حكاية ناي ♔
12-28-2022, 07:54 AM
المسألة الحادية عشرة: إظهار الأنصار إسلامَهم بعد بيعة العقبة الثانية
حين رجع الأنصارُ أظهروا إسلامَهم في يَثْرب، وكان لعمرو بن الجموح صنمٌ من خشب، يدعى مناة، فألقوه في القاذورات! وهذه فئة خرجت من جهلها إلى نور ربِّها ونورها! وهذه فئة رجعت عازمة على دَحْر جحور الباطل، وإسدال الستار على عهود الظلام أبدًا! وقد لاح فجرُ نورهم وفلاحهم!
وهكذا يرجع الناس حين أسلموا بوجوه غير تلك التي كانوا قد راحوا بها! وإنه لمرسومٌ على وَجَناتهم صِبْغةُ هذا الدين القيم، ولما كان من سيماه هو ذلكم الإعداد الجيد لقلوب تتلقى منهج ربها، وإذ هي مخلاة من ماضٍ عتيد، عتيق، سحيق، كان قد أذلَّها، وحين كان قد أخرجها شيطانُها من النور إلى الظلمات، وإذ ها هي الآن تعود شكيمة وعِزة وإباء.
أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم.
وهذا هو أسيد بن حضير حين جاء إلى قومه، ومن مجلسه مع سفير الإسلام الموفق، مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه، وحين بدت عليه علاماتُ إسلامه، وقبل أن يدلي ولو ببِنْتَ شَفةٍ! وحين جاء، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلًا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم[1].
والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله!
بل إن أسيد بن حضير هذا كان قد ظهرت عليه بوادرُ خيرٍ، وملامحُ هُدًى، وإشراقات صلاح، وها هو إذ يقدم ومجرد قدوم!
بل إن كلًّا من مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة رضي الله تعالى عنهما وها هما اللذان يلمحان هذه الإشراقات!
قال مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة معًا: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتسهله![2]
وما هذا الرابط يا ترى بين هذه القلوب، وحين تراسلت من غير رسالة؟! وحتى يعرف كلٌّ من مصعب وأسعد رسالة إسلام أسيد من قبل إدلائه بها!
وما هذا الرابط الإيماني القلبي بين كل من سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، حتى بدت لسعد هذا علاماتُ إسلام أسيد هذا، ومن بعد إسلامه، وحتى قال قوله هذا: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم؟!
لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به!
وإذ ليس كان هذا خاصًّا بمن أسلم وحسب، بل قد كان عامًّا فيمن سمع الذكر صافيًا غير عكر ولا نكد!
عن محمد بن كعب قال: حُدِّثْتُ أن عتبة بن ربيعة كان سيدًا حليمًا، قال ذات يوم وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده في المسجد: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى هذا فأكلمه، فأعرض عليه أمورًا، لعله أن يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء، ويكفُّ عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة بن عبدالمطلب، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون، فقالوا: بلى يا أبا الوليد، فقم فكلِّمه، فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرَّقْتَ به جماعتهم، وسفَّهْتَ به أحلامَهم، وعِبْتَ به آلهتَهم، ودينَهم، وكفرت من مضى من آبائهم، فاستمع مني، أعرض عليك أمورًا، تنظر فيها، لعلك أن تقبل منها بعضها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قل يا أبا الوليد أسْمَع))، فقال: يا بن أخي، إن جئت إنما تريد بما جئت من هذا القول مالًا، جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أكثرَنا مالًا، وإن كنت إنما تريد شرفًا شرَّفْناك علينا، حتى لا نقطع أمرًا دونَكَ، وإن كنت تريد مُلْكًا مَلَّكناكَ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه، ولا تستطيع أن ترده عن نفسك، طلبنا لك الطِّبَّ، وبذلنا فيه أموالنا، حتى نُبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل، حتى يُداوى منه، ولعل هذا الذي يأتي به شعر، جاش به صدرُك، فإنكم لعمري يا بني عبدالمطلب تقدرون منه على ما لا يقدر عليه أحد، حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفرغت يا أبا الوليد؟)) قال: نعم، قال: ((فاسْتَمِعْ مني))، قال أفعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم﴿ حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾[فصلت: 1 - 3] فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها عليه، فلما سمعها عتبة أنصت له، وألقى بيده خلف ظهره، معتمدًا عليها، يستمع منه، حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة، فسجد فيها، ثم قال: ((قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك))، فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض يحلف بالله: لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به! فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ فقال: ورائي أني والله قد سمعت قولًا، ما سمعت لمثله قَطُّ، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا الكَهانة. يا معشر قريش، أطيعوني، واجعلوها بي، خلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، واعتزلوه، فواللهِ ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت نبأ! فإن تُصِبْهُ العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعِزُّه عِزُّكم، كنتم أسعد الناس به، قالوا: سحَرَكَ والله يا أبا الوليد بلسانه، فقال: هذا رأيٌ لكم فاصنعوا ما بدا لكم[3].
وشاهده قول قريش بعضهم بعضًا: لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به!
معمل علم النفس الإسلامي
وكم قد نادينا قبل أن تَعقد معاملُ علم النفس أعمالَها؛ لتنظر في تأثير المناخ النفسي المحيط على قناعات الفرد، وما يمكن أن نفيده من وراء ذلك في كافة أوجه النشاط البشري عمومًا، وهل يمكن اعتبار ذلك كمعمل جنائيٍّ في البحث عن الجرائم ومرتكبيها، أو غير ذلك؟! ومن تأثير المناخ المحيط على سريرة العبد، وما يمكن أن نفيده في إنشاء جو محيط حول المرضى عمومًا، أو المحبطين، أو غيرهم؛ للتفاعل مع هذا المناخ الجديد، ومن ثم يستروحون، ويسعدون، ويشفون، وكذا ما عداه أيضًا!
وهذه هي الصبغة الربانية التي يصطبغ بها عباد الله تعالى، وحين يأخذون على ذوات أنفسهم بأنفسهم، متوكلين على الله تعالى ربهم، وأن يأخذ هو سبحانه أيديهم إلى حيث الهدى والتُّقى والعفاف والغِنى والرِّضا والقَبول والسلامة والأمن والإيمان والسكينة والأمن والطُّمَأْنينة، ورغد العيش أيضًا، ولو كان كفافًا! ولأن الغِنى غِنى النفس، فترى نفسًا مؤمنة راضية مرضية بقسمة ربها، ولو كان زادُها الأسودينِ: التمرَ والماءَ! وحين كان يمر على هذا النبي الهلالُ والهلالان والثلاثة الأهلة! ولا يُوقَد في بيته نار! وإنما كان طعامُهم الأسودين: التمرَ والماءَ!
فعن عائشة أم المؤمنين قالت: ابن أختي، إن كنا لننظُر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقلت: يا خالة، ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر، والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم، فيسقينا[4].
وحين علموا أيضًا أن الحق لله تعالى وحده، فبه ينعمون، وعنه يذودون، وإليه يدعون، وفي ظلاله يرفلون.
كانت وقفة الأنصار آية يذكرها التاريخ، يوم أن آووا نبيَّنا صلى الله عليه وسلم، وصدقوه، حتى لم يبق بيت فيهم إلا وفيه رَهْطٌ من المسلمين يُظهِرون الإسلام.
كانت العرب تقول: احذر غلام قريش لا يفتنك! وهذا استكبار قوم عن الحق؛ لأنه يمثله نبينا صلى الله عليه وسلم؛ ولذا جثوا على رُكَبهم يوم جاء مكةَ فاتحًا رحيمًا!
كم حكى لنا التاريخ أن الاعتماد على الكثرة كان سببًا لانهيار البناء كله؛ من أعلاه إلى أدناه! وبسبب فتنة قلبٍ، كان الأصل فيه ألا يتعلق إلا بمولاه الحق.
ستة بنود كانت هي بيعة العقبة الثانية، وكفيل بها أن تُدرَس للأجيال جيلًا من بعد جيل آخر، وليعلم الناس كم كان بذل الأنصار؛ نصرةً لدين ربهم سبحانه.
فعن جابر بن عبدالله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الحاج في منازلهم في الموسم وبمَجَنَّة وبعُكاظ، وبمنازلهم بمِنى يقول: ((من يؤويني؟ من ينصُرني؟ حتى أُبَلِّغَ رسالاتِ ربي وله الجنة؟)) فلا يجد أحدًا ينصُره ويؤويه، حتى إن الرجل يرحل من مُضَر، أو من اليمن إلى ذي رَحِمِه، فيأتيه قومه، فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك، ويمشي بين رحالهم يدعوهم إلى الله عز وجل يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله عز وجل له من يثرب، فيأتيه الرجل فيؤمن به، فيُقرئه القرآنَ، فينقلب إلى أهله، فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق دارٌ من دور يثرب إلا فيها رَهْطٌ من المسلمين يُظهِرون الإسلام، ثم بعثنا الله عز وجل، فأتمرنا، واجتمعنا سبعون رجلًا منا، فقلنا: حتى متى نَذَرُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة، ويخاف، فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فقال عمه العباس: يا بن أخي، إني لا أدري ما هؤلاء القوم الذين جاءوك؟ إني ذو معرفة بأهل يثرب، فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين، فلما نظر العباس في وجوهنا، قال: هؤلاء قوم لا أعرفهم، هؤلاء أحداث، فقلنا: يا رسول الله، علامَ نُبايعك؟ قال: ((تبايعُوني على السَّمْعِ والطاعة، في النشاط والكَسَل، وعلى النفقة في العُسْر واليُسْر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم فيه لومةُ لائمٍ، وعلى أن تنصُروني إذا قدمتُ يثرب، فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسَكم وأزواجَكم وأبناءكم ولكم الجنةُ))، فقمنا نبايعه، فأخذ بيده أسعد بن زُرارة، وهو أصغر السبعين، فقال: رويدًا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكْبادَ المطِيّ إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، إن إخراجه اليوم مفارقةُ العرب كافة، وقتلُ خياركم، وأن تَعَضَّكُم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على السيوف إذا مستكم، وعلى قتل خياركم، وعلى مفارقة العرب كافة، فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذَرُوه، فهو أعْذَرُ عند الله، قالوا: يا أسعدَ بن زُرارة أمِطْ عنَّا يدك، فوالله لا نَذَرُ هذه البيعة، ولا نستقيلُها، فقمنا إليه رجلًا رجلًا يأخذ علينا بشُرْطةِ العباس، ويُعطينا على ذلك الجنة[5].
المسألة الثانية عشرة: صحوة من سهوة!
إن تحطيمَ صنم من خشب كان يعبده عمرو بن الجموح دليلٌ على أن أدغال الشرك يُبدَأ بهم أولًا؛ لأنهم فتنةٌ للأغيار، ولأن لهم سلطانًا فيهم.
وهذا دليلٌ على مدى صنع الإسلام في أهله، حين لا يخافون في الله لومةَ لائمٍ؛ لأن هذا الذي بايعوا عليه أولًا.
قال عمرو بن الجموح مخاطبًا صنمَه: إني والله ما أعلم من يصنع بك ما أرى، فإن كان فيك خيرٌ فامتنِعْ! هذا السيف معك![6]
أرأيت كيف أدى الجهل بصاحبه؟! ولكنك رأيت، وحين يقظة من سُبات، ويكأنك ثم رأيت، وكيف صنع الحق في الأدمغة، والقلوب، والعقول، وحين تتحول معه إلى شخوص غير التي كانت!
ولكن فعل الأنصار هذا كان قد ضرب عقيدة عمرو بن الجموح هذا أيضًا، حين أحدثوا فيه هذه الصدمة، لم يجد بعدها إلا أن يسلم وجهه لله تعالى وهو محسن.
وهذا هو الذي ندين الله تعالى به، فإن مصارحة الناس بما هم عليه، لربما كان موجب يقظتهم، وبدل أن نروح بهم ذات اليمين مرة وذات الشمال مرة أخرى، لعلهم يرشدون، دون أن نقدم إليهم ديننا، وكما قد فعل نبيهم صلى الله عليه وسلم، وكما قد علم أولاء الأنصار، حين راحوا أول ما راحوا إلى تحطيم أصنام قومهم!
ثارت ثائرة قريش حين شاع شأن العقبة، وجرُّوا سعد بن عبادة من شعره! ولم يفكَّه إلا من صنع لهم معروفًا في يثرب، ومنه فإن المعروف نافع في وقته، فلا يحقِرَنَّ أحدٌ من المعروف شيئًا، ولو أن يلقى أخاه بوَجْهٍ طَلْقٍ.
فعن أبي ذرٍّ الغِفاري: لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ[7].
ومنه غيظ قلوب الذين كفروا حين يبصرون قناديل التوحيد تتنسَّم عبير العقد الفريد في الله تعالى ربِّها الحق المبين.
ومنه حنق أفئدة الذين أشركوا حين يرون مشاعل الهدى تتوقد، حاملة معها مصابيح الصلاح في دُجى الظلمات الحالك!
إن تحطيم أصنام الشرك إفاقة للمشرك نفسه، ولما قال عمرو: إني والله ما أعلم من يصنع بك ما أرى، فإن كان فيك خير فامْتَنِعْ! هذا السيف معك!
إن تحطيم وسائل الشرك تطهير لمجتمع غلبت عليه شعوذة سفهاء! كانوا عظماء في قومهم! وما هم بعظماء؛ لأنهم اتخذوا صنمًا من خشب يعبدونه!
إن تحطيم الأنصار لأصنام الشرك دليلٌ على أنهم عرفوا من مقتضى إيمانهم أن الكفر بما يعبد من دون الله تعالى هو أصل في معنى الشهادة.
إن تحطيم أصنام الشرك دليلٌ عمليٌّ على أن قلبًا قد تخلص من ربقة الخوف إلا من الله تعالى؛ لأنه لا يفعله إلا لله أيضًا.
إن تحطيم صنم من خشب كان يعبده عمرو بن الجموح دليلٌ على فعل ذاتي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حين يخلص قلبٌ لمولاه!
إن أهرامًا كثيرة لتعجُّ بالخروج عن الجادة، من قمَّتِها إلى قاعدتها، وحان وقت الرجوع والأوبة، سعادةً وفلاحًا للكل.
إن مرارة العبودية لغيره تعالى تتمثل في عمل كمثل عمل عمرو بن الجموح، لما اتخذ صنمًا من خشب! والأصنام لا تنحصر في خشب؛ بل هي كثيرة!
إن تحطيم أصنام الشرك موجب أن يشكر من ابتُلي به، لا أن يحارب ويؤذي من نهاه؛ لأنه يريده عزيزًا أبيًّا، ليس عبدًا إلا لمن خلقه وحده سبحانه.
سيبقى إسلام عمرو بن الجموح درسًا عالقًا بالأذهان، ودليلًا على انفتاح قلب نحو آفاق الهدى، ولما يرد الله ذلك؛ لأنه كان غارقًا في تِيه شِرْكِه من قبل.
المسألة الثالثة عشرة: المسلم أستاذ الجيل!
لم يرض نبينا صلى الله عليه وسلم دنيَّةً في دينه يومًا، يوم أن كان مطاردًا، ولما جاءت الأنصار لبيعته، فوضع ميثاق العزة والإباء؛ لأن الاستضعاف لا يبرر تنازلًا عن القيم! ولو كان شيئًا!
ولأن المسلم أستاذ الأجيال، حيثما حل، أو حيثما ارتحل!
ولأنني رأيت سِجالًا بين نبينا صلى الله عليه وسلم، وبين أبي جهل، حين كان من شأنه أن قال: إنَّ محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها. قال: وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ حفنة من تراب في يده، ثم قال: ((نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم!))[8]
ولأنني رأيت مصعب بن عمير يتأبى إلا أن يكون عزيزًا! حين كلموه في شأن أسيد بن حضير، قال: إن يجلس أكلمه![9]
ولأنني رأيت عمر الفاروق عزيزًا يومَ قال يوم الحديبية: ففيمَ نعطي الدنيَّةَ في ديننا؟![10] ورأيته قال لأبي سفيان يوم أحد: كذبت يا عدو الله، أبقى الله عليك ما يخزيك[11].
ولأنني رأيت نبيَّنا صلى الله عليه وسلم يوم أحد، حين قال أبو سفيان: اعْلُ هُبَل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أجِيبُوه)). قالوا: ما نقول؟ قال: ((قُولُوا: اللهُ أعْلَى وأجَلّ))، قال أبو سفيان: لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أجِيبُوه))، قالوا: ما نقول؟ قال: ((قولُوا: اللهُ مَوْلانا ولا مَوْلَى لكم))[12].
ولأنني رأيت سعد بن معاذ يوم الأحزاب يقول: أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزَّنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم! [13]
ولأنني رأيت أبا بكر يقول: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حقُّ المال، واللَّهِ لو مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ علَى مَنْعِهَا[14].
ولأنني رأيت ربعي بن عامر يقول: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله[15].
ومنه فإن قولًا بالعمل من دائرة الممكن والمتاح! وهذا وإن كان حقًّا، إلا أنه قد يتلبس بمُسُوح، يخشى أن يترك من أجله الأهم، والعمل في دائرة الأقل أهمية! وهذه قاعدة قَمِنة درسًا وعِلمًا، وفقهًا، ودُرْبةً ودرايةً!
ولكن هذه الأستاذية وإذ هي العزة، ولكنني ألبستها ثوبها هذا القشيب؛ لأن المسلم من كونه أستاذًا إنما يحمل بين جنباته هَمَّ دعوته تكليفًا منه تعالى، وإذ كان له بذلك شرفُ إعلان هذا التكليف، ومن تواضع ولين جانب منقطعين.
ولأن هذه الأستاذية إنما جاءت من بنات استنباطات قوله صلى الله عليه وسلم: ((فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى العابِدِ، كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ، إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ وملائكتَه، وأهْلَ السَّماواتِ والأرْضِ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا ، وَحَتَّى الْحُوتَ, لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ))[16].
وأقول أيضًا: إن هذه الأستاذية ليست تعني كِبْرًا بل تواضعًا، وإنها ليست تعني جهلًا بل حِلمًا؛ لأنها ليست تعني جفاءً بل لِينًا ورِفْقًا.
فعن عبدالله بن مسعود: ((لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)) قال رجل: إن الرجل يحبُّ أن يكون ثوبُه حسنًا ونَعْلُه حسنةً، قال: ((إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ))[17].
وهكذا كان نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم معلمًا للخير؛ إذ كان هيِّنًا، لَيِّنًا، رفيقًا، حليمًا، مُتواضِعًا، رقيقًا، حنيًّا، لطيفًا، حييًّا.
ولكن هذه الأستاذية وإذ هي العزة، وهذا الذي ندور حوله، ولعله أن يبلغ رشده، فيصل إلى مستقبل كريم، وكما قد رأيناه أثرًا من آثار هذه العقيدة الصُّلْبة في الله تعالى، ولما قد عملت في عبيده تعالى عملها هذا، وحين صاروا به أعزاء.
وهذا أيضًا عامل نفسي، حسن الوقوف حوله ودراسته من حيث أثر العامل الإيماني في اصطباغ صاحبه بصبغة العِزَّة والإباء والكرامة، التي من بعدها تراه أسعد ما يكون، وحين يقدم عبد مهجه لله تعالى! راضيا مرضيًّا، بل ينشط من أجلها، ويبحث عن سبلها، ولا يترك بابًا لولوج الفناء إلا بذله، متطلبًا إياه، صادقًا فيه مسعاه!
وها أنت قد رأيت كيف كان فعل عبدالله بن عمر يوم أُحُد، حين ردَّه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لصغر سنه، وها هو يعود باكيًا! ولما قد بلغ الخامسةَ عشرةَ يومَ الخندق، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن عزيمة عبدالله بن عمر هذا نفسه، وإلا كان قد توارى؛ وفرصة أنه رده النبي صلى الله عليه وسلم!
فما هو الدافع إذًا، الذي كان من وراء بذل هذا الشبل ويومه هذا، وإلا أن تكون هذه العقيدة الصُّلْبة في الله تعالى، حين يأخذها العبد من مصدرها حقَّ أخذها، وحين يرعاها أيضًا حق رعايتها!
فعن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربعَ عشرةَ سنةً، فلم يجزني، ثم عرضني يوم الخندق وأنا ابن خمسَ عشرةَ سنة، فأجازني، قال نافع: فقدمت على عمر بن عبد العزيز وهو خليفة، فحدثته هذا الحديث، فقال: إن هذا لحدٌّ بين الصغير والكبير، وكتب إلى عُمَّاله أن يفرضوا لمن بلغ خمس عشرة[18].
حين أخذت الأنصار شفقةٌ بنبيِّنا صلى الله عليه وسلم، بايعوه بيعة العقبة الثانية، سمعًا، وطاعة، ومنعة، وإنفاقًا، وأمرًا، ونهيًا، ونصرة، وألا يخافوا في الله تعالى لومةَ لائمٍ.
لطائف ذات صلة:
إن كثيرًا من الأحداث التي مرَّ بها ديننا، جديرٌ بالوقوف أمامها طويلًا؛ لتلقي درس من بعد درس آخر، ومنه بيعة العقبة الثانية؛ لأنها يوم مجد للإسلام عظيم.
إنه لو كان في الإسلام عيدٌ إضافيٌّ غير الفطر والأضحى، لنادينا أن يكون يوم العقبة الثانية عيدًا! لأنه يوم تلويح لفجر جديد لدعوة نبينا صلى الله عليه وسلم.
قال نبينا صلى الله عليه وسلم للنقباء من الأنصار: ((تؤوني وتمنعوني؟)) قالوا: نعم. قالوا: فما لنا؟ قال: ((الجنة)). هذا قول حدثاء عهد بالإسلام، وهو تطلُّع لرحمته تعالى.
والجنة غاية شمَّرَ لأجلها المشمِّرون، ومن قبل كان استحقاقه تعالى أن يكون معبودًا وحده وبلا شريك؛ لأنه لم يشاركه أحدٌ في خلقِهِ خلقَهُ! وليس أحد على ذلكم بقادر من شيء! إلا الله تعالى وحده.
إن عظائم الأمور سبيل رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه رجالًا أو نساءً؛ لأن العقبة الثانية تقدمها امرأتانِ بايعتا على مثل ما بايعَ الرجال.
إن الضغط الإعلامي السلبي على المرأة المسلمة، العزيزة، الكريمة، الأبيَّة؛ لتحويل اهتمامها عن أصل الاهتمام الأول، هو ضرب للمجتمع كله؛ لأنها أساس تربيته وحاضنته!
كان وجود امرأتينِ مع الثلاثة والسبعين رجلًا في العقبة الثانية دليلًا على أن المرأة المسلمة لها اهتمام لا يقِلُّ عن الرجال قَيْدَ أُنْمُلة! ولكنه لكُلٍّ حقْلُه الذي يبدع الزرع والغِراس فيه!
إن تجشُّم الثلاثة والسبعين رجلًا وامرأتينِ في العقبة الثانية، وها هم يجابهون عالمًا ضجَّ كفرًا، لموجبُ حياءِ أحدِنا، وحين يكون همُّه أدنى من ذلك بكثير.
إن أخذ ميثاق العقبة الثانية وبهذه الصورة، دليلٌ على أن الاستضعاف يمكن أن يخرج من رَحِمه قومٌ ذوي قوةٍ وأنَفةٍ، لا يقبلون ضيمًا!
إن النظر في بنود العقبة الستة يقول: إن هؤلاء قوم صدقوا حقًّا؛ لأن كل بند فيها موجبٌ ألا ينام ليلة واحدة في بيته آمنًا!
رأيت تشويهًا للقدوات الحسنة في تاريخنا وبأيدينا! لا يفيد منه إلا أعداء ديننا، وهذا نداءٌ أبويٌّ حانٍ.
إن غَضَّ الطَّرْف عن امتثال القدوة الحسنة، وما أكثرها في ديننا! لسوف يخرج أجيالًا وبالًا على أنفسهم، قبل دين ربهم، ثم أوطانهم، وهذا نداءٌ أبويٌّ حانٍ.
إن إظهارَ غيرِ القدوةِ قدوةً خَرَّجَ أجيالًا لا تصلُحُ أن تعيشَ حياةَ الكُرماء الأعِزَّاء، فضلًا عن أن تقود أُمَمًا.
إن نظرة في اهتمامات أهل العقبة الثانية، واهتمامات عصور أُخَرَ ليجعل المرء مشدوهًا من هذا الفارق أكثر مما بين السماء والأرض!
إن نساءنا ورجالنا بخير، حين رفع الكيد الإعلامي السلبي عن كاهلهم؛ كيما يفيقوا إلى رسالتهم المنشودة، وإلى تاريخهم الناصع الأبيض النبيل، وعندها سنرى مجتمعًا ناهضًا، سامقًا، عاليًا، خفَّاقًا، وها قد أتى أُكُله من كل صَوْبٍ وحَدَبٍ جميل أصيل!
عن جابر قال: كان العباس آخذًا بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله يواثقنا، فلما فرغنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخَذْتُ وأعطيْتُ))[19]، أخذ البيعة، وأُعطِي الجنة.
إذا حكينا مجد الثلاثة والسبعين رجلًا وامرأتينِ لأبنائنا وبناتنا، لانبهروا! إننا أغمضنا طَرفًا عنهم، مقابل تزيين ما لا يصلح أن يكون قدوة!
إن اطِّلاعًا على كثير مما يُنشَر، أو يُكتَب، أو يُمَثَّل، لدليلٌ على مدى اهتمامات الناس، وهو اهتمامٌ لا يرقى أن يُخرِّج جيلًا يتبوَّأ الصدارة في عالمنا الواسع، الممتد، المترامي، الفسيح!
يحسن ألا نخرج عن قواعد الإنصاف حين نرى تشويهًا لتاريخنا، وبأيدي أبنائه، ولو بغير قصد؛ لأن النتيجة أننا شركاء في هدمِ صرحٍ بناه الأمجادُ!
حين رجع الأنصارُ أظهروا إسلامَهم في يَثْرب، وكان لعمرو بن الجموح صنمٌ من خشب، يدعى مناة، فألقوه في القاذورات! وهذه فئة خرجت من جهلها إلى نور ربِّها ونورها! وهذه فئة رجعت عازمة على دَحْر جحور الباطل، وإسدال الستار على عهود الظلام أبدًا! وقد لاح فجرُ نورهم وفلاحهم!
وهكذا يرجع الناس حين أسلموا بوجوه غير تلك التي كانوا قد راحوا بها! وإنه لمرسومٌ على وَجَناتهم صِبْغةُ هذا الدين القيم، ولما كان من سيماه هو ذلكم الإعداد الجيد لقلوب تتلقى منهج ربها، وإذ هي مخلاة من ماضٍ عتيد، عتيق، سحيق، كان قد أذلَّها، وحين كان قد أخرجها شيطانُها من النور إلى الظلمات، وإذ ها هي الآن تعود شكيمة وعِزة وإباء.
أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم.
وهذا هو أسيد بن حضير حين جاء إلى قومه، ومن مجلسه مع سفير الإسلام الموفق، مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه، وحين بدت عليه علاماتُ إسلامه، وقبل أن يدلي ولو ببِنْتَ شَفةٍ! وحين جاء، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلًا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم[1].
والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله!
بل إن أسيد بن حضير هذا كان قد ظهرت عليه بوادرُ خيرٍ، وملامحُ هُدًى، وإشراقات صلاح، وها هو إذ يقدم ومجرد قدوم!
بل إن كلًّا من مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة رضي الله تعالى عنهما وها هما اللذان يلمحان هذه الإشراقات!
قال مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة معًا: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتسهله![2]
وما هذا الرابط يا ترى بين هذه القلوب، وحين تراسلت من غير رسالة؟! وحتى يعرف كلٌّ من مصعب وأسعد رسالة إسلام أسيد من قبل إدلائه بها!
وما هذا الرابط الإيماني القلبي بين كل من سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، حتى بدت لسعد هذا علاماتُ إسلام أسيد هذا، ومن بعد إسلامه، وحتى قال قوله هذا: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم؟!
لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به!
وإذ ليس كان هذا خاصًّا بمن أسلم وحسب، بل قد كان عامًّا فيمن سمع الذكر صافيًا غير عكر ولا نكد!
عن محمد بن كعب قال: حُدِّثْتُ أن عتبة بن ربيعة كان سيدًا حليمًا، قال ذات يوم وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده في المسجد: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى هذا فأكلمه، فأعرض عليه أمورًا، لعله أن يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء، ويكفُّ عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة بن عبدالمطلب، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون، فقالوا: بلى يا أبا الوليد، فقم فكلِّمه، فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرَّقْتَ به جماعتهم، وسفَّهْتَ به أحلامَهم، وعِبْتَ به آلهتَهم، ودينَهم، وكفرت من مضى من آبائهم، فاستمع مني، أعرض عليك أمورًا، تنظر فيها، لعلك أن تقبل منها بعضها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قل يا أبا الوليد أسْمَع))، فقال: يا بن أخي، إن جئت إنما تريد بما جئت من هذا القول مالًا، جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أكثرَنا مالًا، وإن كنت إنما تريد شرفًا شرَّفْناك علينا، حتى لا نقطع أمرًا دونَكَ، وإن كنت تريد مُلْكًا مَلَّكناكَ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه، ولا تستطيع أن ترده عن نفسك، طلبنا لك الطِّبَّ، وبذلنا فيه أموالنا، حتى نُبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل، حتى يُداوى منه، ولعل هذا الذي يأتي به شعر، جاش به صدرُك، فإنكم لعمري يا بني عبدالمطلب تقدرون منه على ما لا يقدر عليه أحد، حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفرغت يا أبا الوليد؟)) قال: نعم، قال: ((فاسْتَمِعْ مني))، قال أفعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم﴿ حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾[فصلت: 1 - 3] فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها عليه، فلما سمعها عتبة أنصت له، وألقى بيده خلف ظهره، معتمدًا عليها، يستمع منه، حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة، فسجد فيها، ثم قال: ((قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك))، فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض يحلف بالله: لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به! فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ فقال: ورائي أني والله قد سمعت قولًا، ما سمعت لمثله قَطُّ، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا الكَهانة. يا معشر قريش، أطيعوني، واجعلوها بي، خلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، واعتزلوه، فواللهِ ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت نبأ! فإن تُصِبْهُ العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعِزُّه عِزُّكم، كنتم أسعد الناس به، قالوا: سحَرَكَ والله يا أبا الوليد بلسانه، فقال: هذا رأيٌ لكم فاصنعوا ما بدا لكم[3].
وشاهده قول قريش بعضهم بعضًا: لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به!
معمل علم النفس الإسلامي
وكم قد نادينا قبل أن تَعقد معاملُ علم النفس أعمالَها؛ لتنظر في تأثير المناخ النفسي المحيط على قناعات الفرد، وما يمكن أن نفيده من وراء ذلك في كافة أوجه النشاط البشري عمومًا، وهل يمكن اعتبار ذلك كمعمل جنائيٍّ في البحث عن الجرائم ومرتكبيها، أو غير ذلك؟! ومن تأثير المناخ المحيط على سريرة العبد، وما يمكن أن نفيده في إنشاء جو محيط حول المرضى عمومًا، أو المحبطين، أو غيرهم؛ للتفاعل مع هذا المناخ الجديد، ومن ثم يستروحون، ويسعدون، ويشفون، وكذا ما عداه أيضًا!
وهذه هي الصبغة الربانية التي يصطبغ بها عباد الله تعالى، وحين يأخذون على ذوات أنفسهم بأنفسهم، متوكلين على الله تعالى ربهم، وأن يأخذ هو سبحانه أيديهم إلى حيث الهدى والتُّقى والعفاف والغِنى والرِّضا والقَبول والسلامة والأمن والإيمان والسكينة والأمن والطُّمَأْنينة، ورغد العيش أيضًا، ولو كان كفافًا! ولأن الغِنى غِنى النفس، فترى نفسًا مؤمنة راضية مرضية بقسمة ربها، ولو كان زادُها الأسودينِ: التمرَ والماءَ! وحين كان يمر على هذا النبي الهلالُ والهلالان والثلاثة الأهلة! ولا يُوقَد في بيته نار! وإنما كان طعامُهم الأسودين: التمرَ والماءَ!
فعن عائشة أم المؤمنين قالت: ابن أختي، إن كنا لننظُر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقلت: يا خالة، ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر، والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم، فيسقينا[4].
وحين علموا أيضًا أن الحق لله تعالى وحده، فبه ينعمون، وعنه يذودون، وإليه يدعون، وفي ظلاله يرفلون.
كانت وقفة الأنصار آية يذكرها التاريخ، يوم أن آووا نبيَّنا صلى الله عليه وسلم، وصدقوه، حتى لم يبق بيت فيهم إلا وفيه رَهْطٌ من المسلمين يُظهِرون الإسلام.
كانت العرب تقول: احذر غلام قريش لا يفتنك! وهذا استكبار قوم عن الحق؛ لأنه يمثله نبينا صلى الله عليه وسلم؛ ولذا جثوا على رُكَبهم يوم جاء مكةَ فاتحًا رحيمًا!
كم حكى لنا التاريخ أن الاعتماد على الكثرة كان سببًا لانهيار البناء كله؛ من أعلاه إلى أدناه! وبسبب فتنة قلبٍ، كان الأصل فيه ألا يتعلق إلا بمولاه الحق.
ستة بنود كانت هي بيعة العقبة الثانية، وكفيل بها أن تُدرَس للأجيال جيلًا من بعد جيل آخر، وليعلم الناس كم كان بذل الأنصار؛ نصرةً لدين ربهم سبحانه.
فعن جابر بن عبدالله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الحاج في منازلهم في الموسم وبمَجَنَّة وبعُكاظ، وبمنازلهم بمِنى يقول: ((من يؤويني؟ من ينصُرني؟ حتى أُبَلِّغَ رسالاتِ ربي وله الجنة؟)) فلا يجد أحدًا ينصُره ويؤويه، حتى إن الرجل يرحل من مُضَر، أو من اليمن إلى ذي رَحِمِه، فيأتيه قومه، فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك، ويمشي بين رحالهم يدعوهم إلى الله عز وجل يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله عز وجل له من يثرب، فيأتيه الرجل فيؤمن به، فيُقرئه القرآنَ، فينقلب إلى أهله، فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق دارٌ من دور يثرب إلا فيها رَهْطٌ من المسلمين يُظهِرون الإسلام، ثم بعثنا الله عز وجل، فأتمرنا، واجتمعنا سبعون رجلًا منا، فقلنا: حتى متى نَذَرُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة، ويخاف، فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فقال عمه العباس: يا بن أخي، إني لا أدري ما هؤلاء القوم الذين جاءوك؟ إني ذو معرفة بأهل يثرب، فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين، فلما نظر العباس في وجوهنا، قال: هؤلاء قوم لا أعرفهم، هؤلاء أحداث، فقلنا: يا رسول الله، علامَ نُبايعك؟ قال: ((تبايعُوني على السَّمْعِ والطاعة، في النشاط والكَسَل، وعلى النفقة في العُسْر واليُسْر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم فيه لومةُ لائمٍ، وعلى أن تنصُروني إذا قدمتُ يثرب، فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسَكم وأزواجَكم وأبناءكم ولكم الجنةُ))، فقمنا نبايعه، فأخذ بيده أسعد بن زُرارة، وهو أصغر السبعين، فقال: رويدًا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكْبادَ المطِيّ إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، إن إخراجه اليوم مفارقةُ العرب كافة، وقتلُ خياركم، وأن تَعَضَّكُم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على السيوف إذا مستكم، وعلى قتل خياركم، وعلى مفارقة العرب كافة، فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذَرُوه، فهو أعْذَرُ عند الله، قالوا: يا أسعدَ بن زُرارة أمِطْ عنَّا يدك، فوالله لا نَذَرُ هذه البيعة، ولا نستقيلُها، فقمنا إليه رجلًا رجلًا يأخذ علينا بشُرْطةِ العباس، ويُعطينا على ذلك الجنة[5].
المسألة الثانية عشرة: صحوة من سهوة!
إن تحطيمَ صنم من خشب كان يعبده عمرو بن الجموح دليلٌ على أن أدغال الشرك يُبدَأ بهم أولًا؛ لأنهم فتنةٌ للأغيار، ولأن لهم سلطانًا فيهم.
وهذا دليلٌ على مدى صنع الإسلام في أهله، حين لا يخافون في الله لومةَ لائمٍ؛ لأن هذا الذي بايعوا عليه أولًا.
قال عمرو بن الجموح مخاطبًا صنمَه: إني والله ما أعلم من يصنع بك ما أرى، فإن كان فيك خيرٌ فامتنِعْ! هذا السيف معك![6]
أرأيت كيف أدى الجهل بصاحبه؟! ولكنك رأيت، وحين يقظة من سُبات، ويكأنك ثم رأيت، وكيف صنع الحق في الأدمغة، والقلوب، والعقول، وحين تتحول معه إلى شخوص غير التي كانت!
ولكن فعل الأنصار هذا كان قد ضرب عقيدة عمرو بن الجموح هذا أيضًا، حين أحدثوا فيه هذه الصدمة، لم يجد بعدها إلا أن يسلم وجهه لله تعالى وهو محسن.
وهذا هو الذي ندين الله تعالى به، فإن مصارحة الناس بما هم عليه، لربما كان موجب يقظتهم، وبدل أن نروح بهم ذات اليمين مرة وذات الشمال مرة أخرى، لعلهم يرشدون، دون أن نقدم إليهم ديننا، وكما قد فعل نبيهم صلى الله عليه وسلم، وكما قد علم أولاء الأنصار، حين راحوا أول ما راحوا إلى تحطيم أصنام قومهم!
ثارت ثائرة قريش حين شاع شأن العقبة، وجرُّوا سعد بن عبادة من شعره! ولم يفكَّه إلا من صنع لهم معروفًا في يثرب، ومنه فإن المعروف نافع في وقته، فلا يحقِرَنَّ أحدٌ من المعروف شيئًا، ولو أن يلقى أخاه بوَجْهٍ طَلْقٍ.
فعن أبي ذرٍّ الغِفاري: لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ[7].
ومنه غيظ قلوب الذين كفروا حين يبصرون قناديل التوحيد تتنسَّم عبير العقد الفريد في الله تعالى ربِّها الحق المبين.
ومنه حنق أفئدة الذين أشركوا حين يرون مشاعل الهدى تتوقد، حاملة معها مصابيح الصلاح في دُجى الظلمات الحالك!
إن تحطيم أصنام الشرك إفاقة للمشرك نفسه، ولما قال عمرو: إني والله ما أعلم من يصنع بك ما أرى، فإن كان فيك خير فامْتَنِعْ! هذا السيف معك!
إن تحطيم وسائل الشرك تطهير لمجتمع غلبت عليه شعوذة سفهاء! كانوا عظماء في قومهم! وما هم بعظماء؛ لأنهم اتخذوا صنمًا من خشب يعبدونه!
إن تحطيم الأنصار لأصنام الشرك دليلٌ على أنهم عرفوا من مقتضى إيمانهم أن الكفر بما يعبد من دون الله تعالى هو أصل في معنى الشهادة.
إن تحطيم أصنام الشرك دليلٌ عمليٌّ على أن قلبًا قد تخلص من ربقة الخوف إلا من الله تعالى؛ لأنه لا يفعله إلا لله أيضًا.
إن تحطيم صنم من خشب كان يعبده عمرو بن الجموح دليلٌ على فعل ذاتي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حين يخلص قلبٌ لمولاه!
إن أهرامًا كثيرة لتعجُّ بالخروج عن الجادة، من قمَّتِها إلى قاعدتها، وحان وقت الرجوع والأوبة، سعادةً وفلاحًا للكل.
إن مرارة العبودية لغيره تعالى تتمثل في عمل كمثل عمل عمرو بن الجموح، لما اتخذ صنمًا من خشب! والأصنام لا تنحصر في خشب؛ بل هي كثيرة!
إن تحطيم أصنام الشرك موجب أن يشكر من ابتُلي به، لا أن يحارب ويؤذي من نهاه؛ لأنه يريده عزيزًا أبيًّا، ليس عبدًا إلا لمن خلقه وحده سبحانه.
سيبقى إسلام عمرو بن الجموح درسًا عالقًا بالأذهان، ودليلًا على انفتاح قلب نحو آفاق الهدى، ولما يرد الله ذلك؛ لأنه كان غارقًا في تِيه شِرْكِه من قبل.
المسألة الثالثة عشرة: المسلم أستاذ الجيل!
لم يرض نبينا صلى الله عليه وسلم دنيَّةً في دينه يومًا، يوم أن كان مطاردًا، ولما جاءت الأنصار لبيعته، فوضع ميثاق العزة والإباء؛ لأن الاستضعاف لا يبرر تنازلًا عن القيم! ولو كان شيئًا!
ولأن المسلم أستاذ الأجيال، حيثما حل، أو حيثما ارتحل!
ولأنني رأيت سِجالًا بين نبينا صلى الله عليه وسلم، وبين أبي جهل، حين كان من شأنه أن قال: إنَّ محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها. قال: وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ حفنة من تراب في يده، ثم قال: ((نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم!))[8]
ولأنني رأيت مصعب بن عمير يتأبى إلا أن يكون عزيزًا! حين كلموه في شأن أسيد بن حضير، قال: إن يجلس أكلمه![9]
ولأنني رأيت عمر الفاروق عزيزًا يومَ قال يوم الحديبية: ففيمَ نعطي الدنيَّةَ في ديننا؟![10] ورأيته قال لأبي سفيان يوم أحد: كذبت يا عدو الله، أبقى الله عليك ما يخزيك[11].
ولأنني رأيت نبيَّنا صلى الله عليه وسلم يوم أحد، حين قال أبو سفيان: اعْلُ هُبَل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أجِيبُوه)). قالوا: ما نقول؟ قال: ((قُولُوا: اللهُ أعْلَى وأجَلّ))، قال أبو سفيان: لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أجِيبُوه))، قالوا: ما نقول؟ قال: ((قولُوا: اللهُ مَوْلانا ولا مَوْلَى لكم))[12].
ولأنني رأيت سعد بن معاذ يوم الأحزاب يقول: أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزَّنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم! [13]
ولأنني رأيت أبا بكر يقول: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حقُّ المال، واللَّهِ لو مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ علَى مَنْعِهَا[14].
ولأنني رأيت ربعي بن عامر يقول: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله[15].
ومنه فإن قولًا بالعمل من دائرة الممكن والمتاح! وهذا وإن كان حقًّا، إلا أنه قد يتلبس بمُسُوح، يخشى أن يترك من أجله الأهم، والعمل في دائرة الأقل أهمية! وهذه قاعدة قَمِنة درسًا وعِلمًا، وفقهًا، ودُرْبةً ودرايةً!
ولكن هذه الأستاذية وإذ هي العزة، ولكنني ألبستها ثوبها هذا القشيب؛ لأن المسلم من كونه أستاذًا إنما يحمل بين جنباته هَمَّ دعوته تكليفًا منه تعالى، وإذ كان له بذلك شرفُ إعلان هذا التكليف، ومن تواضع ولين جانب منقطعين.
ولأن هذه الأستاذية إنما جاءت من بنات استنباطات قوله صلى الله عليه وسلم: ((فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى العابِدِ، كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ، إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ وملائكتَه، وأهْلَ السَّماواتِ والأرْضِ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا ، وَحَتَّى الْحُوتَ, لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ))[16].
وأقول أيضًا: إن هذه الأستاذية ليست تعني كِبْرًا بل تواضعًا، وإنها ليست تعني جهلًا بل حِلمًا؛ لأنها ليست تعني جفاءً بل لِينًا ورِفْقًا.
فعن عبدالله بن مسعود: ((لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)) قال رجل: إن الرجل يحبُّ أن يكون ثوبُه حسنًا ونَعْلُه حسنةً، قال: ((إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ))[17].
وهكذا كان نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم معلمًا للخير؛ إذ كان هيِّنًا، لَيِّنًا، رفيقًا، حليمًا، مُتواضِعًا، رقيقًا، حنيًّا، لطيفًا، حييًّا.
ولكن هذه الأستاذية وإذ هي العزة، وهذا الذي ندور حوله، ولعله أن يبلغ رشده، فيصل إلى مستقبل كريم، وكما قد رأيناه أثرًا من آثار هذه العقيدة الصُّلْبة في الله تعالى، ولما قد عملت في عبيده تعالى عملها هذا، وحين صاروا به أعزاء.
وهذا أيضًا عامل نفسي، حسن الوقوف حوله ودراسته من حيث أثر العامل الإيماني في اصطباغ صاحبه بصبغة العِزَّة والإباء والكرامة، التي من بعدها تراه أسعد ما يكون، وحين يقدم عبد مهجه لله تعالى! راضيا مرضيًّا، بل ينشط من أجلها، ويبحث عن سبلها، ولا يترك بابًا لولوج الفناء إلا بذله، متطلبًا إياه، صادقًا فيه مسعاه!
وها أنت قد رأيت كيف كان فعل عبدالله بن عمر يوم أُحُد، حين ردَّه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لصغر سنه، وها هو يعود باكيًا! ولما قد بلغ الخامسةَ عشرةَ يومَ الخندق، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن عزيمة عبدالله بن عمر هذا نفسه، وإلا كان قد توارى؛ وفرصة أنه رده النبي صلى الله عليه وسلم!
فما هو الدافع إذًا، الذي كان من وراء بذل هذا الشبل ويومه هذا، وإلا أن تكون هذه العقيدة الصُّلْبة في الله تعالى، حين يأخذها العبد من مصدرها حقَّ أخذها، وحين يرعاها أيضًا حق رعايتها!
فعن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربعَ عشرةَ سنةً، فلم يجزني، ثم عرضني يوم الخندق وأنا ابن خمسَ عشرةَ سنة، فأجازني، قال نافع: فقدمت على عمر بن عبد العزيز وهو خليفة، فحدثته هذا الحديث، فقال: إن هذا لحدٌّ بين الصغير والكبير، وكتب إلى عُمَّاله أن يفرضوا لمن بلغ خمس عشرة[18].
حين أخذت الأنصار شفقةٌ بنبيِّنا صلى الله عليه وسلم، بايعوه بيعة العقبة الثانية، سمعًا، وطاعة، ومنعة، وإنفاقًا، وأمرًا، ونهيًا، ونصرة، وألا يخافوا في الله تعالى لومةَ لائمٍ.
لطائف ذات صلة:
إن كثيرًا من الأحداث التي مرَّ بها ديننا، جديرٌ بالوقوف أمامها طويلًا؛ لتلقي درس من بعد درس آخر، ومنه بيعة العقبة الثانية؛ لأنها يوم مجد للإسلام عظيم.
إنه لو كان في الإسلام عيدٌ إضافيٌّ غير الفطر والأضحى، لنادينا أن يكون يوم العقبة الثانية عيدًا! لأنه يوم تلويح لفجر جديد لدعوة نبينا صلى الله عليه وسلم.
قال نبينا صلى الله عليه وسلم للنقباء من الأنصار: ((تؤوني وتمنعوني؟)) قالوا: نعم. قالوا: فما لنا؟ قال: ((الجنة)). هذا قول حدثاء عهد بالإسلام، وهو تطلُّع لرحمته تعالى.
والجنة غاية شمَّرَ لأجلها المشمِّرون، ومن قبل كان استحقاقه تعالى أن يكون معبودًا وحده وبلا شريك؛ لأنه لم يشاركه أحدٌ في خلقِهِ خلقَهُ! وليس أحد على ذلكم بقادر من شيء! إلا الله تعالى وحده.
إن عظائم الأمور سبيل رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه رجالًا أو نساءً؛ لأن العقبة الثانية تقدمها امرأتانِ بايعتا على مثل ما بايعَ الرجال.
إن الضغط الإعلامي السلبي على المرأة المسلمة، العزيزة، الكريمة، الأبيَّة؛ لتحويل اهتمامها عن أصل الاهتمام الأول، هو ضرب للمجتمع كله؛ لأنها أساس تربيته وحاضنته!
كان وجود امرأتينِ مع الثلاثة والسبعين رجلًا في العقبة الثانية دليلًا على أن المرأة المسلمة لها اهتمام لا يقِلُّ عن الرجال قَيْدَ أُنْمُلة! ولكنه لكُلٍّ حقْلُه الذي يبدع الزرع والغِراس فيه!
إن تجشُّم الثلاثة والسبعين رجلًا وامرأتينِ في العقبة الثانية، وها هم يجابهون عالمًا ضجَّ كفرًا، لموجبُ حياءِ أحدِنا، وحين يكون همُّه أدنى من ذلك بكثير.
إن أخذ ميثاق العقبة الثانية وبهذه الصورة، دليلٌ على أن الاستضعاف يمكن أن يخرج من رَحِمه قومٌ ذوي قوةٍ وأنَفةٍ، لا يقبلون ضيمًا!
إن النظر في بنود العقبة الستة يقول: إن هؤلاء قوم صدقوا حقًّا؛ لأن كل بند فيها موجبٌ ألا ينام ليلة واحدة في بيته آمنًا!
رأيت تشويهًا للقدوات الحسنة في تاريخنا وبأيدينا! لا يفيد منه إلا أعداء ديننا، وهذا نداءٌ أبويٌّ حانٍ.
إن غَضَّ الطَّرْف عن امتثال القدوة الحسنة، وما أكثرها في ديننا! لسوف يخرج أجيالًا وبالًا على أنفسهم، قبل دين ربهم، ثم أوطانهم، وهذا نداءٌ أبويٌّ حانٍ.
إن إظهارَ غيرِ القدوةِ قدوةً خَرَّجَ أجيالًا لا تصلُحُ أن تعيشَ حياةَ الكُرماء الأعِزَّاء، فضلًا عن أن تقود أُمَمًا.
إن نظرة في اهتمامات أهل العقبة الثانية، واهتمامات عصور أُخَرَ ليجعل المرء مشدوهًا من هذا الفارق أكثر مما بين السماء والأرض!
إن نساءنا ورجالنا بخير، حين رفع الكيد الإعلامي السلبي عن كاهلهم؛ كيما يفيقوا إلى رسالتهم المنشودة، وإلى تاريخهم الناصع الأبيض النبيل، وعندها سنرى مجتمعًا ناهضًا، سامقًا، عاليًا، خفَّاقًا، وها قد أتى أُكُله من كل صَوْبٍ وحَدَبٍ جميل أصيل!
عن جابر قال: كان العباس آخذًا بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله يواثقنا، فلما فرغنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخَذْتُ وأعطيْتُ))[19]، أخذ البيعة، وأُعطِي الجنة.
إذا حكينا مجد الثلاثة والسبعين رجلًا وامرأتينِ لأبنائنا وبناتنا، لانبهروا! إننا أغمضنا طَرفًا عنهم، مقابل تزيين ما لا يصلح أن يكون قدوة!
إن اطِّلاعًا على كثير مما يُنشَر، أو يُكتَب، أو يُمَثَّل، لدليلٌ على مدى اهتمامات الناس، وهو اهتمامٌ لا يرقى أن يُخرِّج جيلًا يتبوَّأ الصدارة في عالمنا الواسع، الممتد، المترامي، الفسيح!
يحسن ألا نخرج عن قواعد الإنصاف حين نرى تشويهًا لتاريخنا، وبأيدي أبنائه، ولو بغير قصد؛ لأن النتيجة أننا شركاء في هدمِ صرحٍ بناه الأمجادُ!