أول سفير في الإسلام
أول سفير في الإسلام
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ [الكهف: 1]، ونصَبَ الكائنات على ربوبيته براهينَ وحُجَجًا، فمن آمن واتقى فقد أفلح ونجا، ﴿ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ [الطلاق: 2]، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، ليس لنا سواه ملاذًا ولا ملجأ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة الحق واليقين في الخوف والرَّجا، أَعظِم بها سبيلًا وأَنعِم بها منهجًا، ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا ﴾ [الأنعام: 125]، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، ومصطفاه وخليله، هو صفوة الباري وخاتم رسله، وأمينة المخصوص منه بفضله، لا دَرَّ دَرُّ الشعر إن لم أُملِه، في مدحِ أحمدَ عسجدًا منسوجًا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أنوار الهدى ومصابيح الدجى، والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ ما نهارٌ تجلى وما ليلٌ سجى، وسلم تسليمًا كثيرًا أبلجَ.
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله رحمكم الله؛ فقد صدق الزمانُ في صروفه وما كذب، ووعظ بتقلُّباته فأثار العجب، فاستعِدوا رحمكم الله ليومٍ شديد الأهوال، ﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 2].
معاشر المؤمنين الكرام:
إن التاريخ لَيشهدُ أنه ما رأى رجالَ صدقٍ وأتْباع حقٍّ كما كان أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، إنهم الرجال الذين ما صمد أمامهم جيش، ولا صعُبت عليهم مدينة، إنهم الرجال الذين فتحوا القلوب قبل البلدان، وشادوا بالقرآن وتعاليمه نظامًا جديدًا، وعالمًا فريدًا، لم تشهد الدنيا كلُّها مِثلَه، وكل هذا يدعونا - أحبتي في الله - لأن نغوص في أعماق حياة أولئك الرجال، نستخرج كنوزهم، ونستشرف عظمتهم، ونستنشق عبيرهم، ونَسْتلهِم أثرهم، ونتمثَّل سيرهم، ونقتدي بهم.
كرِّرْ عليَّ حديثهم يا حادي *** فحديثُهم يجلو الفؤادَ الصادي
وإذا كان أمر آخِر هذه الأمة لن يصلُح إلا بما صلح به أولها، فما أحوَجَنا إلى دراسة سيرهم؛ لنقدِّمها لجيلنا الناشئ، وللأمة جمعاء، لكي تعلم تاريخها، ومن هم آباؤها وأجدادها، وعلى أكتاف مَن قام تاريخُها ومجدها، وما أجمل أن نعيش دقائقنا التالية بين يدي تلميذٍ من أكابر تلاميذ مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، شابٌّ مميز ومن طراز فريد، سار في ركب النور، فكان يمشي على الأرض وقلبُه معلَّق بالسماء، عظيمٌ من العظماء، ونموذجٌ رفيعٌ من القامات السامقة، بدايته عجيبةٌ، ونهايته أعجب، فحين انقضت معركة أُحُدٍ، مرَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على الشُّهداء واحدًا واحدًا يتفقدهم، يتأمل تلك الأجساد الطاهرة، وقد تناثرت على أرض المعركة، أولئك الذين قدَّموا كل ما يملِكون لنُصرة الدين، وبذلوا أرواحهم طلبًا لمرضاة الله، مرَّ بهم صلى الله عليه وسلم، فلما حاذى واحدًا منهم توقَّفَ عنده طويلًا، وبدى عليه التأثرُ، وقال عنه كلامًا عجيبًا، ورفع يديه إلى السماء يدعو له، ثم قرأ قول الله عز وجل: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23]، فمن ذلكم الشهيد المميز الذي استوقف المصطفى صلى الله عليه وسلم مليًّا؟ وما هي ما قصته؟ وكيف كانت حكايته؟
إنه الصحابي الجليل أبو عبدالله، مصعب بن عمير بن هاشم بن عبدمناف بن عبدالدار بن قُصَيٍّ القرشي، شابٌّ يتيه جمالًا وأناقة، ورِقة ودلالًا، يهتم بشَعَرِه وهيئته، يلبس أحسن الثياب، وينتعل أفضل النعال، ويدهن بأغلى العطور، ويعيش عيشة الأكابر، ولم لا؟ فهو يحيا بين كنَفَي أبوين غنيَّين، يغدقان عليه بكل ما يريد، حتى لقد غدا حديثَ أهل مكة كلِّها، ومضرب المثل في لين العيش وترف النعيم، يذكره الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: ((ما رأيت بمكة أحسن لمةً، ولا أرَقَّ حلةً، ولا أنعم نعمةً منه)).
معاشر المؤمنين الكرام:
سمع مصعب عن الإسلام في بدايات الدعوة، حين كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجتمع بأصحابه سرًّا في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فدخل مع الداخلِين، وأسلم مع أوائل من أسلم، ومن ثم فقد تغيَّر كلُّ شيء في حياته، فتحوَّل الشابُّ المرفه الغارق في النعيم، إلى رجلٍ حازمٍ جادٍّ، يحمل المهام العِظام، وتحوَّل الشاب المترف، إلى رجلٍ من طراز آخر، يعشق المهام الصعبة، ويجابه الأهوال، تحوَّل الذي كان لا يفكِّر إلا في نفسه وملذاته، إلى داعية فذٍّ، يحمل همَّ الإسلام، وينشر أنواره في ربوع الأرض.
في البداية - وكغيره من المسلمين الأوائل - كتم إسلامه خوفًا من أمِّه وقومه، لكن سرعان ما وصَلَهم خبَرُه، فغضبوا عليه وحبسوه، وضيَّقت عليه أمُّه تضييقًا شديدًا، فانقلب نعيمه بؤسًا وفقرًا، وتحوَّل ترفه جوعًا ونصبًا، وعذابًا مؤلمًا، لكنه ظل صامدًا ثابتًا، فكل شيءٍ في سبيل الله يهون، لسان حاله:
فليتَك تحلو والحياةُ مريرةٌ
وليتك ترضى والأنامُ غِضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ
وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صحَّ منك الوُدُّ فالكلُّ هينٌ
وكلُّ الذي فوق التراب ترابُ
ومع ازدياد الحرمان يزداد الثبات، ولكم أن تتصوَّروا، شابٌّ يعيش حياة الترف والرفاهية والدلال، وفجأةً يتغير به الحال إلى العذاب والنَّكال، إنه أمرٌ في غاية الصعوبة، يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "وأما مصعب بن عمير، فإنه كان أترَفَ غلامٍ بمكة، فلما أصابه ما أصابنا من شظف العيش، لم يقوَ على ذلك، فلقد رأيته وإن جِلْدَه لَيتطايَرُ عنه تطايُرَ جِلْدِ الحيَّة، ولقد بلغ به الجهد فما يستطيع أن يمشي، حتى إنَّا لَنَحمِلُه على عواتقنا".
لقد رآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا فقال: "انظروا إلى هذا الرجل الذي نوَّر الله قلبه، لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، ولقد رأيت عليه حلةً اشتُريت له بمائتي ألف درهم، فدعاه حبُّ الله ورسوله إلى ما ترون".
وفي أحد الأيام، أقبَلَ مصعب وعليه نمرة قد وصلها بإهاب يستر بها بدَنَه النحيل، فلما رآه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، نكَّسوا رؤوسهم رحمةً له، فلما أقبل على رسول الله وصحابته، سلَّم فردَّ صلى الله عليه وسلم السلام عليه وأثنى عليه وقال: "الحمد لله، يقلب الدنيا بأهلها، لقد رأيت هذا وما بمكة فتى من قريش أنعَمَ عند أبويه نعيمًا منه، ثم أخرجه من ذلك الرغبةُ في الخير وحب الله ورسوله".
لقد غدا مصعبٌ رضي الله عنه مضرب المثل في الزهد والفقر وقلة الحال، بعد أن كان مضرب المثل في الترف ورغد العيش، ليس ذلك فحسب، بل ومضرب المثل في الثبات، فلقد حلَفتْ أمُّه أن لا تأكل ولا تشرب ولا تستظلَّ حتى يرجع عن دينه ويترك محمدًا، فثبَتَ على دينه حتى كادت تموت، وكانت تقف في الشمس حتى تسقط مغشيًّا عليها، فما تَزحزَحَ، فقيَّدوه بالأصفاد وحبسوه حتى تغيَّر لونه ونحل جسده، فثبت ثبات الجبال، حتى إذا سهَّل الله الفرج هاجر إلى الحبشة، فترك وطنه، وودَّع حبيبه، فارًّا بدينه مع ثُلة من المؤمنين الصادقين، وفي الحبشة يبلغهم أن قريشًا هادنت المسلمين وتركتهم وما يريدون، فيعود مصعب مع من عاد، فإذا قريشٌ قد ازدادت شراسةً عما كانت عليه من قبلُ، ولقد كانت إشاعة ملفقة، وقبل أن يرجع ثانية إلى الحبشة، تُحاوِل أمُّه أن تحبسه مرة ثانية، فآلى على نفسه ليقتُلَنَّ كلَّ من تستعين به على حبسه، فزجرته وقالت له: اذهب لشأنك لم أعُدْ لك أمًّا، فما زاد على قوله: يا أماه، إني لك ناصح، وعليك شفيق، فاشهدي أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فقالت: قسمًا بالثواقب لا أدخل في دينك فيزدريني قومي، فتأمَّل هذا الإصرار العجيب على الكفر من جانب الأم، والإصرار الأكبر على الإيمان من جانب الابن.
وتمضي الأيام ويعود مصعب بن عمير إلى مكة، مشتاقًا للرسول صلى الله عليه وسلم، وليشهد هذه المرة محنةَ الحصار في الشِّعب جوعًا وعطشًا، فخارت قواه حتى صار لا يقدر على المشي، فكان المسلمون يحملونه على أكتافهم.
وبعد أعوام تأتي طليعة الأنصار الأولى لتُسلِم وتُبايِع البيعة الأولى، فيبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم أول سفيرٍ في الإسلام أبا عبد الله مصعب الخير معلمًا وداعيةً وإمامًا؛ ليفقِّههم ويعلِّمهم القرآن ويصلِّي بهم، فتحمَّل بذلك مسؤوليةً من أخطر المسؤوليات، وأُلقي بين يديه بمصير الإسلام في المدينة التي ستكون دار الهجرة، ومنطلق الدعوة والدعاة، وحُمِّل البطل الأمانة فحَمَلَها، وقام بها خير قيام.
وفي عامٍ واحدٍ تسلم المدينة كلُّها إلا قليلًا، ويصبح الأنصار كلهم حسنةً مباركةً في ميزان مصعب الخير رضي الله عنه وأرضاه، ومن هم الأنصار؟ بطانة المصطفى، وحماة الدين، ورجال الإسلام الأُوَل، الذين لم يقم الدين إلا على أكتافهم، الذين لا يحبُّهم إلا مؤمنٌ، ولا يبغضهم إلا منافق، إنهم المرحومون، المرحوم عَقِبُهم بدعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم، أولئك هم تلاميذ مصعب وغنيمته، وبعد أن قضى مصعبٌ مهمته في المدينة خير قيام، وأقام فيها أول جمعةٍ في الإسلام، لم يركن ولم يسترح، بل عاد إلى مكة، إلى أرض البلاء والمحنة؛ لتنعم عيناه بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليكون في طليعة المهاجرين، يوم أُذِنَ لهم بالهجرة، فيا لله ما أوقدها من همةٍ! ويا لله ما أرفعها من عزيمة! لم يهاجر مرةً ولا مرتين ولا ثلاثًا، بل هاجر أربع هجرات: ثنتان للحبشة، وثنتان للمدينة.
ولما كانت معركة بَدْرٍ، حمَلَ الداعية الكبير رايةَ المسلمين، ودافع عنها دفاع الكُماة الأبطال، وقاتل قتال الأشاوس، حتى انتصر المسلمون انتصارهم الساحق، وبعد انتهاء المعركة يمرُّ البطل بأخيه وشقيقه أبي عزيز بن عمير أسيرًا في يد أحد الأنصار رضي الله عنهم أجمعين، فيضرب أروع الأمثلة في الولاء والبراء، ويقول للأنصاري: شُدَّ يديك به؛ فإن أمَّه ذات متاعٍ، لعلها تفديه منك، فقال أخوه: أهذه وُصاتُك بي يا أخي؟! فقال مصعب مشيرًا إلى الأنصاري: إنه أخي دونك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23].
بارك الله...
الخطبة الثانية
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه.
أما بعد، فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا ممن يستمع القول فيتَّبع أحسنه.
معاشر المؤمنين الكرام:
تبقى لنا خصلة أخيرةٌ، وميزةٌ عجيبة، من خصال هذا البطل الفذ، وكلُّ خصاله مميزة، إنها التضحية بكل شيء، فلقد ضحَّى مصعبٌ من أجل دينه وعقيدته بكل شيء، ضحى بالمال والجاه والنعيم والأهل والوطن، ثم أراد أن يقدِّم تضحية أعظَمَ من ذلك كله، فضحى بنفسه، فتعالَوا أحبتي في الله لنقف على المحطة الأخيرة من حياة هذا البطل الفذ، تعالَوا لنشهد الفصل الأخير من مشهد بطولات وتضحيات مصعب الخير.
إنه يوم أحدٍ، وقد حمل الراية يومئذٍ، فما اهتزَّت في يده رغم شدة القتال، ثم لما شاع في الناس مقتلُ الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وانكشف منهم من انكشف، ثبَتَ مصعب مع الثابتين، وأقبَلَ يحمل الراية ويهتف مردِّدًا قول الحق عز شأنه: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ﴾ [آل عمران: 144]، فتقدَّم إليه عدو الله ابن قمئة يبارزه، واشتد القتال بينهما، فأهوى ابن قمئة على يمنى مصعب فقطعها، فتناول الراية بيُسراه فقطعها، فاحتضنها بين جنبيه، فحمل عليه عدوُّ الله الثالثة فأهوى بالرمح على جسده الطاهر، فخرَّ رضي الله عنه على الأرض صريعًا، وشاع في الناس أن الذي قُتِل إنما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن مصعبًا كان من أشبَهِ الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا قضى مصعبٌ نَحْبَه، باع الدنيا بالآخرة، وقدَّم الرخيص فظفر بالغالي، سقط جسده على الأرض، وحلَّقت روحه إلى بارئها، شاط في دمائه الزكية، ليُبعَث يوم القيامة يَثعَبُ جُرحُه دمًا، اللون لون الدم، والريح ريح المسك.
عن عبيد بن عمير قال: وقف رسول صلى الله عليه وسلم على مصعب بن عمير وهو منجعفٌ على وجهه يوم أُحُدٍ شهيدًا، فقال صلى الله عليه وسلم: ((﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23]، لقد رأيتك بمكة وما بها أرق حلةً ولا أحسن لمةً منك، ثم هأنت ذا شعث الرأس في بردة؟ إن رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله، ألا فأْتُوهم وزُوروهم، والذي نفسي بيده، لا يسلِّم عليهم أَحَدٌ إلى يوم القيامة إلا رَدُّوا عليه)).
قال خبَّاب رضي الله عنه: هاجرْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله نبتغي وجه الله، فوجب أجرُنا على الله، فمنا من قضى ولم يأكُل مِن أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير، قُتل يوم أُحُد، فلم نجد ما نُكَفِّنُه به إلا نَمِرَةً، كنا إذا وضعناها على رأسه خرَجتْ رِجلاه، وإذا وضعناها على رِجلَيْه خرج رأسُه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه شيئًا من الإذخر))، ومنا من أينعت ثمرتُه فهو يهدبها.
وبعد: فتلك هي سيرة الصحابي الجليل مصعب بن عمير رضي الله عنه، شابٌّ كان في أول أمره في جاهلية جهلاءَ، خامل الذِّكر، قاصر الهمة، لا يُعرَف إلا بالترف والنعومة، فلما دخل في الإسلام ارتفع ذِكرُه، وعلا قدره، وأصبح مضرب المثل في كل أمرٍ جميل، فهل لشبابنا أن يتخذوه قدوة ومَثَلًا يُحتذى، يتغنَّوْنَ بسيرته العطرة، وبطولاته الفخمة، وبطولات أمثاله من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدلًا من بطولات اللاعبين الفارغة، ومغامرات الممثلين المزيفة؟
فيا بن آدم، عِشْ ما شئت فإنك ميت، وأحبِبْ من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به، البِرُّ لا يَبْلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|