قلت ولا أزال: إن الرجال في الإسلام لا يعرفون اليأس من الحياة، وحتى الموت - عينه - يصنعون منه حياةً؛ ولكنها حياةٌ أبديةٌ في نعيمٍ لا ينقطع.. يقاتلون من أجل نشر النور والحق ولا يبالون بالموت.. ذلك لأن موتاً واحداً يخلِّف حيواتٍ لا تُحصى لقلوب دخلها نور الإسلام.. وإذا كنت أطلت النفس قليلاً في محاولة لفهم حركية الطابور الخامس (المنافقون) في أيامنا هذه وجهودهم المخزية في الحرب على الإسلام؛ فإن ذلك كله لكشف وفضح نوعٍ من المخنثين يحيون بيننا، ولكى تتضح لنا النماذج الحقيقية للرجولة فإنه بضدها تتميز الأشياء. جاء في حديث صحيح [1] عن أبي حذيفة - "تكون دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها هم قوم من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا فالزم جماعة المسلمين وإمامهم فإن لم تكن جماعة ولا إمام فاعتزل تلك الفرِق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت كذلك".
لكن الأمر يختلف تماماً حين نتحدث عن مدرسة الرجولة الإسلامية الخاصة التي ترتفع فوق الأعذار، ليأخذ رجالها دورهم اللائق بهم في ركب الحياة، لأنهم بدؤوا بالدرس المحمدي الأعلى في بناء النفوس القوية والعزائم الفتية والهمم العالية...
قال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله عز وجل، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان"[2]...
جاء في عيون الأثر: (أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ كَانَ رَجُلا أَعْرَجَ شَدِيدَ الْعَرَجِ، وَكَانَ لَهُ بَنُونَ أَرْبَعَة مِثْل الأَسَدِ، يَشْهَدُونَ الْمَشَاهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أَرَادُوا حَبْسَهُ (أي منعه، وَقَالُوا: أَنْتَ رَجُلٌ أَعْرَجُ، وَلَا حَرَجَ عَلَيْك، وَقَدْ ذَهَبَ بَنُوك مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: بَخٍ! يَذْهَبُونَ إلَى الْجَنّةِ وَأَجْلِسُ أَنَا عِنْدَكُمْ!)، فَأَتَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ بَنِيَّ يُرِيدُونَ أَنْ يَحْبِسُونِي عَنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالْخُرُوجِ مَعَكَ فِيهِ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَطَأَ بِعَرَجَتِي هَذِهِ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ عَذَرَكَ اللَّهُ، فَلا جِهَادَ عَلَيْكَ" وَقَالَ لِبَنِيهِ: "مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لا تَمْنَعُوهُ، لَعَلَّ اللَّهَ يَرْزُقُهُ شَهَادَةً" فَخَرَجَ مَعَهُ، فَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بن عبد البر فِي خَبَرِهِ قَالَ: فَأَخَذَ سِلاحَهُ وَوَلَّى، فَلَمَّا وَلَّى أَقْبَلَ عَلَى الْقِبْلَةِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي الشَّهَادَةَ، وَلا تَرُدَّنِي إِلَى أَهْلِي خَائِبًا. وَفِيهِ: ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَطَأُ فِي الْجَنَّةِ بِعَرَجَتِهِ، وَقِيلَ: حَمَلَ هُوَ وَابْنُهُ (خَلادٌ) حين انكشف المسلمون فقتلا جميعاً)[3].
( واستشهد ابنه خلّاد بن عمرو، وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر فحملتهم هند بنت عمرو بن حرام زوجة عمرو بن الجموح على بعير لها تريد بهم المدينة، فلقيتها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما - وقد خرجت في نسوة تستروح الخبر، ولم يضرب الحجاب يومئذ، فقالت لها: هل عندك خبر؟ ما وراءك؟ قالت: أمّا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصالح وكلّ مصيبة بعده جلل. ﴿ واتّخذ الله من المؤمنين شهداء وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً ﴾ (الأحزاب 25) قالت عائشة:
من هؤلاء؟ قالت: أخي وابني خلّاد، وزوجي عمرو بن الجموح. قالت: وأين تذهبين بهم؟ قالت: إلى المدينة أقبرهم فيها، ثم قالت: حل حل، تزجر بعيرها، فبرك، فقالت لها عائشة: لما عليه؟ قالت: ما ذاك به لربّما حمل ما يحمل بعيران، ولكن أراه لغير ذلك، وزجرته فقام وبرك، فوجّهته راجعة إلى أحد، فأسرع فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فقال: إنّ الجمل مأمور، هل قال عمرو شيئا؟ قالت: إن عمرا لمّا توجّه إلى أحد قال: اللهم لا تردّني إلى أهلي خائبا وارزقني الشهادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلذلك الجمل لا يمضي، إنّ منكم- معشر الأنصار- من لو أقسم على الله لأبره. منهم عمرو بن الجموح، ولقد رأيته (يطأ) بعرجته في الجنّة، يا هند، ما زالت الملائكة مظلّة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينتظرون أين يدفن"، ثم مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبرهم، ثم قال: "يا هند، قد ترافقوا في الجنة" قالت: يا رسول الله، ادع الله عسى أن يجعلني معهم. )[4].
ثم إن الكلمات لتتوقف في الحلق؛ تعجز أن تصف هذا المعنى العالي للرجولة التي - كما قلت- تمتزج بطريقةٍ عجيبةٍ بالبطولة في رجالٍ يتسامون فوق ذواتهم.. يقفون على قمم جبال البطولة؛ حانين رؤوسهم لخالقهم؛ مُكَبِّرين باسمه؛ يحملون أغلى التضحيات على أكفهم؛ يرون أنفسهم مقصرين...
بالنسبة لعمرو بن الجموح رضي الله عنه، فلم يكن الموقف ليصنع رجلاً، أو ليبرزه، ولم يكن الرجل فيه وليد الصدفة، والبطولة بنت اللحظة.. لقد كان - ودائماً - الرجل والبطل منذ صنعه الإسلام على عينه، وأعده لصنع المواقف والمآثر.. لقد خلف بالفعل أربعة أسود يصولون بسيوفهم رفعةً للإسلام؛ وهم لا شك في موازينه يوم القيامة، وهو الأعرج لا حرج عليه في الجهاد.. ولكنه المبدأ عند الرجل يرتسم في قوله: (بَخٍ! يَذْهَبُونَ إلَى الْجَنّةِ وَأَجْلِسُ أَنَا عِنْدَكُمْ!، يَقُولُ: اللهُمّ لَا تَرُدّنِي إلَى أَهْلِي خائباً!).. وكأنه ذاهب إلى رحلة ممتعة يحس فيها جمال الحياة ويشم زهرة الدنيا! إنها حرارة السيوف، ومقاساة الطعنات.. تطاير الرؤوس.. وانفصال الأيدي والأرجل.. وإنه العازم المصمم بلا خوف أو تردد.. أي بطلٍ هذا الشيخ الكبير المبتلى المعذور يقول (وَاَللهِ إنّي لَأَرْجُو أَنْ أَطَأَ بِعَرْجَتِي هَذِهِ الْجَنّةَ!).. دعوى قعوده هي عينها دافع جهاده.. إن الرجل وقد ضعفت رجلاه عن حمله ولكن عزيمته تحمل الجبال وتنقلها من مكانها. وليس الأمر عند تربى في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم - فلتة من فلتات التاريخ؛ ولكنه نهج منتظم يصنع الأبطال كل حين.. فقد روى لنا الْبَغَوِيّ فِي (الصَّحَابَة): أَن النُّعْمَان بن قوقل - رضي الله عنه - قَالَ يَوْم أحد: أَقْسَمت عَلَيْك يَا رب أَن لَا تغيب الشَّمْس حَتَّى أَطَأ بعرجتي فِي الْجنَّة، فاستشهد ذَلِك الْيَوْم، فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لقد رَأَيْته فِي الْجنَّة) وفي رواية "إن النعمانَ ظَنَّ باللهِ عزَّ وجلّ ظناً فوجدَه عند ظنِّه، ولقد رأيتُه يطأُ في خُضرِها ما به عرج"[5].. وهذا آخر يقسم الله فيبره.. وما ذلك إلا بركة صدقهم وإخلاصهم في الذب عن الحق اعتقاداً وقولا وعملاً... ولعله بعينه الرجل الذي التف بالصدق حين التزم الإسلام ديناً، فلم يجاوز قوله عمله قيد أنملة فنجا.. فعن جابر: أن النعمان بن قوقل جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رَسُول اللَّهِ، أرأيت إن صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وحرمت الحرام، وحللت الحلال، لَمْ أزد عَلَى ذَلِكَ شيئا، أدخل الجنة؟ قال: نعم. قال: فو الله لا أزيد عليه شيئا)[6].. وكم - والله - للصدق ذلك الخُلُق المُضيَّع في أزمنة أنصاف الرجال.. كم له من كرامات.. قَالَ السهيليّ: " أَنه لما خرج عمرو بن الجموح -رضى الله عنه- قَالَ: اللَّهمّ لَا تردني، فاستشهد، فَجعله بنوه على بعير ليحملوه إِلَى الْمَدِينَة، فاستصعب عَلَيْهِم الْبَعِير، فَكَانَ إِذا وجهوه إِلَى كل جِهَة سارع إِلَّا جِهَة الْمَدِينَة، فَكَانَ يَأْبَى الرُّجُوع إِلَيْهَا، فَلَمَّا لم يقدروا عَلَيْهِ، ذكرُوا قَوْله: اللَّهمّ لَا تردني إِلَيْهَا، فدفنوه فِي مصرعه"[7].. وكأن الرجل الصادق قد ضمن له ربه - بإيمانه وإخلاصه - ألا يرده إلى أهله خائباً، بل أن يطأ خضرةَ الجنة يرتع فيها برجله صحيحةً كما صحح في سبيل الله تعالى - إيمانه وعمله.. وقال ابن الجوزي في المنتظم: (وَنقل أَن عَمْرو بن الجموح وَعبد الله بن عَمْرو ابْن حرَام دفنا فِي قبر وَاحِد فخرب السَّيْل قبرهما فحفر عَنْهُمَا بعد أَرْبَعِينَ سنة فوجدا لم يتغيرا كَأَنَّمَا مَاتَا بالْأَمْس).. هؤلاء هم شهداء الرحمن سبحانه جاوزوا بصدقهم إغراء الحياة أحياءاً، فجاوز الله بهم نواميسها أمواتاً؛ ﴿ بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ الْقُشَيْرِيُّ فِي صَحِيحِهِ: بسنده، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ ابن مسعود عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ فَقَالَ: أَمَا إنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اطِّلاعَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ فَقَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا؟ فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا: يَا رَبِّ، نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا"... قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُويَه: بسنده، عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَظَرَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: "يَا جَابِرُ، مَا لِي أَرَاكَ مُهْتَما؟ " قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ دَينا وَعِيَالًا. قَالَ: فَقَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكَ؟ مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإنَّهُ كَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا -قَالَ عَلِيٌّ بن المدينى: الكفَاح: الْمُوَاجَهَةُ - فَقَالَ: سَلْني أعْطكَ. قَالَ: أَسْأَلُكَ أنْ أُرَدَّ إلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِيْكَ ثَانِيَةً فَقَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: إنَّهُ سَبَقَ مِنِّي الْقَوْلُ أنَّهُمْ إلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ. قَالَ: أيْ رَبِّ: فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي. فَأَنزلَ اللهُ (عَزَّ وجَلَّ) ﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ﴾ الْآيَةَ... قَالَ الْبُخَارِيُّ: بسنده، عن جابر قَالَ: لَمَّا قُتِل أَبِي جعلتُ أَبْكِي وأكشفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ، فَجَعَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ينْهَوني وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْه، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَبْكِهِ - أَوْ: مَا تَبْكِيهِ - مَا زَالَتِ الْملائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأجْنِحَتِها حَتَّى رُفِعَ"[8]... ألم أقل لك كم للصدق من كرامات ٍ.. وليس كما يدعي أهل البدع والخرافات.. (وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم مثل ذلك لأنس بن النضر عم أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم "فإنه لما كسرت أخته الربيع ثنية جارية من الأنصار فطلب أهلها القصاص، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسر ثنية الربيع قال أخوها أنس المذكور والله لا تكسر ثنية الربيع، وصار كلما يقول صلى الله عليه وسلم: كتاب الله القصاص، يقول والله لا تكسر ثنية الربيع، فرضي القوم بالدية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه" وقال صلى الله عليه وسلم ذلك في حق البراء بن مالك أخي أنس بن مالك رضي الله عنهما. فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ربّ أشعث أغبر لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبرّه منهم البراء بن مالك" ومصداق ذلك ما وقع له رضي الله عنه في مقاتلة الفرس، فإن الفرس غلبوا المسلمين فقالوا له: يا براء أقسم على ربك، فقال: أقسم عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وألحقتني بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، فحمل رضي الله عنه وحمل المسلمون معه فقتل عظيم الفرس وانهزم الفرس، ثم قتل البراء رضي الله عنه)[9].
فلله، كم شيد أهل الصدق في التاريخ صروحاً لم تكن لغيرهم، وصنعوا للرجولة معنى لم يكن لها يوماً.. قوةً وصلابة في الحق، وصموداً في وجه كل باطلٍ حتى يطهر الله تعالى منه الأرض جميعاً.. فهلا يَعتبرُ أنصاف الرجال، ومدَّعو الرجولة؟