عازف الناي
08-24-2022, 09:20 PM
بسم الله الرحمن الرحيم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نواصل في حديثنا اليوم الدخول في صلب موضوع برنامجنا “البنيان المرصوص”. ماذا نعني بالبنيان المرصوص؟
كلنا قد نظر ورأى إلى صفوف المصلين وخاصة في الحرم المكي على وجه التحديد وكيف قد استوت الصفوف وتراصّت وكأنها بالفعل بنيان مرصوص. هذه الصورة العظيمة المهيبة التي لا ينبغي أن تفارق أبداً مخيّلة أيُّ إنسان مسلم منا هي التي قال الله عنها في سورة الصف (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) الصف).
هي تلك الصورة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته حيث قال “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً” (وشبَّك بين أصابعه صلى الله عليه وسلم).
إذاً هو البنيان، أنا وأنت بكل معتقداتنا بكل إيماننا بكل توجهاتنا بكل عبادتنا لله عز وجل نشكِّل ولا بد أن نشكِّل لبِنَة في ذلك البنيان المرصوص. لا يكفي فقط إيماني أو التزامي في نفسي وعبادتي وأنا بعيد عن ذلك البنيان وأنا مجرد لبنة مبعثرة لا تشكِّل صفاً مرصوصاً بجانب بعضه البعض.
هذه الأمة أفراد وجماعات أريد لها أن تكون أمة، أريد لها في بنيانها أن تشكِّل بنياناً مرصوصاً حرص النبي صلى الله عليه وسلم عليه أشد الحرص، ولذا جعل هذه العبادة المغيبة عن مخيّلة الكثيرين اليوم جعلها عبادة حقيقية في واقعنا عبادة وفريضة على كل واحد منا أن يقوم بتأديتها، على كل واحد منا أن يبيّت النية الصادقة والعزم على أن يشكِّل لبِنة حقيقية في ذلك البنيان المرصوص.
اُنظر على سبيل المثال إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول: “ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم” ويتعجب الواحد منا ثلاثة يأخذون وينالون أشد العذاب والعقاب يوم القيامة لا يكلّمهم الله ولا ينظر إليهم! وتستغرب حين تسمع مَنْ هؤلاء الثلاثة،
“رجلٌ حَلَف على سلعة لقد أُعطيَ بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجلٌ حلف على يمين كاذبة بعد العصر -وهو كاذب- ليقتطع بها مال إمرئ مسلم، ورجلٌ منع فضل ماء فيقول الله يوم القيامة اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك”
هذا الحديث العجيب يتحدث عن أناس من المسلمين لم يكن الهمّ الأساس في حياتهم وفي تعاملهم وفي بيعهم وفي شرائهم وفي سلوكياتهم الحفاظ على وحدة ذلك البنيان المرصوص بطريقة أو بأخرى. وهذا واضح في قول النبي عليه الصلاة والسلام “ليقتطع بها مال إمرئ مسلم” والآخر “منع فضل ماء عن امرئ مسلم”.
إذاً هو السلوك والتعامل فيما بين بعضنا البعض هو البنيان وتلك الوحدة والتراص التي لا بد أن نحرص عليها أشد الحرص. أنا لا يكفي ان أكون فرداً ملتزماً في نفسي فقط أنا كفرد أُشكِّل لبنة في البنيان المرصوص ولا بد أن ابحث عن وسائل الترابط والتراصّ كالإسمنت، كالجصّ الذي يربط بين الأحجار في بنيان غرفة أو قاعة أو ما شابه. لا يمكن أن ترصّ الحجر بجانب الحجر دون أن يربط بينها رباط، الرباط هو الأخوّة هو البنيان هو ما دعا إليه هذا الدين العظيم هو ما جعله الأساس الذي ربما في الآونة الأخيرة وفي القرون وفي السنوات الأخيرة غلبت عليه الصفات السلبية التي باتت تشكل وتتخذ حيزاً واضحاً في عقلية كثير من المسلمين. الأَثَرة، الأنانية، حب الذات، الإنشغال بالنفس والمصالح الشخصية على حساب مصالح الأمة على حساب البنيان المرصوص فبدأت تلك اللَبِنات تتواهى وتضعف شيئاً فشيئاً حتى أصبح البنيان الذي نتحدث عنه اليوم أثراً بعد عين، أصبح مجرد صورة لا تكاد تُشَكِّل في بالي أو في ذهني شيئاً كثيراً إلا حينما أنظر إلى صفوف المصلين وقد تراصّت بجانب بعضها البعض.
ودعونا نتساءل أنا وأنتم لما جعل الله هذا التراصّ في خمس صلوات فُرِضن في اليوم والليلة؟ الصورة تتكرر، الحكمة واضحة لمن أراد النظر أو ألقى السمع وهو شهيد، الحكمة واضحة لأن الإسلام وهذا الدين بُنيَ على هذا التراصّ. يريد أن يذكّرني في كل وقت صلاة أنك انت تشكل بنية في هذا البنيان المرصوص ويوم أن يضعف هذا البنيان خارج إطار الصلاة إنما هناك خلل حقيقي فيّ أو فيك أو في الإثنين معاً.لم نعد نحرص بشكل جيد على هذا البنيان كحرصنا على تسوية الصفوف في الصلاة.
هناك طرفة جميلة يقال أن أحد الأشخاص غير المسلمين نظر إلى صفوف المصلين في الحرم قبل أن تتساوى فسُئل تتصور كم ستأخذ هذه الصفوف لتتراصّ من الوقت؟ علماً بأن أدوار الحرم المكي ثلاثة أدوار قال ما بين عشر ساعات إلى إثنى عشر ساعة، فوجئ عندما عرضت الصورة لإمام الحرم وهو يقول “استووا، استووا” كلمتين وإذا بالصفوف قد تراصت! السؤال من الذي جعل هذه الصفوف تتراص في ثواني؟! الأمر الإلهي أمر الله عز وجل. والسؤال الذي ينبغي أن يُطرح ما الذي جعل تلك الصفوف لا تتراصّ خارج إطار الصلاة؟ النفس والشُحّ والهوى والدنيا التي آثرنا قطعاً من الشيطان، قطعاً فيه مخالفة صريحة وواضحة لأمر الرب الذي أمر بالصفوف أن تسوّى في الصلاة وجعلها عبرة لمن يعتبر وصورة لمن أراد أن يتذكر أو أراد أن يعود إلى هذه الأمة ووحدتها فيقيم بناءها من جديد.
هذا ما نريد أن نتحدث عنه في أحاديثنا هذه، أحاديثنا التي تعوّدنا أن نتحدث فيها من القلب إلى القلب، أحاديث نعالج فيها أزماتنا نعالج فيها مشاعرنا وأحاسيسنا ومشاكلنا التي نواجه في واقع الحياة. أنا لا يكفي أن أكون مرتاح البال قرير العين في حياتي أو في أولادي أو في أسرتي وأنا أعلم تمام العلم أن هناك أحداً من المسلمين يُشاك بشوكة فلا أهبّ إحساساً وشعوراً ودعاءً ومساعدةً ونخوة وشهامة لمساعدته فهذا يخالف أمر الحبيب صلى الله عليه وسلم الذي كلنا يدّعي الاقتداء به حين قال في حديث متفق عليه “مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد” أرأيت لو أنك -لا سمح الله- أُصِبت بصداع الصداع في رأسك فقط ولكن انظر إلى بقية أعضاء الجسد اُنظر إلى مزاجك كيف سيكون؟! كل شيء فينا يتأثر رغم أن مكان الألم هو مكان وموضع واحد فقط في الجسم ولذا ما أدقّ تشبيه النبي صلوات الله وسلامه عليه حين قال “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد”. إنه الجسد، البنيان المتكامل، فكيف بي وأنا أعيش اليوم بمعزل عن المسلمين في آلامهم وأحزانهم وهمومهم؟! تأملوا معي عشرات الأحاديث التي تربط بين الإيمان وبين الأخوّة “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” فما الذي أحبه لإخوتي الذين أعرف والذين لم أعرف؟
ودعونا نقسم الدوائر ثلاث دوائر:
الدائرة القريبة مني دائرة الأقارب أولاد العم والعم والأخوال والخالات، ذوي الرحم، صلة الأرحام
ثم الدائرة الأبعد المجتمع الذي أعيش فيه، جيران، أصحاب، أصدقاء، زملاء عمل
ثم الدائرة الأبعد وهي دائرة المسلمين كافة، الدائرة الأوسع، الدائرة التي تربط بيني وبينك الآن أنا أحدثك وأنت تحدثني وأنا أستشعر تماماً الحديث الذي بيننا على الرغم من أننا من بلاد شتى وجنسيات مختلفة واهتمامات مختلفة وألوان وأعراق لا يهم، جمعنا جامع، هناك صلة تربط بيننا هناك محبة تربط بيننا، مَنْ الذي شرّع لهذه الأخوة أن تكون؟
الدين الذي يربط بيني وبينك، الدين الذي يربطنا جميعاً، هذه هي الأخوة هذا البنيان الذي نتحدث عنه الذي أصبح في حياتنا اليوم كما ذكرت مجرد خيالات إلى حد كبير والصورة ليست متشائمة الصورة تعكس إلى حد كبير الواقع الذي نعيش فيه. نضحك ونأكل ونشرب ونمارس الحياة تماماً وكأن شيئاً لم يكن وهناك آلآف وربما أكثر من الآلآف من إخواننا من أعضاء الجسد الواحد يقطّعون ويمزّقون ويُسامون أشد أنواع العذاب فكيف لهذا الجزء من الجسد ألا يتألم؟! ألا يشعر؟! الحديث هنا ليس على قضية الدعم، لا تبادر بالإجابة وتقول وأنا ماذا أصنع؟ أنا أدعم مَنْ؟ أنا أدعم مادياً وأنا أتبرع -مع التحفّظ على هذه الكلمة- لا، المسألة ليست تبريرات، هذا ما سنقوم به ونحن نتحدث عن البنيان المرصوص. المسألة تبدأ بالإحساس، بالصدق، تبدأ بمواجهة القلب للقلب، مواجهة النفس لذاتها خاصة
التقوى ليست كأس من الماء أشربه وليست ملعقة من الخشوع تأتي على نفسي وعلى قلبي وأنا أصلي صلاة القيام، ليست هذا فحسب، لا، هي بداية تبدأ مع الخشوع تبدأ مع الإنتفاضة في القلب تبدأ مع أشياء مختلفة، تبدأ مع إنتفاضة وأنا اقرأ وأتلو آيات الكتاب العظيم ربي يخاطبني فيها، صحيح ولكن لا بد أن يستتبعها خطوات، خطوات تغيّر من سلوكي، تغيّر من نظرتي للأمور، تغيّر من وعيي، تغيّر من إحساسي، تجعل مني إنساناً حقيقياً. إنساناً أعظم ما يميزه كإنسان سرعة تفاعله مع الآخرين، سرعة تألمهم لألامهم وأحزانهم وآهاتهم وصرخاتهم واستغاثاتهم، وسرعة استجابته لها بالنخوة والشهامة والدعاء الصادق. هذا النوع من أنواع الأحاسيس والمشاعر هو ما يميزنا كبشر وليس أي شيء آخر، الألم.
نحتاج اليوم أن نتفق في هذا الحديث على أن نتجرع جرعة من الألم نريد أن نوقظ مرابط الإحساس في نفوسنا كمسلمين كبشر هناك أعضاء في هذا الجسد لم تتوقف المسألة ولن تتوقف عند إخواننا في سوريا أو عند إخواننا في أفغانستان ، كل يوم كل ساعة لنا جراحات تُفتَح والجروح لا تلتئم، ما دوري أنا كجزء من هذا الجسد والجراحات قد فُتِحت فيه وتنزف؟ ما دوري؟ ما هو إحساسي؟ ألا أشعر بالألم؟! ولذلك اليوم قلنا نتفق على أول شيء نقوم به، أول شيء نريد إحساس بالألم.
قد يقول البعض منكم ولماذا النكد؟ ولماذا الحزن؟ ألا يكفينا الحزن الذي نشعر؟ لماذا نريد أن ننكد على أنفسنا وعلى معيشتنا وعلى أطفالنا وعلى حياتنا؟! النكد هنا- إن صحت التسمية- هو ليس نكد هو ألم، الألم الإيجابي الذي نتكلم عنه ضروري جداً ولذلك تجد أن الأطباء الحاذقين لا يعطون المريض مسكنات ليتوقف الألم لا، أبداً، يتركوا الألم. لماذا؟ إلى أن يتم تشخيص الألم لأن الألم عنصر إيجابي يسير بالطبيب الحاذق إلى معرفة مكان الداء وسبب الألم ونحن نريد أن نحس بالألم اليوم نريد أن نشعر بالألم ونريد أنا وأنتم أن كل واحد يحدد بالضبط درجة الألم الذي هو فيه الذي هو يعيشه وأعطي لنفسك درجة من خمسين، من مئة، كم؟ تأمل في حال الجسد، الجسد الذي أنا وأنت نشكِّل عضواً من هذا الجسد تأمل في حالته وأعطني درجة وأعط لنفسك درجة في شدة الإحساس بالألم، كم؟ خمسة بالمئة؟ واحد بالمئة؟ عشرة بالمئة؟ ثلاثة بالمئة؟ ثلاثين؟ أربعين؟ أعط لنفسك درجة وكن صادقاً تمام الصدق مع نفسك، فما تقوم به من هذا التمرين والإجابة على هذه التساؤلات لا يطّلع عليه إلا الله سبحانه وتعالى وهو مهم فربّي عز وجل في نفس السورة التي أشرنا إليها عن البنيان المرصوص يقول ويعاتب عباده المؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا) بغضاً وكُرهاً شديداً (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) الصف).
اليوم واجبنا الذي نقوم به إن شاء الله أن نتحسس مواطن الإحساس والشعور بالألم لما يمرّ به بقية أعضاء الجسد الواحد من المسلمين في كل مكان، لا بأس من البكاء بل بالعكس البكاء مطلوب فحرارة الدموع علّها تذيب الجليد الذي قد تكلّس وتصلّب في مواطن الإحساس فينا في مواطن الإيمان فينا. يتساءل البعض منا لماذا لا نخشع في الصلاة؟ لماذا لا تنزل الدموع ونحن نتلوا القرآن مرة بعد مرة نختمه مرة بعد مرة؟! هناك جليد، هناك ثلوج، هناك تكلّسات قد عَلَت على مواطن ومنافذ الإحساس والإدراك فينا، سلِّكها بالدموع الحارة، سلِّكها بالدمع السخين الذي ينبغي أن يُسفَح على الأقل لأجل أن يعيد الشعور والإحساس في ما بيننا بألم الجسد الواحد.
أترككم في رعاية الله
اسلاميات
برنامج بنيان مرصوص
الحلقة الرابعة
د.رقية العلواني
نواصل في حديثنا اليوم الدخول في صلب موضوع برنامجنا “البنيان المرصوص”. ماذا نعني بالبنيان المرصوص؟
كلنا قد نظر ورأى إلى صفوف المصلين وخاصة في الحرم المكي على وجه التحديد وكيف قد استوت الصفوف وتراصّت وكأنها بالفعل بنيان مرصوص. هذه الصورة العظيمة المهيبة التي لا ينبغي أن تفارق أبداً مخيّلة أيُّ إنسان مسلم منا هي التي قال الله عنها في سورة الصف (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) الصف).
هي تلك الصورة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته حيث قال “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً” (وشبَّك بين أصابعه صلى الله عليه وسلم).
إذاً هو البنيان، أنا وأنت بكل معتقداتنا بكل إيماننا بكل توجهاتنا بكل عبادتنا لله عز وجل نشكِّل ولا بد أن نشكِّل لبِنَة في ذلك البنيان المرصوص. لا يكفي فقط إيماني أو التزامي في نفسي وعبادتي وأنا بعيد عن ذلك البنيان وأنا مجرد لبنة مبعثرة لا تشكِّل صفاً مرصوصاً بجانب بعضه البعض.
هذه الأمة أفراد وجماعات أريد لها أن تكون أمة، أريد لها في بنيانها أن تشكِّل بنياناً مرصوصاً حرص النبي صلى الله عليه وسلم عليه أشد الحرص، ولذا جعل هذه العبادة المغيبة عن مخيّلة الكثيرين اليوم جعلها عبادة حقيقية في واقعنا عبادة وفريضة على كل واحد منا أن يقوم بتأديتها، على كل واحد منا أن يبيّت النية الصادقة والعزم على أن يشكِّل لبِنة حقيقية في ذلك البنيان المرصوص.
اُنظر على سبيل المثال إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول: “ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم” ويتعجب الواحد منا ثلاثة يأخذون وينالون أشد العذاب والعقاب يوم القيامة لا يكلّمهم الله ولا ينظر إليهم! وتستغرب حين تسمع مَنْ هؤلاء الثلاثة،
“رجلٌ حَلَف على سلعة لقد أُعطيَ بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجلٌ حلف على يمين كاذبة بعد العصر -وهو كاذب- ليقتطع بها مال إمرئ مسلم، ورجلٌ منع فضل ماء فيقول الله يوم القيامة اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك”
هذا الحديث العجيب يتحدث عن أناس من المسلمين لم يكن الهمّ الأساس في حياتهم وفي تعاملهم وفي بيعهم وفي شرائهم وفي سلوكياتهم الحفاظ على وحدة ذلك البنيان المرصوص بطريقة أو بأخرى. وهذا واضح في قول النبي عليه الصلاة والسلام “ليقتطع بها مال إمرئ مسلم” والآخر “منع فضل ماء عن امرئ مسلم”.
إذاً هو السلوك والتعامل فيما بين بعضنا البعض هو البنيان وتلك الوحدة والتراص التي لا بد أن نحرص عليها أشد الحرص. أنا لا يكفي ان أكون فرداً ملتزماً في نفسي فقط أنا كفرد أُشكِّل لبنة في البنيان المرصوص ولا بد أن ابحث عن وسائل الترابط والتراصّ كالإسمنت، كالجصّ الذي يربط بين الأحجار في بنيان غرفة أو قاعة أو ما شابه. لا يمكن أن ترصّ الحجر بجانب الحجر دون أن يربط بينها رباط، الرباط هو الأخوّة هو البنيان هو ما دعا إليه هذا الدين العظيم هو ما جعله الأساس الذي ربما في الآونة الأخيرة وفي القرون وفي السنوات الأخيرة غلبت عليه الصفات السلبية التي باتت تشكل وتتخذ حيزاً واضحاً في عقلية كثير من المسلمين. الأَثَرة، الأنانية، حب الذات، الإنشغال بالنفس والمصالح الشخصية على حساب مصالح الأمة على حساب البنيان المرصوص فبدأت تلك اللَبِنات تتواهى وتضعف شيئاً فشيئاً حتى أصبح البنيان الذي نتحدث عنه اليوم أثراً بعد عين، أصبح مجرد صورة لا تكاد تُشَكِّل في بالي أو في ذهني شيئاً كثيراً إلا حينما أنظر إلى صفوف المصلين وقد تراصّت بجانب بعضها البعض.
ودعونا نتساءل أنا وأنتم لما جعل الله هذا التراصّ في خمس صلوات فُرِضن في اليوم والليلة؟ الصورة تتكرر، الحكمة واضحة لمن أراد النظر أو ألقى السمع وهو شهيد، الحكمة واضحة لأن الإسلام وهذا الدين بُنيَ على هذا التراصّ. يريد أن يذكّرني في كل وقت صلاة أنك انت تشكل بنية في هذا البنيان المرصوص ويوم أن يضعف هذا البنيان خارج إطار الصلاة إنما هناك خلل حقيقي فيّ أو فيك أو في الإثنين معاً.لم نعد نحرص بشكل جيد على هذا البنيان كحرصنا على تسوية الصفوف في الصلاة.
هناك طرفة جميلة يقال أن أحد الأشخاص غير المسلمين نظر إلى صفوف المصلين في الحرم قبل أن تتساوى فسُئل تتصور كم ستأخذ هذه الصفوف لتتراصّ من الوقت؟ علماً بأن أدوار الحرم المكي ثلاثة أدوار قال ما بين عشر ساعات إلى إثنى عشر ساعة، فوجئ عندما عرضت الصورة لإمام الحرم وهو يقول “استووا، استووا” كلمتين وإذا بالصفوف قد تراصت! السؤال من الذي جعل هذه الصفوف تتراص في ثواني؟! الأمر الإلهي أمر الله عز وجل. والسؤال الذي ينبغي أن يُطرح ما الذي جعل تلك الصفوف لا تتراصّ خارج إطار الصلاة؟ النفس والشُحّ والهوى والدنيا التي آثرنا قطعاً من الشيطان، قطعاً فيه مخالفة صريحة وواضحة لأمر الرب الذي أمر بالصفوف أن تسوّى في الصلاة وجعلها عبرة لمن يعتبر وصورة لمن أراد أن يتذكر أو أراد أن يعود إلى هذه الأمة ووحدتها فيقيم بناءها من جديد.
هذا ما نريد أن نتحدث عنه في أحاديثنا هذه، أحاديثنا التي تعوّدنا أن نتحدث فيها من القلب إلى القلب، أحاديث نعالج فيها أزماتنا نعالج فيها مشاعرنا وأحاسيسنا ومشاكلنا التي نواجه في واقع الحياة. أنا لا يكفي أن أكون مرتاح البال قرير العين في حياتي أو في أولادي أو في أسرتي وأنا أعلم تمام العلم أن هناك أحداً من المسلمين يُشاك بشوكة فلا أهبّ إحساساً وشعوراً ودعاءً ومساعدةً ونخوة وشهامة لمساعدته فهذا يخالف أمر الحبيب صلى الله عليه وسلم الذي كلنا يدّعي الاقتداء به حين قال في حديث متفق عليه “مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد” أرأيت لو أنك -لا سمح الله- أُصِبت بصداع الصداع في رأسك فقط ولكن انظر إلى بقية أعضاء الجسد اُنظر إلى مزاجك كيف سيكون؟! كل شيء فينا يتأثر رغم أن مكان الألم هو مكان وموضع واحد فقط في الجسم ولذا ما أدقّ تشبيه النبي صلوات الله وسلامه عليه حين قال “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد”. إنه الجسد، البنيان المتكامل، فكيف بي وأنا أعيش اليوم بمعزل عن المسلمين في آلامهم وأحزانهم وهمومهم؟! تأملوا معي عشرات الأحاديث التي تربط بين الإيمان وبين الأخوّة “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” فما الذي أحبه لإخوتي الذين أعرف والذين لم أعرف؟
ودعونا نقسم الدوائر ثلاث دوائر:
الدائرة القريبة مني دائرة الأقارب أولاد العم والعم والأخوال والخالات، ذوي الرحم، صلة الأرحام
ثم الدائرة الأبعد المجتمع الذي أعيش فيه، جيران، أصحاب، أصدقاء، زملاء عمل
ثم الدائرة الأبعد وهي دائرة المسلمين كافة، الدائرة الأوسع، الدائرة التي تربط بيني وبينك الآن أنا أحدثك وأنت تحدثني وأنا أستشعر تماماً الحديث الذي بيننا على الرغم من أننا من بلاد شتى وجنسيات مختلفة واهتمامات مختلفة وألوان وأعراق لا يهم، جمعنا جامع، هناك صلة تربط بيننا هناك محبة تربط بيننا، مَنْ الذي شرّع لهذه الأخوة أن تكون؟
الدين الذي يربط بيني وبينك، الدين الذي يربطنا جميعاً، هذه هي الأخوة هذا البنيان الذي نتحدث عنه الذي أصبح في حياتنا اليوم كما ذكرت مجرد خيالات إلى حد كبير والصورة ليست متشائمة الصورة تعكس إلى حد كبير الواقع الذي نعيش فيه. نضحك ونأكل ونشرب ونمارس الحياة تماماً وكأن شيئاً لم يكن وهناك آلآف وربما أكثر من الآلآف من إخواننا من أعضاء الجسد الواحد يقطّعون ويمزّقون ويُسامون أشد أنواع العذاب فكيف لهذا الجزء من الجسد ألا يتألم؟! ألا يشعر؟! الحديث هنا ليس على قضية الدعم، لا تبادر بالإجابة وتقول وأنا ماذا أصنع؟ أنا أدعم مَنْ؟ أنا أدعم مادياً وأنا أتبرع -مع التحفّظ على هذه الكلمة- لا، المسألة ليست تبريرات، هذا ما سنقوم به ونحن نتحدث عن البنيان المرصوص. المسألة تبدأ بالإحساس، بالصدق، تبدأ بمواجهة القلب للقلب، مواجهة النفس لذاتها خاصة
التقوى ليست كأس من الماء أشربه وليست ملعقة من الخشوع تأتي على نفسي وعلى قلبي وأنا أصلي صلاة القيام، ليست هذا فحسب، لا، هي بداية تبدأ مع الخشوع تبدأ مع الإنتفاضة في القلب تبدأ مع أشياء مختلفة، تبدأ مع إنتفاضة وأنا اقرأ وأتلو آيات الكتاب العظيم ربي يخاطبني فيها، صحيح ولكن لا بد أن يستتبعها خطوات، خطوات تغيّر من سلوكي، تغيّر من نظرتي للأمور، تغيّر من وعيي، تغيّر من إحساسي، تجعل مني إنساناً حقيقياً. إنساناً أعظم ما يميزه كإنسان سرعة تفاعله مع الآخرين، سرعة تألمهم لألامهم وأحزانهم وآهاتهم وصرخاتهم واستغاثاتهم، وسرعة استجابته لها بالنخوة والشهامة والدعاء الصادق. هذا النوع من أنواع الأحاسيس والمشاعر هو ما يميزنا كبشر وليس أي شيء آخر، الألم.
نحتاج اليوم أن نتفق في هذا الحديث على أن نتجرع جرعة من الألم نريد أن نوقظ مرابط الإحساس في نفوسنا كمسلمين كبشر هناك أعضاء في هذا الجسد لم تتوقف المسألة ولن تتوقف عند إخواننا في سوريا أو عند إخواننا في أفغانستان ، كل يوم كل ساعة لنا جراحات تُفتَح والجروح لا تلتئم، ما دوري أنا كجزء من هذا الجسد والجراحات قد فُتِحت فيه وتنزف؟ ما دوري؟ ما هو إحساسي؟ ألا أشعر بالألم؟! ولذلك اليوم قلنا نتفق على أول شيء نقوم به، أول شيء نريد إحساس بالألم.
قد يقول البعض منكم ولماذا النكد؟ ولماذا الحزن؟ ألا يكفينا الحزن الذي نشعر؟ لماذا نريد أن ننكد على أنفسنا وعلى معيشتنا وعلى أطفالنا وعلى حياتنا؟! النكد هنا- إن صحت التسمية- هو ليس نكد هو ألم، الألم الإيجابي الذي نتكلم عنه ضروري جداً ولذلك تجد أن الأطباء الحاذقين لا يعطون المريض مسكنات ليتوقف الألم لا، أبداً، يتركوا الألم. لماذا؟ إلى أن يتم تشخيص الألم لأن الألم عنصر إيجابي يسير بالطبيب الحاذق إلى معرفة مكان الداء وسبب الألم ونحن نريد أن نحس بالألم اليوم نريد أن نشعر بالألم ونريد أنا وأنتم أن كل واحد يحدد بالضبط درجة الألم الذي هو فيه الذي هو يعيشه وأعطي لنفسك درجة من خمسين، من مئة، كم؟ تأمل في حال الجسد، الجسد الذي أنا وأنت نشكِّل عضواً من هذا الجسد تأمل في حالته وأعطني درجة وأعط لنفسك درجة في شدة الإحساس بالألم، كم؟ خمسة بالمئة؟ واحد بالمئة؟ عشرة بالمئة؟ ثلاثة بالمئة؟ ثلاثين؟ أربعين؟ أعط لنفسك درجة وكن صادقاً تمام الصدق مع نفسك، فما تقوم به من هذا التمرين والإجابة على هذه التساؤلات لا يطّلع عليه إلا الله سبحانه وتعالى وهو مهم فربّي عز وجل في نفس السورة التي أشرنا إليها عن البنيان المرصوص يقول ويعاتب عباده المؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا) بغضاً وكُرهاً شديداً (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) الصف).
اليوم واجبنا الذي نقوم به إن شاء الله أن نتحسس مواطن الإحساس والشعور بالألم لما يمرّ به بقية أعضاء الجسد الواحد من المسلمين في كل مكان، لا بأس من البكاء بل بالعكس البكاء مطلوب فحرارة الدموع علّها تذيب الجليد الذي قد تكلّس وتصلّب في مواطن الإحساس فينا في مواطن الإيمان فينا. يتساءل البعض منا لماذا لا نخشع في الصلاة؟ لماذا لا تنزل الدموع ونحن نتلوا القرآن مرة بعد مرة نختمه مرة بعد مرة؟! هناك جليد، هناك ثلوج، هناك تكلّسات قد عَلَت على مواطن ومنافذ الإحساس والإدراك فينا، سلِّكها بالدموع الحارة، سلِّكها بالدمع السخين الذي ينبغي أن يُسفَح على الأقل لأجل أن يعيد الشعور والإحساس في ما بيننا بألم الجسد الواحد.
أترككم في رعاية الله
اسلاميات
برنامج بنيان مرصوص
الحلقة الرابعة
د.رقية العلواني