مشاهدة النسخة كاملة : خطبة الجمعة تحت عنوان عناية القرآن الكريم بالزمن وحديثه عن الأيام والسنين


عازف الناي
12-27-2022, 03:10 PM
خطبة الجمعة القادمة تحت عنوان ( عناية القرآن الكريم بالزمن وحديثه عن الأيام والسنين ) بتاريخ 6 جمادي الآخر 1444 هـ، 30 ديسمبر 2022م
إقرأ في هذه الخطبة
أولا : عناية القرآن الكريم بالزمن والايام ثانيا : عناية السلف الصالح بالزمن
الخطبة الأولي
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خِلْفة لمن أراد أن يذَّكر أو أراد شكوراً ، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وخلق كل شيء فقدره تقديراً، واتخذوا من دون الله آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له أقسم بالعصر والضحى والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا فسبحانه حين تمسون وحين تصبحون وله الحمدُ في السماواتِ والأرض وعشيا وحين تظهرون سبحانه لم يزل سميعا بصيرا .
واشهد ان محمدا عبده ورسوله بعثه الله تبارك وتعالى هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار، وصحابته الكرام، وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد:
فإن الزمن، هو مصطلح قديم يدل على مرور الأحداث في فترات معينة، لذلك الذي يمر من هذا الزمن لا يمكن أن يعود.
فمفهوم الزمن في اصطلاح علماء المسلمين مرتبط بمعناه اللغوي فهو يعني: ساعات الليل والنهار، مما يتكون منها ويشمل ذلك الطويل من المدّة والقصير منها. وبذلك عرفه الزركشي إذ يقول: "إن الزمان الحقيقي هو مرور الليل والنهار، أو مقدار حركة الفلك".
أولا : عناية القرآن الكريم بالزمن والأيام
لو بحثنا في القرآن الكريم فإننا نجد أنه لم يستخدم مصطلح «الزمن» ، وإنما وردت فيه ألفاظ دالة على الزمن، ومن ذلك:
الوقت. قال تعالى: (قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ).
الحين. قال تعالى: (أَلا حينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ).
الدهر. قال تعالى: (هلْ أَتَى عَلَى الإنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ).
الأيام . قال تعالي ( وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم:5]، ومعنى أيام الله: وقائع الله في الأمم السالفة، والأيام التي انتقم فيها من الأمم الخالية لتعتبروا.
الساعة . قال تعالى ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) الأعراف
الحقبة . والحقبة مدة من الزمن قيل أربعون سنة وقيل أكثر قال تعالى ( لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) النبأ
السنة والعام . قال تعالى ( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) الشعراء
الْعَامُ يطلق على السعة والرّخاء أمّا السَّنَةُ فتطلق على الشدة والكرب والضيق، ومن ذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا» سورة العنكبوت: الآية 14
والوقت مقدار من الزّمان وكلّ شيء قدرت له حينا فهو موقت، وكذلك ما قدرت له غاية فهو موقت، ولقد ذكر الوقت في كتاب الله تعالى في ثلاث عشرة آية يذكر الله تعالى فيها قيمة الوقت، ففي سورة المرسلات: وَإِذَا الرُّسُلُ أُقّتَتْ لايّ يَوْمٍ أُجّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ [المرسلات:11-13]. أي أن الله تعالى جعل للرسول ميقاتاً يفصل بينهم وبين أممهم وقال تعالى في سورة الحجر حينما أعطى إبليس مهلة من الوقت فقال: قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [الحجر:37-38].
ومما يدّل على أهمية الزمن ، وعناية القرآن الكريم به، أنَّ الله سبحانه وتعالى جعل الليل والنهار وتعاقبهما واختلافهما في الطول والقِصر من الآيات الدالّة على وجوده، فقال في ذلك ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) ال عمران .
فالليل والنهار آيتان دالتان على وجود الصانع، وعظيم القدرة، لأنه لابُدَّ لكلّ مُتغيِّر من مُغيِّرِ.
عباد الله : لقد عُني القرآن لقد الكريم بالزمن عنايةً فائقة، وجاءت عنايته بالزمن من وجوه، من أهمها:
1 ـ أقسم القرآن الكريم بالزمن وبمفرداته، ففي القسم بالزمن أقسم بالعصر، وفي القسم بمفرداته أقسم بالفجر والصبح والضحى والشفق والليل والنهار والليالي العشر ويوم القيامة والعمر في مواضع كثيرة من القرآن الكريم.وفي ذلك "تنبيه على أنه آية كبرى من آيات الله، وتنبيه على عِظَم نفعه ووجوب استغلاله ، والإفادة من كل أجزائه، ولا شك أنَّ الله العظيم لا يقسم بشيء إلا إذا كان هذا الشيء عظيماً
لبيان أهمية الزمان قال الله سبحانه وتعالى:﴿وَالْعَصْرِ ١ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ٢﴾ العصر
وقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} الليل وقوله: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} الفجر، وقوله: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} الضحى
ذاك كله يذكّر الإنسان بقيمة الوقت، ويوقظ فيه الإحساس بأهمية الزمن، فإن هذا الزمن إذا مضى لا يعود، وسرعان ما يمضي وينقضي، وما أحسن ما قاله الحسن البصري يرحمه الله في قوله البليغ: "ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزوّد مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة".
وكم يتمنى الناس وكم يتلهف الشيوخ على الشباب وأيامه:
ألا ليت الشباب يعود يوما…فأخبره بما فعل المشيب
بل انه امتن علي خلقه بمعرفة الزمن ليعلم الناس أعمارهم ومقدارها وأعمالهم ومدتها فقال جل شأنه ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) الاسراء
2 - من عناية القرآن الكريم بالزمن أنه عد الزمن من النعم العظيمة
يقول الله سبحانه في معرض الامتنان، وبيان عظيم فضله على الإنسان ( وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) النحل
فالليل والنهار نعمة جليلة أنعم الله تعالى بها على الإنسان، وهي نعمة ذات أثر حاسم في حياة هذا المخلوق البشري، ولا يمكن لنا أن نتصوَّر في هذه الأرض حياة للإنسان لو كانت الدنيا نهاراً بلا ليل، أو ليلاً بلا نهار
وعن عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نِعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفراغُ))؛ (البخاري: 6412)
فقيمة الزمن تكمن في أن الله عز وجل جعله فرصة للإيمان، والعمل الصالح، وهما سبب السعادة في الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) [الفرقان:62].
وروى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ، حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً»
والوقت من أعظم نعم الله على عبده، فينبغي استغلاله في طاعة الله والتزود للقائه، فبالاجتهاد في الأوقات فاز المجدون، وسبقوا إلى رضوان الله وجنات النعيم، وبتضييع الأوقات خسر المبطلون واللاهون، وتأخروا في السباق، وفاتهم الركب جعله الله ليستفيد منه العباد
عن ابي بكر الصديق رضي الله عنه قال سُئِلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أيُّ النَّاسِ أفضَلُ؟ أو قال: خَيرٌ؟ قال: مَن طال عُمُرُه، وحَسُنَ عَمَلُه. قيلَ: فأيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قال: مَن طال عُمُرُه، وساءَ عَمَلُه.
فإن العبد في الدنيا بين مَخَافَتَيْن: بين أَجَلٍ قد مضى لا يدري ما الله صانعٌ فيه، وأجلٍ قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليأخذ العاقل من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الفراغ قبل الشُّغل، فو الذي نفسي بيده ما بعد الموت من حِيلة، وما بعد الدنيا إلا الجنة أو النار.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: " اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ» مستدرك الحاكم - على شرط البخاري ومسلم
ولا تؤجّلوا الخير والطاعة إلى سنّ الكبر، فقد كان يأمر بالمبادرة إلى العمل قبل حلول العوائق والفتن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا يَنْتَظِرُ أَحَدُكُمْ إِلَّا غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوِ الدَّجَّالَ وَالدَّجَّالُ شَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةَ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ» المستدرك على الصحيحين
قال الوزير يحيى بن هُبَيرة البغدادي رحمه الله:
والوقْتُ أَنْفَسُ ما عَنِيتُ بِحِفْظِهِ وَأَرَاهُ أسهَلَ ما عليك يَضِيعُ
إنَّا لَنَفْرَحُ بالأيَّامِ نقطَعُهَا وكلُّ يومٍ مضَى جُزْءٌ من العُمْرِ
يقول ابن الجوزي في كتابه المدهش
(إِلَى حتفي سعى قدمي ... أرى قدمي أراق دمي)
(فَمَا أَنْفك من نَدم ... وَهَان دمي فها ندمي)
إستلب زَمَانك يَا مسلوب وغالب الْهوى يَا مغلوب وحاسب نَفسك فالعمر مَحْسُوب وامح قبيحك فالقبيح مَكْتُوب وَاعجَبا لنائم وَهُوَ مَطْلُوب ولضاحك وَعَلِيهِ ذنُوب
أَيْن الدُّمُوع السواجم قبل المنايا الهواجم أَيْن القلق الدَّائِم للذنوب القدايم أَتَرَى اثرت الملاوم فِي هَذِه الأقاوم أَيهَا الْقَاعِد وَالْمَوْت قَائِم أنائم أَنْت عَن حديثنا أم متناوم لَا بُد وَالله من ضَرْبَة لَازم تقرع لَهَا سنّ نادم لَا بُد من موج هول متلاطم يُنَادي فِيهِ نوح الأسى لَا عَاصِم لَا بُد من سقم السَّالِم ينسى فِيهِ يَا أم سَالم
يَا من أنفاسه مَحْفُوظَة وأعماله ملحوظة أينفق الْعُمر النفيس فِي نيل الْهوى الخسيس يا هذا ان عمرك كل يَوْم ينتهب أما الْمُعظم مِنْهُ قد ذهب فِي أَي شَيْء فِي جمع الذَّهَب تبخل بِالْمَالِ والعمر تهب يَا من إِذا خلا تفكر وَحسب فَأَما نزُول الْمَوْت فَمَا حسب لَك نوبَة لَا تشبه النوب بَين يَديك كربَة لَا كالكرب تطلب النجَاة وَلَكِن لَا من بَاب الطّلب تقف فِي الصلاة وصَلَاتك عجب الْجِسْم حَاضر وَالْقلب فِي شغب
3 _ من عناية القران بالزمن ارتباط العبادة بالزمن في حياة المسلم
وعلى رأس تلك العبادات الصلوات الخمس، التي قال الله فيهن: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]
كذلك الزكاة في وقت محدد، قال عز وجل: وَءاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]
والصيام في وقت محدد قال الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]
والحج في وقت محدد كما قال الله عنه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]
وكذلك الأذكار والنوافل التي يتعبد بها المسلمُ إلى ربّه في كل صباح ومساء، بل في كل حين وعلى كل حال، تحقيقاً لقول الله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17، 18] ، وقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41، 42] وغيرها كثير.
4 ـ عُني القرآن الكريم بالزمن، فعدّه من الآيات الدالة على وجود الله، كما أشار القرآن الكريم إلى قيمة الزمن، وحثّ على استثماره في الخير ثم تبعها بإشادته بحُفاظ الوقت، الذين عمروه بما ينبغي أن يكون، تأمل هاتان الآيتان يقول ربنا جل وعلا {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190، 191]
كان ابن مسعود يقول: (ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي).
وقال الحسن البصري: لقد أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد حرصاً منكم على أموالكم. ويقول: يا ابن آدم إنك أيام مجموعة، إذا ذهب يوم ذهب بعضك.
وقال عمر بن عبد العزيز: يا ابن آدم إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما. ويقول آخر: من كان يومه كأمسه فهو مغبون.
5 ـ ومن أساليب القرآن في التنويه بشأن الزمن : أن الله تعالى بيّن أن هذه الحياة ليست لقضاء الوقت بشيء غير نافع فقال تعالى : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] فعمر الإنسان هو موسم الزرع في هذه الدنيا وحصاد مازرع يكون في الآخرة فلا يحسن للمسلم أن يضيع أوقاته وينفق رأس ماله في ما لا فائدة به ومن جهل قيمة الوقت الآن فسيأتي عليه حين يعرف فيه قدره ونفاسته وقيمة العمل فيه ولكن بعد فوات الأوان).
فمن حافظ على وقته ترقى في درجات الكمال، ومن أضاع وقته نزل في دركات الوبال، ومن لم يتقدم فهو في تأخر، ومن لم يتقدم إلى الجنة بالأعمال الصالحة تأخر إلى النار بالأعمال السيئة، فخسر الدنيا وخسر الآخرة.
ولذلك اختص سبحانه بعض الأزمنة بالفضل، وهي إضافة إلى الأزمان المقسَم بها: الأشهر الحُرُم وشهر رمضان وليلة القدر وأيام التشريق ويوم الجمعة ووقت السحر. وتخصيص هذه الأزمنة بالفضل حريٌّ به أن يشجع المسلم على الإفادة منها في الخير، واستثمارها في العمل الصالح.
6 ـ ومن الأساليب العجيبة في حديث القرآن عن الزمان ، حديثه عن الذين تندموا على ضياع وقتهم في غير مرضاة الله، اقرأ، وتدبر ـ يا عبدالله ـ كيف ذكر القرآن موقفين للإنسان يندم فيهما على ضياع وقته حيث لا ينفع الندم:
الأول: ساعة الاحتضار: حيث يستدبر الإنسان الدنيا ويستقبل الآخرة ويتمنى لو منح مهلة من الزمن وأخر إلى أجل قريب ليصلح ما أفسده ويتدارك ما فات؛ قال تعالى :{حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون 99-100].
الثاني في الآخرة: حيث توفى كل نفس ما عملت وتجزى بما كسبت ويدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وهناك يتمنى أهل النار لو يعودون مرة أخرى إلى حياة التكليف ليبدؤوا من جديد عمل صالحاً قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ(36)وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ}[فاطر 36-37]
وما هذه الحياة التي عاشوها يا ترى؟ استمع: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ}[المؤمنون: 112، 113]
بل هي أقل ـ بالنسبة لعمر الدنيا الطويل مع الآخرة ـ : {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)}[الروم: 55].
روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ النبي بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل))، وروى الترمذي وغيره عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قال . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا»
ثانيا : عناية السلف بالزمان
وقد كان السلف الصالح، ومن سار على نهجهم من الخلف، أحرص النّاس على كسب الزمن، والإفادة منه في الخير، فقد كانوا ينافسون الزمان، يُسابقون الساعات، ويبادرون اللحظات، حرصاً منهم على الزمن، وعلى ألا يذهب منهم هدراً. والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، نذكر فيما يلي بعضاً منها:
نُقل عن عامر بن عبد قيس أنَّ رجلاً قال له: كلِّمني، فقال له: أمسك الشمس. يعني أوقف لي الشمس واحبسها عن المسير حتى أكلمك، فإن الزمن دائب المضيّ، لا يعود بعد مروره، فخسارته لا يمكن استدراكها، لأنَّ لكل زمن ما يملأه من العمل.
وكان الواحد منهم يحفظ كل لحظة من زمنه حتى في حال النـزاع فقد نُقل في ذلك عن ثابت البُناني أنه قال: ذهبتُ أُلقِّن أبي، فقال: يابني دعني؛ فإني في وِرديَ السادس.
كما يروي الفقيه أبو الحسن الولوالجي، أنه دخل على أبي الريحان البيروني، وقدْ حَشْرَجَ نَفَسُه، وضاق به صدره، فقال لي في تلك الحال: كيف قلت لي يوماً حساب الجدّات الفاسدات؟ فقلت لـه إشفاقاً عليه: أفي هذه الحالة؟ قال لي: يا هذا أُودِّع الدنيا وأنا عالمٌ بهذه المسألة، ألا يكون خيراً من أن أخلّيها وأنا جاهلٌ بها؟ فأعدتُ ذلك عليه، فحفظ، وعلّمني ما وعد، وخرجتُ من عنده، وبينما أنا في الطريق سمعتُ الصراخ عليه.
نعم انهم كانوا يبخلون بأوقاتهم وأنفاسهم أن تنفق في غير طاعة الله عز وجل، وكانوا أحرص على أوقاتهم من حرصنا على دنانيرنا ودراهمنا .
لقد كان ثابت البناني يستوحش لفقد التعبد بعد موته فيقول: يا رب إن أذنت لأحد أن يصلى في قبره فأذن لي.
وفي ذلك يقول الحسن البصري رحمه الله: "يا ابن آدم، إنما أنت أيام، كلما ذهب يومٌ ذهب بعضُك".:
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "الوقت منقضٍ بذاته منصرمٌ بنفسه، فمن غفل عن نفسه تصرّمت أوقاته وعظم فواته واشتدّت حسراته، فكيف حاله إذا علم عند تحقق الفوت مقدار ما أضاع، وطلب الرجعى فحيل بينه وبين الاسترجاع، وطلب تناول الفائت؟! وكيف يُردُّ الأمس في اليوم الجديد؟! وأنىَّ لهم التناوش من مكان بعيد؟!".
ولذلك قال بعض السلف: من فاته طاعة الله بالليل كان له من أول النهار مستعتب، ومن فاته طاعة الله بالنهار كان له من أول الليل مستعتب.
ودلت السنة النبوية الشريفة كذلك على أهمية الزمن وخطره عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَزُولُ قَدِمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: عَنْ عُمُرُهِ فِيمَا أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ عَلِمهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟ " المعجم الكبير.
ودخلوا على الجنيد عند الموت وهو يصلي قال: الآن تطوى صحيفتي.
يروي ابن حجر في الإصابة أن ضرار بن ضمرة قدم يومًا على معاوية فقال له: صف لي علي بن أبي طالب، فكان مما قال فيه : فإنه ـ والله ـ كان بعيد المدى شديد القوى، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل وظلمته، كان ـ والله ـ غزير الدمعة طويل الفكرة، يقلب كفه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، أشهد بالله أني رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه وهو قائمٌ في محرابه قابضًا لحيته، يتململ تململ المريض، ويبكي بكاء الحزين، وهو يقول: (يا دنيا، يا دنيا، أبي تعرضت، أم لي تشوفت؟! هيهات هيهات، غرِّي غيري، قد طلقتك ثلاثًا، لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير، آه من قلة الزاد وبُعد السفر ووحشة الطريق)، قال: فذرفت دموع معاوية وهو ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء
قال الحسن البصري: نعمت الدار الدنيا كانت للمؤمن وذلك لأنه عمل فيها قليلا وأخذ منها زاده إلى الجنة، وبئست الدار الدنيا كانت للكافر والمنافق، وذلك لأنه أضاع فيها لياليه، وأخذ منها زاده إلى النار.
وبكى أحد الصالحين عند موته فسئل عن سبب بكائه فقال: أبكي لأن يصوم الصائمون ولست فيهم، ويصلي المصلون ولست فيهم.
فهو يبكي لأنه يفارق الدنيا فيصوم الصائمون وليس هو فيهم، ويصلي المصلون وليس هو فيهم، ونحن والله في الدنيا يصوم الصائمون ولسنا فيهم، ويصلي المصلون ولسنا فيهم.
فأين وصفنا من هذه الأوصاف؟ وأين شجرة الزيتون من شجر الصفصاف؟ لقد قام القوم وقعدنا، وجدوا في الجد وهزلنا، ما بيننا وبين القوم إلا كما بين اليقظة والنوم.
عباد الله أين وصفنا من هذه الأوصاف، أين شجرة الزيتون من شجر الصفصاف.
لقد قام القوم وقعدنا، وجدوا في الجدّ وهزلنا، ما بيننا وبين القوم إلا كما بين اليقظة والنوم لا تعرضن بذكرنا في ذكرهم ليس السليم إذا مشى كالمقعد
يا من بدنياه انشغل وغره طول الأمل الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جمع وترتيب / ثروت سويف / امام وخطيب ومدرس

حكاية ناي ♔
12-28-2022, 08:50 AM
جزاك الله خير

فتاة بلا قلب
12-30-2022, 07:47 AM
جزاك الله خيرًا
وبارك فيك