البشارات المحمدية في كتب أهل الكتاب
إثباتُ نبوة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يتوقَّف على تلك البِشارات الوارِدة في تلك الكتب المُحرَّفة، فنبوَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - قد قامَت على ثُبوتِها وصحَّتِها الأدلةُ اليقينية العقلية والنقلية والحسِّيَّة، وما عرضْنا لتلك البشارات إلا لمزيدٍ من التأكيد على اتِّحاد كل الأدلة على إثبات نبوته - صلى الله عليه وسلم.
في هذا المقال والمقالات التالية سنَعرِض بعض البشارات بالنبيِّ محمد - صلى الله عليه وسلم - والتي جاءت في كتُبِ اليَهود والنصارى - التوراة والإنجيل - تُنبئ بقدومه، وتُبشِّر برسالته، وتُعطي بعض أوصافه، وقبل الشروعِ في عرضِ تلك البشارات أحبُّ التنبيه على ما يلي:
أولاً: أن مُعتقدَنا - نحن المسلمين - أن كتَبَ اليهود والنصارى قد طالتْها يدُ التحريف حذفًا وزيادةً واستِبدالاً؛ ومن ثم فهي ليست حُجةً لدينا الآن، لكنَّنا نقوم بعرض تلك البشارات؛ احتجاجًا على مَن يُؤمِنون بهذه الكتب من جِهة، ولإدراكنا أن هذه الكتبَ ما زالت تشتمل على أجزاء لم تحرَّف من جهة أخرى.
ثانيًا: إثبات نبوة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يتوقَّف على تلك البشارات الواردة في تلك الكتبِ المحرَّفة، فنُبوَّةُ محمد - صلى الله عليه وسلم - قد قامت على ثبوتها وصحتها الأدلةُ اليقينيَّة العقلية والنقلية والحسية، وما عرَضْنا لتلك البشارات إلا لمزيد من التأكيد على اتحاد كل الأدلة على إثبات نبوته - صلى الله عليه وسلم - ولإقامة الحُجَّة على المخالفين من أهل الكتاب بما يعتقدون صحته.
ثالثًا: أخبَرَنا القرآن الكريم بوجود بشارات واضِحة بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - في التوراة والإنجيل، منها ما يُصرِّح باسمه، ومنا ما يَذكُرُه بوصفِه.
فقد قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: 157].
وقال سبحانه: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [الصف: 6].
وقال سبحانه: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 29].
لكنَّنا لا نجد الآن هذه البشارات المصرِّحة باسمِ النبيِّ محمد - صلى الله عليه وسلم - في التوراة والإنجيل؛ بسبب عمليات التغيير والتحريف المُستمِرةِ لهذه الكتُب، والمُحاولات المتواصِلة لطمسِ هذه البشارات، والتي سنُلقي الضوء على بعضٍ منها - بإذن الله تعالى.
وممَّا يدلُّ على ذلك ما ذكَرَه ابن تيمية - رحمه الله - عقب سردِه لبشارة طويلة بالنبيِّ محمد - صلى الله عليه وسلم - منقولة عن النبي دانيال؛ حيث قال: "ثم سرَد دانيال قصة رسول الله حرفًا حرفًا ممَّا أملاهُ عليه الملك، حتى وصل آخر أيام أمَّته بالنفخة وانقِضاء الدنيا، ونبوته كثيرة[1]، وهي الآن في أيدي النصارى واليهود يقرؤونها، ومهما وصفْنا ممَّا ذكَره الله من وصف هذه الأمة ونبيِّها واتِّصال مملكتهم بالقيامة - قلت: فهذه نُبوَّة دانيال فيها البشارة بالمَسيحِ، والبشارة بمحمَّد، وفيها مِن وصفِ محمد وأمته بالتفصيل - ما يطول وصفه، وقد قرأها المسلمون لما فتحوا العراق كما ذكر ذلك العلماء.."[2].
فابن تيمية يذكر لنا أن نُبوءة دانيال الطويلة التي تبشِّر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كانت في عصره موجودة في العهد القديم يَقرؤها اليهود والنصارى، وقرأها المسلمون أيضًا، ولكننا بعد البحث لا نجد هذه النبوءة الآن في العهد القديم ولا غيره؛ لأن يدَ التحريفِ قد حذفتها.
وعلى الرغم من كل محاولات الطمسِ والتحريف للبشارات بالنبيِّ محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا أن الكثير منها لا زالت موجودة في كتب أهل الكتاب، أو ما يُسمَّى مجازًا الآن بـ"الكتاب المقدس" عند اليهود والنصارى، سواء في العهد القديم الذي يؤمِن به اليهود والنصارى، أو في العهد الجديد الذي يؤمِن به النصارى فقط.
وسنَعرِض نماذجَ من هذه البشارات مع عَزْوِها وتوثيقِها، مع تناولها بالشرح والتوجيه باختِصار.
وأحبُّ التنبيهَ هنا على أنَّني لم أقصِد أن أستقصيَ كل البشارات بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث لا يتَّسعُ المقام - الذي يغلب عليه الاختصار - إلى استِقصائها وذِكرِها جميعًا، لكنَّني أؤكِّد أن العشَرات بل المئات من البشارات لا تزال موجودةً في كتب أهل الكتاب إلى وقتِنا هذا، وقد تناولها العلماء والباحثون بالعرض والنقد والشرح والتوثيق في كتُب ومصنَّفات مستقلَّة[3].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|