مات منهم، واخلفهم في أهليهم يا رب العالمين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، واجمع كلمتهم على ما يرضيك يا رب العالمين، اللهم بواسع رحمتك وجودك وإحسانك يا ذا الجلال والإكرام، اجعل اجتماعنا هذا اجتماعًا مرحومًا، وتفرُّقنا من بعده تفرُّقًا معصومًا.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وجازهم عنا خير الجزاء، اللهم من كان منهم حيًّا فأطل عمره، وأصلح عمله، وارزقنا بره ورضاه، ومن سبق للآخرة فارحمه رحمة من عندك تغنيهم عن رحمة من سواك.
اللهم ارحم المسلمين والمسلمات، اللهم اغفر لأموات المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، اللهم جازهم بالحسنات إحسانًا، وبالسيئات عفوًا وغفرانًا يا رب العالمين.
اللهم احفظنا بحفظك، واكلأنا برعايتك، ووفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك.
اللهم أصلحنا وأصلح ذريتنا وأزواجنا وإخواننا وأخواتنا، ومن لهم حق علينا يا رب العالمين.
اللهم ثبتنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا والآخرة يا أرحم الراحمين، اللهم كن لإخواننا المسلمين في كل مكان، اللهم كن لهم بالشام، وكل مكان يا رب العالمين
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الصمد، تصمد إليك الخلائق في حوائجها، لكل واحد منا حاجة لا يعلمها إلا أنت، اللهم بواسع جودك ورحمتك وعظيم عطائك اقضِ لكل واحد منا حاجته يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين يا أرحم الراحمين، ﴿
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180-182]، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.