عازف الناي
01-01-2023, 03:40 PM
إن المرءَ ليعجبُ من زُهدِ الناس المُتَنَامِي في سؤال الله، مع أنَّ أصلَ التوحيدِ سُؤال الله وحده، وأصل الشرك سؤال غير الله تعالى!
أدرك خطورة الداء الدكتور لطف الله خوجه، فلفت أنظارنا إليه قائلًا:
لا نعلم أمرًا اجتمع الناس على نسيانه، والتفريط فيه؛ كَنِسيانِ سُؤالِ الله وحده، وترك سؤال المخلوق، مع أن ذلك أصلُ التوحيد، ونداء الخالق سبحانه لنا { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ }، إلا إنه ما زال مجهولًا خفيًا !
ولهذا لما نزلت البراءة بعائشة ل قالت لها أمها: قُومِي إلى رسول الله ! قالت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمدُ إلا الله؛ فإنَّهُ الذي أنزلَ براءتي! وكذا حين نزلت التوبةُ بِكَعب بن مالك رضي الله عنه، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله: أَمِن عِندِكَ أم من عند الله؟! قال: "لا؛ بل من عند الله "، ولم يَغضَب صلى الله عليه وسلم من كلام عائشة رضي الله عنها، ولا سُؤالِ كَعب، ولم يَعَدُّهُ من سوءِ الأدب مع مقام النبوة؛ ذلك أنه هو الذي رباهم على ذلك! [مجلة البيان / العدد (208)، الصادر عن شهري [يناير وفبراير /2004] ص (4)]
وليكن لك قدوة خير في أبان بن عثمان رضي الله عنه الذي كان يتمثل دومًا قول الشاعر:
إني لأُكْرِمُ وجهـي أن أوجِّهـه ** عند السُّؤال لغير الواحد الصَّمد
عزّ القناعة والإيمـان يمنعنـي ** من التَّعـرُّض للمنَّانـة النَّكـد
رضيت بالله في يومي وفي غده ** والله أكرم مأمـولٍ لبعـد غد
إياك وعبودية الدينار:
قرع ابن تيمية بوعظه الأسماع قائلًا:
إن العبد لابد له من مال، فإن طلبه مباشرة من الله؛ استجابةً لِنُصحِ إبراهيم لنا بقوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}، وإنفاذًا لعظة النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس م بقوله: {إذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ}؛ صارَ العبدُ عبدًا لله حقًا، فقيرًا إليه صدقًا، أما إن طلب مسألته من مخلوق؛ صار عبدًا له، فقيرًا إليه! [ابن تيمية / إقامة الدليل على إبطال التحليل (3/421)]
وعليه:
فكل من هيمن الدرهمُ في قلبه فهو عبدٌ له، وإن أردت صفتَه؛ فإنَّهُ الذي إن أُعْطِيَ رَضِي، وإن مُنِعَ سَخِط، فَرِضَاهُ لِغَيرِ الله، وَسَخَطُهُ لغيرِ الله، قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] !
وإليك شاهد عدل يؤيد ابن تيمية في كلامه:
دخل مالك بن دينار السوق يومًا، فرأى رجلًا يبيع التِّين، فاشْتَهاه، فقال للبائع: أَتُقْرِضُنِي شيئًا منه للغد، فَأَبَى، فقال: لو رَهنْتُ عندَك حذائي أتقبل؟! قال: لا! فَسَار ولم يتكلم!
فَتَنَكَّرَ الحضورُ للبائع، وأخبروه أن الذي يطلب منه تينًا؛ الإمام الزاهد: مالك بن دينار!
فندم البائع وقال لعبده من فَورِهِ: اذهب لذاك الرجل، وَبِصُحبَتِكَ عَربة التين كلها، فإن قَبِلَهَا منك فأنت حُرٌ لِوَجهِ اللهِ
فطار العبدُ سُرُورًا، وَحَثَّ الخُطَى فَعَرضَها عليه، فأباها وقال له: قل لسيدك:
إن مالك بن دينار لا يَشْتَرِي التينَ بالدِّين!
وإن مالك بن دينار قد حَرَّمَ على نفسه أَكلَ التِّين، إلَى يَومِ الدِّين!
فقال العبد: خُذْهُ يا إمام! فإنك إن أخذْتُه كَان عِتْقِي! فقال مالك:
إن كان فيه عِتقُكَ، فإن فيه عُبوديتي وَرِقِّي!
سلعةٌ ثمنها للجنة
أخرج أبو داود في سننه بسند صحيح من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَكَفَّلَ لِي أنْ لاَ يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا، وَأتَكَفَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ؟! فقلتُ: أنَا، فَكَانَ لاَ يَسْأَلُ أحَداً شَيْئًا " فكان ثوبان يقع سوطه وهو راكب فلا يقول لأحد ناولنيه حتى ينزل فيأخذه " سنن أبي داود، رقم الحديث: (1643)، ص (254).
إنها رسالة واضحةٌ، قاطعةٌ صادحة! من لم يسأل الناس شيئًا، تكفل النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة!
شق الحديثُ شغافَ قلب أبي الدرداء رضي الله عنه، واستقر فيه عملًا وأداءً، وما إن لاقى زوجته حتى نهاها قائلًا: إياك أن تسألي الناس شيئًا! فقالت: فإن احْتَجْتُ أمرًا! فقال: تَتَبَّعِي الحَصَّادِين، فانْظُرِي مَا يَسقُطَ منهُم فَخُذِيه فاطحنيه ثم اعجنيه، ثم كليه ولا تسألي أحداً!
اخوتاه:
إن الله تعالى نَزَّهَ عباده في الجنة عن المسألة، فإن تمنى العبدُ فاكهة أو حاجة وجدها أمامه؛ ليتم الله النعمة عليه، ويكون في نعيمٍ تامٍ واصلٍ إليه، فلا يستذل أو يفتقر إلى أحد بالطلب منه!
والأموال تلاحقهم:
قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]
إن ثمة ثلة من الفقراء أبوا أن يدخلوا في مِنَّةِ أحدٍ أبدًا، فلم يسألوا الناس إلحاحًا، حتى ظَنَّهُم الجُهَّالُ أغنياءَ من تَمَامِ عِفَّتِهِم، فَعَرَّفَ الله المؤمنين بِسيماهم وَصِفَاتهم؛ كَتَواضُعِهم ووقَارهم، وهَيبتهم وجَلالَهم، فَصَار من يتفرسهم فَيَعرِفَهُم؛ ينقلُ الأموالَ إليهم، فأتتهم كَفالةٌ مَاليَّةٌ ربانية، دون أن يتكلموا بكلمة أو يخبروا بِطَوِّية !
أخي: إن رزقَكَ يُطارِدُكَ، تمامًا كما يُلاحِقُكَ أجلُك، فَرِزْقُكَ آتيك وإن لم تَأتِه، ولكن تأبى سنة الله تعالى إلا أن تزيد المُتَعَفِّفَ غِنىً، والسائلَ فَقرًا، ورحم الله الشافعي الذي أَحَبَّ أن يُطمئِنُكَ فقالَ لك:
سيُفتَـحُ بابٌ إذا سُـدَّ باب ** نعم، وتهون الأمور الصعاب
مع الهم يُسْران هَوِّن عَليكَ ** فلا الهمُّ يُجْدِي ولا الاكتئاب
ورزقٌ أتـاك ولـم تأتـه ** ولا أرق العين منه الطِّلاب
إذا احتجت الناس عن سائل ** فما دون سائل ربي حجـاب
يعود بفضل على من رجاه ** وراجيه في كل حين يُجاب
ذكر الشيخ عبد الله عزام / خبرَ رجل مُحسن من كبار المنفقين على الجهاد الأفغاني، اسمه " إبراهيم الجليدان " كان موظفًا في مطار المدينة المنورة، فجاءه أحد الأمراء وطلب منه أن يشتري له مجموعة من الأراضي حول المطار، وكانت بخسة الثمن؛ إذ إنَّ المطار في بداية نشأته، فاشترى مساحات شاسعة ب [40 ألف ريال] وقد استدان المبلغ من أناس لا يُحصون كثرة، فلما أتى الأمير وأخبره؛ تَنَكَّرَ لَهُ، وقال: ضاق الحال بي، ولا أريد الأرض!
فقال: دفعت [40 ألف ريال] من أين أُعِيدها لأصحابها؟! قال: لا علاقة لي بذلك!
فاسترجع الرجل، وسأل الله الفِكَاكَ من الكارثة، وبدأ يَعِدُ هَذا بِأَجَلٍ، وآخر بِأَجَلٍ، ويُصَبِّرَ هَذا، وَيرجُو هذا، وَدَارت الأيام؛ لِيَكُونَ المطارُ مَعلمًا لامعًا تُشَدُّ رِحَالُ المُسافِرينَ إليه، وأصبحت قطعةُ الأرضِ الصغيرة تباع بمئات الملايين، وأصبح من كبار أغنياء المملكة العربية السعودية، فقد جاءه الرزق رغم أنفه، فأنا أريد، وأنت تريد، والله يفعل ما يريد! [عبد الله عزام / تفسير سورة التوبة ص (193)].
شرف النفس وسيادة الخلق:
دخل أعرابيٌ البَصرةَ بالعراق، فَهَالَهُ ثَناءُ النَّاس على الإمام الحسن البصري، وأن له شرفًا يَنْطِح النُّجُوم، وَيَعْلُو جَنَاح النَّسْرِ، وَيَزْحَمُ مَنْكِب الْجَوْزاء، فسأل عقلاءَهُم عن سُلَّمِ إمامهم الذي أَعرَجَ فيه، فقالوا له:
احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دُنيَاهم !
فَنَقَّبتُ عن مذهبِهِ في المسألة؛ فألفيتُه يقول: لا يزال الناس يكرمونك ما لم تعاط ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك، وكرهوا حديثك وأبغضوك! وهذا ما عناه الخطابي بقوله:
إن الأغنياء لا يعطونك بقدر ما يغنونك، إنما يعطونك بقدر ما يفضحونك. [الخطابي / العزلة (1/67)]
وفي الاتجاه المعاكس:
سأل أعرابيٌ قومًا إعانته فقال ببلاغةٍ باهرة: رحم الله امرءًا لم تَمُجُّ أذنه كلامي، وقدم له معذرة من سوء مقامي، فإن البلاد مُجدبة، والحال صعبة، والحياء زاجر عن كلامكم، والفقر عاذر يدعو إلى إخباركم، والدعاء إحدى الصدقتين، فرحم الله امرءاً آسى بِمِير، أو دعا بِخَير!
فعجب القوم من فصاحته فقالوا له: ممن أنت؟ فقال:
اللهم غفرًا؛ إن لُؤمَ الاكتساب يمنع الانتساب!
إذا تقرر هذا؛ فمن ابتغى معراج شرفه عرفه، ومن أراد سبيل ذله أدركه، والحال كما قال أبو الفرج الببغاء:
ما الذُّلّ إلاَّ تحمّل المنـن ** فكن عزيزاً إن شئت أو فهن
محمد محمد الأسطل
رابطة العلماء السوريين
أدرك خطورة الداء الدكتور لطف الله خوجه، فلفت أنظارنا إليه قائلًا:
لا نعلم أمرًا اجتمع الناس على نسيانه، والتفريط فيه؛ كَنِسيانِ سُؤالِ الله وحده، وترك سؤال المخلوق، مع أن ذلك أصلُ التوحيد، ونداء الخالق سبحانه لنا { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ }، إلا إنه ما زال مجهولًا خفيًا !
ولهذا لما نزلت البراءة بعائشة ل قالت لها أمها: قُومِي إلى رسول الله ! قالت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمدُ إلا الله؛ فإنَّهُ الذي أنزلَ براءتي! وكذا حين نزلت التوبةُ بِكَعب بن مالك رضي الله عنه، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله: أَمِن عِندِكَ أم من عند الله؟! قال: "لا؛ بل من عند الله "، ولم يَغضَب صلى الله عليه وسلم من كلام عائشة رضي الله عنها، ولا سُؤالِ كَعب، ولم يَعَدُّهُ من سوءِ الأدب مع مقام النبوة؛ ذلك أنه هو الذي رباهم على ذلك! [مجلة البيان / العدد (208)، الصادر عن شهري [يناير وفبراير /2004] ص (4)]
وليكن لك قدوة خير في أبان بن عثمان رضي الله عنه الذي كان يتمثل دومًا قول الشاعر:
إني لأُكْرِمُ وجهـي أن أوجِّهـه ** عند السُّؤال لغير الواحد الصَّمد
عزّ القناعة والإيمـان يمنعنـي ** من التَّعـرُّض للمنَّانـة النَّكـد
رضيت بالله في يومي وفي غده ** والله أكرم مأمـولٍ لبعـد غد
إياك وعبودية الدينار:
قرع ابن تيمية بوعظه الأسماع قائلًا:
إن العبد لابد له من مال، فإن طلبه مباشرة من الله؛ استجابةً لِنُصحِ إبراهيم لنا بقوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}، وإنفاذًا لعظة النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس م بقوله: {إذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ}؛ صارَ العبدُ عبدًا لله حقًا، فقيرًا إليه صدقًا، أما إن طلب مسألته من مخلوق؛ صار عبدًا له، فقيرًا إليه! [ابن تيمية / إقامة الدليل على إبطال التحليل (3/421)]
وعليه:
فكل من هيمن الدرهمُ في قلبه فهو عبدٌ له، وإن أردت صفتَه؛ فإنَّهُ الذي إن أُعْطِيَ رَضِي، وإن مُنِعَ سَخِط، فَرِضَاهُ لِغَيرِ الله، وَسَخَطُهُ لغيرِ الله، قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] !
وإليك شاهد عدل يؤيد ابن تيمية في كلامه:
دخل مالك بن دينار السوق يومًا، فرأى رجلًا يبيع التِّين، فاشْتَهاه، فقال للبائع: أَتُقْرِضُنِي شيئًا منه للغد، فَأَبَى، فقال: لو رَهنْتُ عندَك حذائي أتقبل؟! قال: لا! فَسَار ولم يتكلم!
فَتَنَكَّرَ الحضورُ للبائع، وأخبروه أن الذي يطلب منه تينًا؛ الإمام الزاهد: مالك بن دينار!
فندم البائع وقال لعبده من فَورِهِ: اذهب لذاك الرجل، وَبِصُحبَتِكَ عَربة التين كلها، فإن قَبِلَهَا منك فأنت حُرٌ لِوَجهِ اللهِ
فطار العبدُ سُرُورًا، وَحَثَّ الخُطَى فَعَرضَها عليه، فأباها وقال له: قل لسيدك:
إن مالك بن دينار لا يَشْتَرِي التينَ بالدِّين!
وإن مالك بن دينار قد حَرَّمَ على نفسه أَكلَ التِّين، إلَى يَومِ الدِّين!
فقال العبد: خُذْهُ يا إمام! فإنك إن أخذْتُه كَان عِتْقِي! فقال مالك:
إن كان فيه عِتقُكَ، فإن فيه عُبوديتي وَرِقِّي!
سلعةٌ ثمنها للجنة
أخرج أبو داود في سننه بسند صحيح من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَكَفَّلَ لِي أنْ لاَ يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا، وَأتَكَفَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ؟! فقلتُ: أنَا، فَكَانَ لاَ يَسْأَلُ أحَداً شَيْئًا " فكان ثوبان يقع سوطه وهو راكب فلا يقول لأحد ناولنيه حتى ينزل فيأخذه " سنن أبي داود، رقم الحديث: (1643)، ص (254).
إنها رسالة واضحةٌ، قاطعةٌ صادحة! من لم يسأل الناس شيئًا، تكفل النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة!
شق الحديثُ شغافَ قلب أبي الدرداء رضي الله عنه، واستقر فيه عملًا وأداءً، وما إن لاقى زوجته حتى نهاها قائلًا: إياك أن تسألي الناس شيئًا! فقالت: فإن احْتَجْتُ أمرًا! فقال: تَتَبَّعِي الحَصَّادِين، فانْظُرِي مَا يَسقُطَ منهُم فَخُذِيه فاطحنيه ثم اعجنيه، ثم كليه ولا تسألي أحداً!
اخوتاه:
إن الله تعالى نَزَّهَ عباده في الجنة عن المسألة، فإن تمنى العبدُ فاكهة أو حاجة وجدها أمامه؛ ليتم الله النعمة عليه، ويكون في نعيمٍ تامٍ واصلٍ إليه، فلا يستذل أو يفتقر إلى أحد بالطلب منه!
والأموال تلاحقهم:
قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]
إن ثمة ثلة من الفقراء أبوا أن يدخلوا في مِنَّةِ أحدٍ أبدًا، فلم يسألوا الناس إلحاحًا، حتى ظَنَّهُم الجُهَّالُ أغنياءَ من تَمَامِ عِفَّتِهِم، فَعَرَّفَ الله المؤمنين بِسيماهم وَصِفَاتهم؛ كَتَواضُعِهم ووقَارهم، وهَيبتهم وجَلالَهم، فَصَار من يتفرسهم فَيَعرِفَهُم؛ ينقلُ الأموالَ إليهم، فأتتهم كَفالةٌ مَاليَّةٌ ربانية، دون أن يتكلموا بكلمة أو يخبروا بِطَوِّية !
أخي: إن رزقَكَ يُطارِدُكَ، تمامًا كما يُلاحِقُكَ أجلُك، فَرِزْقُكَ آتيك وإن لم تَأتِه، ولكن تأبى سنة الله تعالى إلا أن تزيد المُتَعَفِّفَ غِنىً، والسائلَ فَقرًا، ورحم الله الشافعي الذي أَحَبَّ أن يُطمئِنُكَ فقالَ لك:
سيُفتَـحُ بابٌ إذا سُـدَّ باب ** نعم، وتهون الأمور الصعاب
مع الهم يُسْران هَوِّن عَليكَ ** فلا الهمُّ يُجْدِي ولا الاكتئاب
ورزقٌ أتـاك ولـم تأتـه ** ولا أرق العين منه الطِّلاب
إذا احتجت الناس عن سائل ** فما دون سائل ربي حجـاب
يعود بفضل على من رجاه ** وراجيه في كل حين يُجاب
ذكر الشيخ عبد الله عزام / خبرَ رجل مُحسن من كبار المنفقين على الجهاد الأفغاني، اسمه " إبراهيم الجليدان " كان موظفًا في مطار المدينة المنورة، فجاءه أحد الأمراء وطلب منه أن يشتري له مجموعة من الأراضي حول المطار، وكانت بخسة الثمن؛ إذ إنَّ المطار في بداية نشأته، فاشترى مساحات شاسعة ب [40 ألف ريال] وقد استدان المبلغ من أناس لا يُحصون كثرة، فلما أتى الأمير وأخبره؛ تَنَكَّرَ لَهُ، وقال: ضاق الحال بي، ولا أريد الأرض!
فقال: دفعت [40 ألف ريال] من أين أُعِيدها لأصحابها؟! قال: لا علاقة لي بذلك!
فاسترجع الرجل، وسأل الله الفِكَاكَ من الكارثة، وبدأ يَعِدُ هَذا بِأَجَلٍ، وآخر بِأَجَلٍ، ويُصَبِّرَ هَذا، وَيرجُو هذا، وَدَارت الأيام؛ لِيَكُونَ المطارُ مَعلمًا لامعًا تُشَدُّ رِحَالُ المُسافِرينَ إليه، وأصبحت قطعةُ الأرضِ الصغيرة تباع بمئات الملايين، وأصبح من كبار أغنياء المملكة العربية السعودية، فقد جاءه الرزق رغم أنفه، فأنا أريد، وأنت تريد، والله يفعل ما يريد! [عبد الله عزام / تفسير سورة التوبة ص (193)].
شرف النفس وسيادة الخلق:
دخل أعرابيٌ البَصرةَ بالعراق، فَهَالَهُ ثَناءُ النَّاس على الإمام الحسن البصري، وأن له شرفًا يَنْطِح النُّجُوم، وَيَعْلُو جَنَاح النَّسْرِ، وَيَزْحَمُ مَنْكِب الْجَوْزاء، فسأل عقلاءَهُم عن سُلَّمِ إمامهم الذي أَعرَجَ فيه، فقالوا له:
احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دُنيَاهم !
فَنَقَّبتُ عن مذهبِهِ في المسألة؛ فألفيتُه يقول: لا يزال الناس يكرمونك ما لم تعاط ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك، وكرهوا حديثك وأبغضوك! وهذا ما عناه الخطابي بقوله:
إن الأغنياء لا يعطونك بقدر ما يغنونك، إنما يعطونك بقدر ما يفضحونك. [الخطابي / العزلة (1/67)]
وفي الاتجاه المعاكس:
سأل أعرابيٌ قومًا إعانته فقال ببلاغةٍ باهرة: رحم الله امرءًا لم تَمُجُّ أذنه كلامي، وقدم له معذرة من سوء مقامي، فإن البلاد مُجدبة، والحال صعبة، والحياء زاجر عن كلامكم، والفقر عاذر يدعو إلى إخباركم، والدعاء إحدى الصدقتين، فرحم الله امرءاً آسى بِمِير، أو دعا بِخَير!
فعجب القوم من فصاحته فقالوا له: ممن أنت؟ فقال:
اللهم غفرًا؛ إن لُؤمَ الاكتساب يمنع الانتساب!
إذا تقرر هذا؛ فمن ابتغى معراج شرفه عرفه، ومن أراد سبيل ذله أدركه، والحال كما قال أبو الفرج الببغاء:
ما الذُّلّ إلاَّ تحمّل المنـن ** فكن عزيزاً إن شئت أو فهن
محمد محمد الأسطل
رابطة العلماء السوريين