الابتلاء بالشيطان
الحمدُ لله... يعتمد الشيطان الرجيم في حربه للإنسان على القَدَر. فما المقصود بالقدر؟ المقصود بالقدر: ما قدَّره الله تعالى من الصراع بين بني آدم وبينه، فكلُّ ما يجري على هذه الأرض هو مِمَّا كتبه اللهُ سبحانه، والإيمانُ بقدرية الصراع، يغرس في نفس المؤمن الطمأنينة والراحة؛ لأن كلَّ ما يحدث له ليس غائباً عن الله تعالى، بل هو جارٍ بعلمه، وتحت سمعه وبصره، يُحيط بكلِّ ما يدور في جولات المعركة الطويلة.
والقدر في الصراع مع الشيطان نوعان:
1- قدر الابتلاء: وهو ما كتبه الله تعالى اختباراً لعباده.
2- قدر التسلط: وهو ما جعله الإنسانُ على نفسه من اتِّباع سبيل الشيطان، فأصبح له عليه بذلك تسلُّطاً وقُدْرةً[1].
أمَّا عن النوع الأول: وهو قدر الابتلاء:
فالله تعالى يقول: ﴿ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ [سبأ: 21]. ومعنى الآية الكريمة: أنه لا سُلطان له عليهم، ولكن ابتليناهم بوسوسته[2].
أيها المسلمون: إذا تأمَّلنا نصوصَ السُّنة النبوية، سيتَّضح لنا: أنَّ حياة الإنسان لا تخلو في مراحلها المختلفة من ابتلاءٍ من الشيطان وذريَّتِه:
خذ مثلاً - أخي الحبيب - الحكمةَ من خلق إبليس: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ لَوْ شَاءَ أَنْ لا يُعْصَى مَا خَلَقَ إِبْلِيسَ)[3].
وقد جعل اللهُ تعالى الشيطانَ قريناً لكلِّ آدمي؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ). قَالُوا: وَإِيَّاكَ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: (وَإِيَّايَ، إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلاَ يَأْمُرُنِي إِلاَّ بِخَيْرٍ)[4].
قال النووي: (وفي هذا الحديث إشارةٌ إلى التحذير من فتنة القرينِ، ووسوسته، وإغوائه، فأعْلَمَنا بأنه مَعَنا؛ لِنحترزَ منه بحسب الإمكان)[5].
معشر الفضلاء: فلنحذر فِتنةَ القرين، ولنحذر وسوستَه وإغوائه وإغرائه؛ لأنه معنا لا يفارقنا؛ ابتلاءًا وامتحاناً من الله تعالى، فلا بد من مجاهدته، والحذر الشديد من كيده، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ﴾ [النساء: 71]؛ ويقول سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 123]. والشيطانُ من رؤوس الكفر.
ومن قدر الابتلاء بالشيطان: أنَّه يتربَّص ويُؤذي ابنَ آدم مُنذُ وِلادته:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاَّ وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ، إِلاَّ مَرْيَمَ وَابْنَهَا) ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ - وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: 36] )[6].
بل يجري منه مجرى الدم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ)[7].
وكثيراً ما يُوسوس له بُغيةَ إيصاله إلى الكفر والشك؛ يقول النبي: (يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ، فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ، وَلْيَنْتَهِ)[8].
ويستغلُّ ضعفَ الإنسان وحاجتَه للنوم؛ لينال منه عدةَ أمور، منها:
أ- يعقِدُ على قافية رأسه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ مَكَانَهَا: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ)[9].
ب- ويبيت على أنفه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَتَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلاَثًا؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ)[10].
ج- ويؤذيه في منامه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّهِ، وَالْحُلُمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلُمًا يَخَافُهُ فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا؛ فَإِنَّهَا لاَ تَضُرُّهُ)[11].
د- ويحاول أن يسخر منه عند التثاؤب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (التَّثَاؤُبُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَالَ هَا؛ ضَحِكَ الشَّيْطَانُ)[12].
هـ- وينتهز غفلةَ الناسِ في الأسواق؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ! إِنَّ الشَّيْطَانَ وَالإِثْمَ يَحْضُرَانِ الْبَيْعَ، فَشُوبُوا بَيْعَكُمْ بِالصَّدَقَةِ)[13].
وعَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: (لاَ تَكُونَنَّ، إِنِ اسْتَطَعْتَ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ، وَلاَ آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا؛ فَإِنَّهَا مَعْرَكَةُ الشَّيْطَانِ، وَبِهَا يَنْصِبُ رَايَتَهُ)[14].
قال النووي: (شبَّه السوقَ، وفِعْلَ الشيطانِ بأهلها، ونيلَه منهم بالمعركة؛ لكثرة ما يقع فيها من أنواع الباطل؛ كالغش والخِداع، والأَيمانِ الخائنة، والعقودِ الفاسدة، والنَّجَشِ... وبخسِ المكيال والميزان)[15].
ومن قدر الابتلاء بالشيطان:
و- أنه يتواجد على ظهر كلِّ بعير؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (عَلَى ظَهْرِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَانٌ، فَإِذَا رَكِبْتُمُوهَا فَسَمُّوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ)[16].
ولقوله - صلى الله عليه وسلم: (صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، وَلاَ تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الإِبِلِ؛ فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الشَّيَاطِينِ)[17].
ز- والمرأة من أعظم حبائلِ الشيطان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ، وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ)[18].
قال مجاهد - رحمه الله: (إذا أقبلت المرأةُ جلس الشيطانُ على رأسها فزيَّنها لمن ينظر؛ فإذا أدبرت جلس على عَجُزِهَا فزينها لِمَنْ ينظر)[19].
وقال سعيد بن المسيِّب - رحمه الله: (ما أيِسَ الشيطانُ من شيءٍ إلاَّ أتاه من قِبَلِ النساء) وقال - وهو ابن أربع وثمانين سنة، وقد ذهبت إحدى عينيه، وهو يعشو بالأُخرى: (ما شيءٌ أخوفَ عندي من النساء)[20].
عباد الله: إنَّ الحديث عن الفتنة بالنساء يطول، وما ذاك إلاَّ لأنهنَّ أكثرُ انقياداً للشيطان اللعين، فهنَّ حبائلُه ووسائلُه.
وانظر اليوم في الإعلام؛ كيف تُستخدم المرأةُ الاستخدامَ الأسوأ؟!
وقد أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أنهنَّ أكثرُ أهلِ النار، وما دخولُ النار إلاَّ باتِّباع إبليسَ وجندِه، وما اتِّباعُ إبليسَ وجندِه إلاَّ بالتسلُّط عليهنَّ، وما التسلطُ إلاَّ بكثرة المعاصي والذنوب، وتولِّيه هو وحزبَه؛ بما يُزيِّنون ويُحسِّنون.
يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ، فَإِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ)[21].
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (فَإِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ): (أي: زيَّنها في نظر الرجال. وقيل: أي: نَظَرَ إليها لِيُغوِيَها ويُغوي بها. والأصلُ في الاستشراف: رفعُ البصرِ للنظر إلى الشيء، وبَسْطُ الكف فوق الحاجب. والمعنى: أن المرأة يُستقبح بُروزُها وظُهورُها، فإذا خرجت أمْعَنَ النظرَ إليها؛ لِيُغْوِيَها بغيرها، ويغوي غيرَها بها)[22].
ومن قدر الابتلاء بالشيطان:
ح- والشيطان يحضر عند كلِّ شيءٍ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيءٍ مِنْ شَأْنِهِ، حَتَّى يَحْضُرَهُ عِنْدَ طَعَامِهِ)[23].
وعن عبد اللهِ بن دينارٍ قال: خرجتُ مع عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ إلى السوق، فَمَرَّ على جاريةٍ صغيرةٍ تُغَنِّي، فقال: (إنَّ الشيطانَ لو ترك أحداً؛ لتركَ هذه)[24].
الخطبة الثانية الحمد لله... بعد هذا الاستعراض يتبيَّن لنا عدةُ أُمور[25]:
أولاً: الابتلاء بالشيطان هو أمر قدري، مُرتبط بوجود البشر على الأرض، وأن نهايته لن تكون إلاَّ مع نهاية الحياة.
ثانياً: الابتلاء بالشيطان هو كغيره من أنواع البلاء يحتاج إلى الصبر، كي يخرجَ الإنسانُ برصيد يُحسبُ له، لا عليه.
ثالثاً: قدر الابتلاء لا تُجدِي معه المواجهةٌ غالباً، وإنما تُجدِي المواجهةُ مع قدر التَّسلُّط.
رابعاً: الابتلاء بالشيطان يَدخل ضِمناً في الابتلاء العام، من حيثُ كونِه تمحيصاً واختباراً؛ ليَمِيزَ اللهُ به الخبيثَ من الطيِّب، فليس الخَلِيُّ كالشَّجي، وليست النائحةُ كالثَّكلى.
وبعد أنْ عَرَفْنا النوعَ الأول: قدرَ الابتلاء [وهو ما كتبه اللهُ تعالى اختباراً لعباده] ننتقل الآن إلى النوع الآخر: [من القدر في الصراع مع الشيطان] هو قدر التَّسلُّط:
وهو: ما جعله الإنسانُ على نفسه من اتِّباع سبيلِ الشيطان، فتسلَّطَ عليه؛ كما قال سبحانه: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ ﴾ [الحجر: 42]. أي: ليس لك عليهم تسلُّطٌ إلاَّ مَنْ اتَّبََعك من الغاوين.
وقال أيضاً: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ [النحل: 99، 100].
فالله تعالى بحكمته ورحمته، وعلمه وعدلِه لم يجعل للشيطان على الإنسان سلطاناً، حتى جعل له الإنسانُ سبيلاً بطاعته، والشركِ به، فجعل اللهُ حينئذٍ له عليه تسلُّطاً وقهراً.
وعلى هذا؛ فإنَّ السلطان الحقيقي[26] لا يكون إلاَّ على المشركين، وأهل الولاية الشيطانية.
والولايةُ الشيطانية: هي الخضوعُ للشيطان وشرعِه وأمرِه، واتِّباعُ سُبُلِه وما يُزيِّنُه من الشهوات والشُّبهات، ثم الانقيادُ لما يُزيِّنه، والإعراضُ عن ولايةِ الرحمن وحِزبِه، ومُحاربتُهم.
وهذه الولاية الشيطانية تتكرَّر مظاهرُها وصُوَرُها في كلِّ زمانٍ ومكان، بحيث لا يُتصوَّرُ وجودٌ لإبليسَ بدونِ أولياءٍ، وهي: إمَّا: مُوالاةٌ كُفريةٌ، وإمَّا: مُوالاةٌ معصيةٍ وشهوة.
ويحسن التنبيه: على أنَّ الشيطان في محاولةِ التَّسلُّط لا ينتقي أفراداً بعينهم، إنما يُنفِذُ مُحاولاتِه على جميع بني آدم، فمَن استجاب له؛ كان من أهل الغِواية والولايةِ الشيطانية، وذلك بِحَسَبِ الاستجابة.
وأمَّا مَنْ لم يُجِبْهُ في دعوتِه؛ فينقلبُ التَّسلُّط في حقِّه بلاءً، تُرفَعُ به درجاتُه عند ربِّ العالمين[27].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|