حجية مرسل الصحابي
مرسل الصحابي: هو أن يروي الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يسمعه أو يشاهده؛ لصغر سِنِّهِ، أو تأخر إسلامه، أو غيابه، وإنما سمِعه من صحابي آخرَ؛ لأنه يندُر أن يرويَ صحابيٌّ عن تابعيٍّ، ولو حصل ذلك، لَبيَّنه الصحابي.
ويؤديه الصحابي فيقول: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ومن هذا النوع أحاديثُ كثيرة لصغار الصحابة؛ كابن عباس وابن الزبير وغيرهم.
ومراسيل الصحابة حجة عند الجمهور.
قال ابن النجار الحنبلي في "مختصر التحرير شرح الكوكب المنير" (2/ 581): "وعلى حجية مرسل الصحابة أكثر العلماء؛ لأن روايتهم عن الصحابة، والجهالة بالصحابي غير قادحة؛ لأنهم كلهم عدول"؛ [انتهى].
وذهب طائفة - وعلى رأسهم الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني - إلى عدم حجية مرسل الصحابي؛ قال بعضهم في تأييد قولهم: "لا تُقبَل مراسيلُ الصحابي لا للشك في عدالته، ولكن لأنه قد يروي الراوي عن تابعيٍّ، وعن أعرابي لا تُعرف صحبته، ولو قال: لا أروي لكم إلا من سماعي أو من صحابي، وجب علينا قبول مرسله"[1].
والراجح القول بحجية مرسل الصحابي؛ لتوافر الأدلة عليه؛ ومن ذلك:
(1) فقد أخرج الطبراني في الكبير (1/ 246) (699)، والحاكم في المستدرك (3/ 665) (6458) بسنده عن حميد الطويل، أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدَّث بحديث، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضِب غضبًا شديدًا، وقال: "والله ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كان يحدِّث بعضنا بعضًا، ولا يتهم بعضنا بعضًا"؛ [قال الهيثمي في المجمع (1/ 153) برقم (690): رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح].
(2) وأخرج أحمد في المسند (18493) عن البراء، قال: "ما كل الحديث سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدثنا أصحابنا عنه، كانت تشغلنا عنه رعية الإبل"؛ [قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 154): رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح].
(3) وأخرج البخاري في صحيحه برقم (89) عن عبدالله بن عباس، عن عمر، قال: "كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك...))؛ [الحديث].
قال أبو الحسن بن بطال في "شرح صحيح البخاري" (1/ 169):
"فيه: الحرص على طلب العلم، وفيه: أن لطالب العلم أن ينظر في معيشته وما يستعين به على طلب العلم، وفيه: قبول خبر الواحد، وفيه: أن الصحابة كان يخبر بعضهم بعضًا بما يسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجعلون ذلك كالمسند؛ إذ ليس في الصحابة مَن يكذب، ولا غير ثقة؛ هذا قول طائفة من العلماء، وهو قول من أجاز العمل بالمراسيل، وبه قال أهل المدينة، وأهل العراق، وقالت طائفة: لا نقبل مرسل الصاحب؛ لأنه مرسل عن صاحب مثله، وقد يجوز أن يسمع ممن لا يضبط، كوافدٍ، وأعرابي لا صحبة له"؛ [انتهى].
(4) وقال الزبير بن بكار: "إن كان ابن عمر رضي الله عنه لَيحفظ ما سمِع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسأل من حضر إذا غاب عن قوله وفعله"[2].
(5) وهذا ابن عباس رضي الله عنه يروي حديث: ((إنما الربا في النسيئة))، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رُوجع فيه، قال: أخبرني به أسامة بن زيد رضي الله عنه؛ [رواه مسلم].
(6) وأخرج مسلم والنسائي وغيره بسنده عن أبي هريرة أنه كان يُفتي ويقول: "من أصبح جُنُبًا فلا صوم له".
وورد في رواية البخاري ومسلم: أن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام استفتى عائشة، وأم سلمة فأخبرتاه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ((يدركه الفجر وهو جُنُبٌ من أهله، ثم يغتسل، ويصوم))، فأَخبرَ أبا هريرة، فقال: "كذلك حدثني الفضل بن عباس وهن أعلم"، فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك.
قول لأبي حاتم بن حبان في بيان حجية مرسل الصحابي:
ولتأصيل هذا الأصل العظيم؛ يقول الحافظ ابن حبان في مقدمة صحيحه (1 /162): "وإنما قبِلنا أخبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رَوَوها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يبينوا السماع في كل ما رَوَوا، وبيقين نعلم أن أحدهم ربما سمع الخبر عن صحابي آخر، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذكر ذلك الذي سمعه منه؛ لأنهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين كلهم أئمة سادة، قادة عدول، نزَّه الله عز وجل أقدار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يلزَقَ بهم الوَهنُ"؛ [انتهى].
قول أبي عبدالله الحاكم في حجية مرسل الصحابي:
وقال الحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص: 14): "وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يطلبون ما يفوتهم سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسمعونه من أقرانهم، وممن هو أحفظ منهم، وكانوا يشدِّدون على من يسمعون منه".
أقوال طائفة من الأصوليين والمحدثين في حجية مرسل الصحابة:
وقال السرخسي في "أصوله" (1 /359):
"لا خلاف بين العلماء في مراسيل الصحابة رضي الله عنهم أنها حجة؛ لأنهم صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يروونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلقًا يُحمل على أنهم سمعوه منه أو من أمثالهم، وهم كانوا أهل الصدق والعدالة، وإلى هذا أشار البراء بن عازب رضي الله عنه بقوله: ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كان يحدث بعضنا بعضًا، ولكنا كنا لا نكذب".
وقال القسطلاني في "إرشاد الساري" (1 /9):
"وأما مرسل الصحابي كابن عباس وغيره من صغار الصحابة عنه صلى الله عليه وسلم مما لم يسمعوه منه، فهو حجة"؛ [انتهى].
وقال ابن الصلاح في "المقدمة" (ص: 56):
"ثم إنا لم نعدَّ في أنواع المرسل ونحوه ما يسمى في أصول الفقه مرسل الصحابي، مثلما يرويه ابن عباس وغيره من أحداث الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يسمعوه منه؛ لأن ذلك في حكم الموصول المسند؛ لأن روايتهم عن الصحابة، والجهالة بالصحابي غير قادحة؛ لأن الصحابة كلهم عدول، والله أعلم".
وقال الحافظ العراقي: "فإن المحدثين وإن ذكروا مراسيل الصحابة، فإنهم لم يختلفوا في الاحتجاج بها"[3].
وقال البلقيني: "حكى بعضهم الإجماع على قبول مراسيل الصحابة، ولكن الخلاف ثابت، ذكره بعض الأصوليين عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني"[4].
ثم إن ابن حجر ذكر في نُكَتِهِ مذاهب العلماء في قبول المرسل فقال:
"ثالثها؛ أي ثالث المذاهب: قبول مراسيل الصحابة رضي الله عنهم فقط، وردُّ ما عداها مطلقًا.
قلت – أي: ابن حجر - وهو الذي عليه عمل أئمة الحديث"[5]؛ [انتهى].
هذا ما تيسر، والله وحده من وراء القصد.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|