اجتماع طارئ لبعض الصحابة:
"
يا أمير المؤمنين تأتينا الكتب، وقد أُرِّخ بها في شعبان، ولا ندري هل هو في السنة الماضية أم السنة الحالية"، كانت هذه الرسالة كافية؛ لكي يجمع الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحابة في ذلك الوقت لمناقشة حل مشكلة التاريخ للدولة الحديثة.
وبعد اجتماع ساخن ومشاورات اتَّفقوا على اعتماد التاريخ الهجري، وانطلق التاريخ الجديد ليكون معلمًا مهمًّا لهذه الأمة الفتية، وبُناة الحضارة الإنسانية الجُدُد.
وبعد أكثر من 1400 سنة، ومع التقدُّم الهائل للمعارف البشرية وتطوُّراتها، نكتشف أحد أسرار اختيار الهجرة للتاريخ، لقد كان قادة العالم في ذلك الوقت يمتلكون ما وصل إليه البشر بعد سنوات؛ لكن دون تدوين واضح، لقد تشرَّبُوا مدرسة القرآن كتاب رب الأكوان، وتتلمذوا على يد خير المرسلين والمبعوث رحمة للعالمين؛ لذا فلا استغراب في دقَّة الاختيار بعد توفيق الجبَّار.
نعم هكذا هم صُنَّاع الحضارة، فليس ميلاد إنسان ولا وفاته هو الأهم - وإن كان ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم - وليس نزول القرآن الكريم - وهو الكتاب الرباني الوحيد غير المحرَّف - لكن الأهم هو تحويل ذلك المنهج القرآني إلى حضارة بقيادة ذلك المهاجر العظيم صلى الله عليه وسلم، ولعلَّ هذا أحد الأسرار في اختيار الهجرة للتاريخ.
لقد كانت الهجرة بداية لتكوين ثلاثة أمور مهمة لبناء حضارة؛ وهي: المكان أو الأرض التي سيكون عليها منهج الحضارة، ثم ترابط المجتمع الحضاري في نسيج واحد، ثم تحديد طبيعة العلاقات مع المجتمعات والحضارات الأخرى، فكانت المدينة المنورة أول عاصمة للحضارة الإسلامية، وكانت الأخوَّة بين المهاجرين والأنصار بداية تكوين لُحمة اجتماعية قوية بين أبناء الحضارة الجديدة لتأسيس مجتمع واعٍ، وكانت المعاهدة مع اليهود بداية التميُّز الحضاري لتلك الأمة وقدرتها على التعامل مع المحيطين بها وَفْق منهج فريد.
نعم كانت الهجرة النبوية أهم نقطة في بناء البنية الحضارية لأمة قدمت للبشرية نموذجًا رائعًا فاعلًا متحرِّكًا متوازنًا لحضارة إنسانية في كل مناحي الحياة، ولفترة زادت على ثمانية قرون متواصلة، ولا تزال قادرة بإذن الله.
واليوم في القرن الحادي والعشرين علينا - أتباع سيد المرسلين وأحفاد القادة المتمرسين - أن نُعيد بناء الحضارة الإنسانية وَفْق منهج رب البرية، فثمة ثلاث فرص تُلحُّ علينا بشدة لتقديم النموذج الفاعل للحضارة:
الميزان: الخلل في الحضارات الإنسانية في مختلف أشكالها، فالحضارة الغربية والشرقية وما عداها، تفتقد عنصر التوازن في حياة الإنسان، فتلك الحضارة قدمت قمة الرفاهية (
حضارة الأزرار)؛ لكنها في الوقت نفسه تُعاني من المجاعة الرُّوحية والجفاف النفسي، فأعلى نسبة للمنتحرين وأعلى نسبة لمراجعي العيادات النفسية، وأعلى نسبة للمخدِّرات، تَكمُن في تلك الدول أو من تلك الدول.
التواصُل: التواصل البشري الهائل الذي أصبح متاحًا وميسَّرًا بصورة لم تكن في تاريخ البشرية من قبلُ، مما يُتيح سهولة النقل والتناقُل والتعارف بين البشر، وما أجمل التعبير القرآني: ﴿
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]، لاحظ: "الناس" ولاحظ: "لتعارفوا"، ولاحظ "أتقاكم"، إنه الميزان المقاس فيه البشر، والتقوى تشمل نظامَ حياةٍ متكامل وليس محصورًا في عبادات معينة.
المنهج: لقد ارتقت البشرية في منهجية التفكير ومنهجية التحليل، والبحث عن الدليل، فلا قبول لأي فكرة إلا عبر المنطلق العقلي أو المعمل الفني، فلا مجال للخرافات والخزعبلات، ولا يوجد إطلاقًا منهجًا متوازنًا يحثُّ على التفكير العلمي والمنهج العقلي على وجه الأرض، سوى منهج صاحب الهجرة صلى الله عليه وسلم.
وفي الجانب الآخر، لقد قُدنا العالم لأكثر من ثمانية قرون، فمع الجانب النظري لدينا حضارة تطبيقية، نحن لسنا أمة تذوب في الحضارات الأخرى ذوبًا سلبيًّا؛ لكنا أمةٌ تصنع حضارةً لتشارك الآخرين على هذه الأرض.
إن هذه المسؤولية تحتِّم علينا استجماع قوانا، والنظر في تراثنا وإعادة صياغته بما يتناسب مع إنسان القرن الحادي والعشرين، وبمعنى آخر إعادة صناعة حضارتنا وتقديمها إلى العالم، وذلك يتطلب أمرين ضروريين لا غِنى لأحدهما عن الآخر:
1- الاستيعاب: استيعاب منهجنا القويم من مصادره الموثوقة (
القرآن والسنة)، بنظرة متناغمة مع معطيات العصر الحديث، مع المحافظة على غايات النص القرآني والمقاصد العظيمة لتلك الرسالة المجيدة.
2- الإدراك: إدراك أدوات العصر الجديد وطرائق التفكير، والاستفادة مما قدَّمته البشرية في مختلف العلوم، وخاصة في منهجية التفكير والاستدلال، والبحث عن البرهان وَفْقَ المنطق العقلي السليم، فنحن لا نخشى العقل؛ بل نحن أمة العقل ودافعنا لذلك هو النقل، ففي القرآن الكريم أكثر من 1000 آية - سُدس القرآن تقريبًا - تحثُّ عن طلب العلم والتفكر والتدبر، والنظر وغيرها[1]، وهذا بالطبع ليس خاصًّا بالعلوم الشرعية، بل إنه يشمل آيات ربنا الكونية، فكل علم يسهم في تحقيق الاستخلاف الحقيقي والعمران البشري في الأرض، هو غايتنا.
إن البداية في تحقيق ذلك ليست من عندهم؛ إنما من عندنا في تقديم نموذجٍ واقعي يجسد تلك النظريات،
ويشاهدها كل الناس، ولو مصغرًا لتلك البنية الحضارية، وأظن أن أول تجسيد لذلك هو التجسيد الشخصي على مستوى الفرد، ثم على مستوى الأسرة، ثم المجتمع المحلي، حينها لا تحتاج لنشرها عالميًّا؛ وإنما سيلهث العالم وراءك يُناشدك سلامته، ويطمَح منك قيادته.
نعم الطريق قد يكون طويلًا، لكن لا بد منه، ولا خيارات أخرى للمعيشة الرغيدة والحياة السعيدة.
فهل ستكون هجرة المبعوث رحمة للعالمين بداية انطلاق لأتْباعه لإعادة الريادة وتحقيق السعادة لأنفسهم أولًا، ثم للبشرية المتعطشة لهم ثانيًا.
أنا على يقين؛ لأني أراك تأخذ بيدي لنَتشارك في بناء الحضارة على طريقة صاحب الهجرة.