حكاية ناي ♔
01-02-2023, 07:36 AM
الحمد لله رب الوجود، سبحانه الإله الواحد المعبود، تنزَّه عن الشريك والولد، ولم يكن له كفوًا أحد، نسألُه في الدنيا دوامَ الإحسان، والسترَ يوم التَّنادِ والجودَ بالغفران.
يا أخا الإسلام:
سَرتْ بشائرُ بالهادي ومولدِه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
في الشرقِ والغربِ مسرى النُّورِ في الظُّلَمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تخطَّفتْ مُهَجَ الطَّاغينَ من عَرَبٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وطيَّرَتْ أَنفُسَ الباغينَ مِن عَجَمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
رِيعَتْ لها شُرَفُ الإيوانِ فانصَدَعتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
من صَدْمَةِ الحقِّ لا مِن صدمةِ القُدُمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَتَيْتَ والناسُ فوضى لا تمرُّ بهمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إلا على صَنمٍ قد هَامَ في صَنَمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
والأرضُ مملوءةٌ جورًا مُسخَّرةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لكلِّ طاغيةٍ في الخَلقِ مُحتَكِمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المَلِك الحق المبين، منزل الكتاب هدايةً للمتقين، ومُرسِل النبي صلى الله عليه وسلم قدوةً لعموم المؤمنين، وأشهد أن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسولُه، ماحِق أباطيل الهوى بنور الوحي الكريم، مَن اقتدى به سار على محجةٍ وهُدى، ومن تنكَّب طريقَه فقد ضل وغوى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد توقَّفتْ أنفاسُ الزمان في انتظار مولدِ نبيِّنا ورسولنا الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبشرت به المخلوقات على اختلاف مدارجِها ودرجاتها، كلٌّ على قدرِه وطريقة تعبيره؛ السماءُ وما حوت بعلوِّها وجلالها، والأرض وما طوت بقدرة الله فيها؛ لأن وجوده صلى الله عليه وسلم كان نقطة تحوُّلٍ بشريٍّ عامٍّ على مجرى هذا العالم الفسيح.
قد كانت الدنيا قبله في شركٍ ووثنيةٍ، وضياعِ أخلاقٍ، وتناءٍ عن السلوكِ الرَّشيدِ؛ ففي الشرق آلهة كُثُرٌ، وفي الغرب حَيدةٌ ناشزةٌ عن تعاليم روح الله ونبيِّه عيسى عليه السلام، بينما تطرَّف اليهودُ عن ديانة سيدنا موسى عليه السلام بما حرَّفوه مِن شريعتهم!
وهكذا انطفأَتْ شُمُوعُ التوحيدِ النادرةُ الباقيةُ في الأرض، ولم يبقَ إلا نفرٌ قليلٌ جدًّا من الحنفاء الذين كانوا يعبدون الله تعالى على بقايا حنيفيَّةِ سيدنا إبراهيم عليه السلام.
وعن هذا المعنى جاء الحديث الشريف عن عِياض بن حِمار رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذاتَ يومٍ في خطبتِه: ((أَلَا إنَّ ربي أمرني أن أُعلِّمكم ما جهِلتُم مما علَّمني يومي هذا، كلُّ مالٍ نحلتُه عبدًا حلالٌ، وإني خَلَقتُ عبادي حنفاءَ كلَّهم، وإنهم أتَتْهم الشياطينُ فاجتالَتْهم عن دينهم، وحرَّمَت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرَتْهم أن يُشرِكوا بي ما لم أنزل بهِ سلطانًا، وإنَّ الله نظر إلى أهلِ الأرضِ فمقتَهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهلِ الكتابِ...))؛ (صحيح مسلم 2865)، وقال الله تعالى عن ذلك أيضًا: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2].
وقد جاءتِ البُشْرى بسيِّد الأنام قبل زمانه بسنينَ عدَدٍ؛ فها هو مَلِك اليمن ربيعة بن نصر - من ملوك التبابعة - وقد هاله ما رأى في منامه واستقدم مَن يُفسِّره، وكان ممن استقدمهم لذلك رجلٌ يقال له: سَطِيحٌ، فبعد أن سمِعه أجابه بكلامٍ كثيرٍ في تفسير رؤياه، وكان مما قال في باب البشارة بخاتم الأنبياء: "نبيٌّ زكيٌّ، يأتيه الوحيُ من قِبَلِ العَلِيِّ"، قال: وممن هذا النبي؟ قال: رجلٌ مِن ولد فهر بن غالب، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر، قال: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم، يوم يُجمَع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويَشقَى فيه المسيئون..."؛ (السيرة النبوية؛ لابن هشام، ص28 ج1، ط1 2006م - دار الحديث/ القاهرة).
وقال له شِقٌّ في تأويل الرؤيا ذاتها: "رسولٌ مُرسَل، يأتي بالحقِّ والعدل، بين أهل الدين والفضل، يكون المُلْك في قومِه إلى يوم الفصل"؛ (السابق ص29).
وقد بشَّر به أحد العباد في عَمُّورية، بعدما صحبه سلمانُ الفارسيُّ رضي الله تعالى عنه زمنًا، قال له: "...، ولكنه قد أظلَّك زمانُ نبيٍّ هو مبعوثٌ بدينِ إبراهيمَ، يخرج بأرضِ العربِ مهاجرًا إلى أرضٍ بين حَرَّتينِ بينهما نخلٌ، به علاماتٌ لا تَخفى، يأكلُ الهدية ولا يأكلُ الصَّدقةَ، بين كتِفَيه خاتمُ النُّبوَّةِ، فإنِ استطعتَ أن تلحقَ بتلك البلادِ فافعلْ..."؛ (الألباني في السلسلة الصحيحة 2/556 بسندٍ حسنٍ عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه).
وبشَّرتِ الكتبُ المقدَّسة السابقة على الإسلام بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا يعلَمون نُعُوته من كتبهم، ومِن ألسنة أحبارهم ورهبانهم، بَيْدَ أنهم كانوا يجتهدون في كتمان الحقيقة، قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146]، وعرَّفَ القرآنُ الكريم لأتباعه بعضَ صفتِه؛ كما قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157].
وكما قال الله تعالى عن نبيِّنا الكريم صلى الله عليه وسلم في القرآن: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45]، فقد جاءَتْ هذه الآية الكريمة بزياداتٍ عليها في توراة سيدنا موسى عليه السلام، فعن عطاء بن يَسَارٍ رضي الله تعالى عنه قال: "لقيتُ عبدَاللهِ بنَ عمرِو بنِ العاصِ، فقلتُ: أخبِرني عن صفةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم في التوراةِ، قال: فقال: أَجَلْ واللهِ، إنَّهُ لموصوفٌ في التوراةِ ببعضِ صفتِه في القرآنِ: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45] وحِرزًا للأُمِّيِّينَ، أنتَ عبدي ورسولي، سمَّيتُك المتوكلُ، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ ولا صخَّابٍ في الأسواقِ، ولا يدفعُ بالسيئةِ السيئةَ، ولكن يعفو ويغفرُ، ولن يقبضَه اللهُ تعالَى حتى يُقيمَ به المِلَّةَ العوجاءَ بأن يقولوا لا إلهَ إلا اللهُ، ويفتحوا بها أعيُنًا عُمْيًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلفًا"؛ (الألباني - صحيح الأدب المفرد 185).
وجاء في الأسفار الموسوية ما يلي: "إن الله تعالى من سيناء تجلَّى، وأشرق نوره من سيعير، وأطلع من جبال فاران ومعه ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم"؛ (سفر التثنية 33/ 1 - 2).
وقد ربط كثيرٌ من الباحثين المنصفين في الأديان على ربوع أديم الأرض بين هذا النص التوراتيِّ وقولِ الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ ﴾ [التين: 1، 2]، بأن التين والزيتون إشارةٌ إلى أرض نبي الله عيسى عليه السلام، وأن طُورَ سينين إشارةٌ إلى نبوة نبي الله موسى عليه السلام، وأن البلد الأمين هي مكة المباركة، إشارة إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان رجالٌ من قوم عاصم بن عمر كانوا يذكرون في سبب هدايتهم للإسلام ما عرَفوه من قول اليهود لهم: " إنَّهُ قد تقاربَ زمانُ نبيٍّ يُبعثُ الآنَ، نقتلُكم معهُ قتلَ عادٍ وإرمَ..."؛ (الوادعي في صحيح أسباب النزول 26، بسندٍ حسنٍ)، ولكنهم كفروا به لما جاء! قال الله تعالى: ﴿ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 89].
وبشَّر به رُوح الله وكلمته سيدنا عيسى عليه السلام، قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الصف: 6].
وقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم - متحدثًا عن نفسه في معرض البشارات -: ((إنِّي عندَ اللهِ مكتوبٌ خاتمُ النَّبيِّينَ وإنَّ آدمَ لمُنْجَدِلٌ في طينتِه، وسأخبرُكم بأوَّلِ أمري:دَعوةُ إبراهيمَ، وبِشارةُ عيسَى، ورؤيا أمِّي التي رأَت - حين وضعَتني - وقد خرج لها نورٌ أضاءَت لها منه قصورُ الشَّامِ))؛ (الألباني في مشكاة المصابيح 5691، بسندٍ صحيحٍ، عن العِرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه).
أما دعوة إبراهيم عليه السلام، ففي قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129]، واستجاب الله تعالى دعاء الخليل عليه السلام، قال الله عز وجل: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164].
وقد وقعت أحداثٌ جليلةٌ تعدُّ مِن التمهيد والبشارات العملية الواقعية للنبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم:
منها إعادة حفر بئر زمزم قبل مولده صلى الله عليه وسلم بقليل، فعن عبدالله بن زرير الغافقي رضي الله تعالى عنه قال: "سمعتُ عليَّ بنَ أبي طالبٍ وهو يُحدِّثُ حديثَ زمزمَ، قال: بَيْنَا عبدُالمطلبِ نائمٌ في الحِجرِ أُتِيَ، فقيل له: احفِرْ بَرَّةً، فقال: وما بَرَّةُ؟ ثم ذهب عنه، حتى إذا كان الغدُ نام في مضجعِه ذلك، فأُتِيَ فقيل له: احفِرِ المضنونةَ، قال: وما المضنونةُ؟ ثم ذهب عنه، حتى إذا كان الغدُ فنام في مضجعِه ذلك، فأُتِيَ فقيل له: احفِرْ طَيْبَةَ، فقال: وما طَيْبَةُ؟ ثم ذهب عنه، فلما كان الغدُ عاد لمضجعِه فنام فيه، فأُتِيَ فقيل له: احفِرْ زمزمَ، فقال: وما زمزمُ؟ فقال: لا تُنزَفُ ولا تُذمُّ، ثم نعت له موضعها، فقام يحفرُ حيثُ نُعِت، فقالت له قريشٌ: ما هذا يا عبدَالمطلبِ؟ فقال: أُمِرتُ بحَفر زمزمَ..."؛ (الألباني في إزالة الدهش 26، بسندٍ صحيحٍ)، وتفجَّرت زمزم بعد ذلك لتسقيَ الحجيج، ويكون الشرب منها نسكًا في شريعة الإسلام، وليكون حفرها من البشارات العملية لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومِن البشارات المشتهرة التي سبقت ميلادَ النبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم حادثةُ الفيل، والتي خاطَب فيها ربُّ العزة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنَّهُ كان موجودًا بين أهل مكة، وهو الذي وُلد في هذا العام، قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ﴾ [الفيل: 1 - 5].
لقد كانت هذه الحادثة لفتًا للأنظارِ إلى قيمة هذا البيتِ العتيق، وإرساءً لفضلهِ وأهميته إلى آخر الأزمان؛ حيث ستَهبِطُ على هذه البقعةِ المباركةِ آخرُ إرسالياتِ السماء لأهلِ الأرض، وسيكون حامل الأمانة الإلهية هو سيِّدَ الأوَّلين صلى الله عليه وسلم، فحفِظ الله بيتَه العتيق مِن هجمةِ أَبْرَهَة وجنوده بعدما أرسى الحقدُ أطنابَهُ في قلبه على البيت الحرام، وقطعَ سَفرًا طويلًا بين اليمن ومكة؛ ليظفر بهدم الكعبة، وهيهات!
وقد جاء الخبر العظيم بعد ما يقارب نصف قرنٍ لتلاوة ملاحم حادثة الفيل درج آيِ القرآن الكريم، "ولم تكن هذه الحمايةُ تكريمًا لمَن يعيش في البيت آنذاك، ولا كانت استجابةً لدعاء الوثنيِّين وعُبَّاد الأصنام الذين يملؤون ساحاته، حَمَى ربُّ البيت بيته لحكمةٍ عليا، كان سبحانه وتعالى يريدُ بهذا البيت أمرًا، يريد أن يحفظه ليكون مثابةً للناس وأمنًا، وليكون نقطةَ تجمع للعقيدة الجديدة، تزحف منه حرة طليقة" (أحمد بهجت / أنبياء الله، ص 399، ط/33، 2007م - دار الشروق / القاهرة).
وبالأمسِ كانت مكة مَطمعًا لجيش أبرهةَ؛ حيث كان الأوغاد يريدُون أن يتخطَّفوها، بَيْدَ أن الله قد دمَّرَهم تدميرًا، "وزاد هذا الحادثُ الفذُّ العجيبُ في مكانة مكة الدينية، وزاد أهلها انصرافًا عن التفكير في شيء غير الاحتفاظ بتلك المكانة الرفيعة، ومحاربة مَن يحاول الانتقاص منها أو الاعتداء عليها"؛ (محمد حسين هيكل / حياة محمد / ص 120، ط/6، 2012م، الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة).
وفي ليلة الميلاد المباركة قد حَدَّث التاريخُ العامُّ للبشرية أن أحداثًا غريبةً قد غمرت الأرضَ، وتناقلتها الألسنة، وحاول البعض إيجاد تفسيرٍ لها، وأرسلوا لذلك رُسُلَهم في الآفاق يستطلعون الخبر، " لَمَّا كانتِ اللَّيلةُ الَّتي وُلِدَ فيها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ارتَجسَ إيوانُ كِسرى، وسقَطَت منها أربعَ عشرَ شرفة، وخَمدت نارُ فارِسَ، ولم تخمَد قبلَ ذلك ألفَ عامٍ، وغاضَت بُحيرَةُ ساوَةَ، فلمَّا أصبحَ كسرى أفزعَهُ ذلِكَ، فصبرَ عليهِ تشجُّعًا، فلمَّا عِيلَ صبرُهُ رأى ألا يسترَ ذلك عن وزرائِهِ ومَرازبتِهِ، فلبسَ تاجَهُ وقعدَ على سريرِهِ، وجمعَهُم إليهِ وأخبرَهُم بما رأى، فبَينا هم كذلِكَ إذ وردَ عليهمُ الكتابُ بخُمودِ النَّارِ، فازدادَ غمًّا إلى غمِّهِ، فقالَ الموبِذانُ: وأَنا - أصلحَ اللَّهُ الملِكَ - اللَّهُمَّ قد رأيتُ في هذِهِ اللَّيلةِ إبلًا ضِعافًا تقودُ خيلًا عِرابًا، قد قطَعَت دجلةَ وانتشَرَت في بلادِها، فقالَ: أيُّ شيءٍ يكونُ هذا يا موبذانُ؟ وَكانَ أعلَمَهُم في أنفسِهِم، قالَ: حادثٌ يكون في ناحيةِ العَربِ، فَكَتبَ عندَ ذلِكَ: مِن كِسرى ملِكِ الملوكِ إلى النُّعمانِ بنِ المنذرِ، أمَّا بعدُ: فابعَث إليَّ برجلٍ عالِمٍ بما أريدُ أن أسألَهُ عنهُ، فبَعثَ إليهِ بعبدِالمسيحِ بنِ عمرِو بنِ حيَّانَ بنِ بَقلةَ الغسَّانيِّ..."؛ (النخشبي في تخريج الحنائيات، 2 /994، وقال: حسنٌ غريبٌ، عن هانئ المخزومي).
ومن إرهاصات النبوة ما حدثَ مع بَحِيرا الراهب الذي لَمَّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ظلَّ يُبشِّر برسالته، ويقيم أدلته على ذلك، ويبدي خوفه عليه من الروم، ذكَرَ الوادعيُّ ذلك، فقال: "... فأخذ بيَدِ رَسولِ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: هذا سيِّدُ العالَمينَ، هذا رسولُ رَبِّ العالَمينَ، يبعَثُه الله رحمةً للعالَمين، فقال له أشياخٌ مِن قريش: ما عِلْمُك؟ فقال: إنَّكم حين أشرَفْتُم من العَقَبة، لم يبقَ حَجَرٌ ولا شجَرٌ إلَّا خَرَّ ساجِدًا، ولا يَسجُدانِ إلَّا لنبيٍّ، وإني أعرِفُه بخاتَمِ النبوَّةِ، أسفل من غضروفِ كتِفِه مثل التفَّاحة، ثم رجع فصنع لهم طعامًا، فلما أتاهم به فكان هو في رعيَّةِ الإبلِ، فقال: أرسِلوا إليه، فأقبلَ وعليه غمامةٌ تُظِلُّه، فلمَّا دنا من القوم وجدهم قد سَبَقوه إلى فيءِ الشَّجرة، فلما جلس مال فيءُ الشَّجرة عليه، فقال: انظروا إلى فَيءِ الشَّجرة مال عليه، قال: فبينما هو قائمٌ عليهم، وهو يناشِدُهم ألَّا يذهبوا به إلى الروم؛ فإنَّ الرُّومَ إن رأَوْه عرَفوه بالصِّفةِ فيَقتُلونَه، فالتفتَ فإذا بسبعةٍ قد أقبلوا من الروم فاستقبَلَهم، فقال: ما جاءَ بكم؟ قالوا: جئنا، إن هذا النبيَّ خارج في هذا الشَّهرِ، فلم يبقَ طريقٌ إلَّا بُعِثَ إليه بأُناسٍ، إنَّا قد أُخبِرْنا خبَرَه فبُعِثنا إلى طريقِك هذا..."؛ (الوادعي في المسند الصحيح، 828، عن أبي موسى الأشعري عبدالله بن قيس).
وهكذا فقد تضافرت البشائر برسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في زمان وجوده، وما سبقه من أزمانٍ؛ دلالةً صادقةً على علوِّ قدره، وشرف رتبته في العالَمين.
وما زال الحب والتقدير والإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين يغمرُنا ونحن أتباع هذا النبيِّ الخاتم صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم بشَّروا به، ومهَّدوا في القلوب والأذهان أَوْفَى مكانٍ لسيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم، والذي كانت رسالته لَبِنَةَ التمامِ، ومسكَ الختام.
نسأل الله تعالى أفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد رسول الله، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
والحمد لله في المبدأ والمنتهى.
يا أخا الإسلام:
سَرتْ بشائرُ بالهادي ومولدِه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
في الشرقِ والغربِ مسرى النُّورِ في الظُّلَمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تخطَّفتْ مُهَجَ الطَّاغينَ من عَرَبٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وطيَّرَتْ أَنفُسَ الباغينَ مِن عَجَمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
رِيعَتْ لها شُرَفُ الإيوانِ فانصَدَعتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
من صَدْمَةِ الحقِّ لا مِن صدمةِ القُدُمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَتَيْتَ والناسُ فوضى لا تمرُّ بهمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إلا على صَنمٍ قد هَامَ في صَنَمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
والأرضُ مملوءةٌ جورًا مُسخَّرةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لكلِّ طاغيةٍ في الخَلقِ مُحتَكِمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المَلِك الحق المبين، منزل الكتاب هدايةً للمتقين، ومُرسِل النبي صلى الله عليه وسلم قدوةً لعموم المؤمنين، وأشهد أن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسولُه، ماحِق أباطيل الهوى بنور الوحي الكريم، مَن اقتدى به سار على محجةٍ وهُدى، ومن تنكَّب طريقَه فقد ضل وغوى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد توقَّفتْ أنفاسُ الزمان في انتظار مولدِ نبيِّنا ورسولنا الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبشرت به المخلوقات على اختلاف مدارجِها ودرجاتها، كلٌّ على قدرِه وطريقة تعبيره؛ السماءُ وما حوت بعلوِّها وجلالها، والأرض وما طوت بقدرة الله فيها؛ لأن وجوده صلى الله عليه وسلم كان نقطة تحوُّلٍ بشريٍّ عامٍّ على مجرى هذا العالم الفسيح.
قد كانت الدنيا قبله في شركٍ ووثنيةٍ، وضياعِ أخلاقٍ، وتناءٍ عن السلوكِ الرَّشيدِ؛ ففي الشرق آلهة كُثُرٌ، وفي الغرب حَيدةٌ ناشزةٌ عن تعاليم روح الله ونبيِّه عيسى عليه السلام، بينما تطرَّف اليهودُ عن ديانة سيدنا موسى عليه السلام بما حرَّفوه مِن شريعتهم!
وهكذا انطفأَتْ شُمُوعُ التوحيدِ النادرةُ الباقيةُ في الأرض، ولم يبقَ إلا نفرٌ قليلٌ جدًّا من الحنفاء الذين كانوا يعبدون الله تعالى على بقايا حنيفيَّةِ سيدنا إبراهيم عليه السلام.
وعن هذا المعنى جاء الحديث الشريف عن عِياض بن حِمار رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذاتَ يومٍ في خطبتِه: ((أَلَا إنَّ ربي أمرني أن أُعلِّمكم ما جهِلتُم مما علَّمني يومي هذا، كلُّ مالٍ نحلتُه عبدًا حلالٌ، وإني خَلَقتُ عبادي حنفاءَ كلَّهم، وإنهم أتَتْهم الشياطينُ فاجتالَتْهم عن دينهم، وحرَّمَت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرَتْهم أن يُشرِكوا بي ما لم أنزل بهِ سلطانًا، وإنَّ الله نظر إلى أهلِ الأرضِ فمقتَهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهلِ الكتابِ...))؛ (صحيح مسلم 2865)، وقال الله تعالى عن ذلك أيضًا: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2].
وقد جاءتِ البُشْرى بسيِّد الأنام قبل زمانه بسنينَ عدَدٍ؛ فها هو مَلِك اليمن ربيعة بن نصر - من ملوك التبابعة - وقد هاله ما رأى في منامه واستقدم مَن يُفسِّره، وكان ممن استقدمهم لذلك رجلٌ يقال له: سَطِيحٌ، فبعد أن سمِعه أجابه بكلامٍ كثيرٍ في تفسير رؤياه، وكان مما قال في باب البشارة بخاتم الأنبياء: "نبيٌّ زكيٌّ، يأتيه الوحيُ من قِبَلِ العَلِيِّ"، قال: وممن هذا النبي؟ قال: رجلٌ مِن ولد فهر بن غالب، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر، قال: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم، يوم يُجمَع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويَشقَى فيه المسيئون..."؛ (السيرة النبوية؛ لابن هشام، ص28 ج1، ط1 2006م - دار الحديث/ القاهرة).
وقال له شِقٌّ في تأويل الرؤيا ذاتها: "رسولٌ مُرسَل، يأتي بالحقِّ والعدل، بين أهل الدين والفضل، يكون المُلْك في قومِه إلى يوم الفصل"؛ (السابق ص29).
وقد بشَّر به أحد العباد في عَمُّورية، بعدما صحبه سلمانُ الفارسيُّ رضي الله تعالى عنه زمنًا، قال له: "...، ولكنه قد أظلَّك زمانُ نبيٍّ هو مبعوثٌ بدينِ إبراهيمَ، يخرج بأرضِ العربِ مهاجرًا إلى أرضٍ بين حَرَّتينِ بينهما نخلٌ، به علاماتٌ لا تَخفى، يأكلُ الهدية ولا يأكلُ الصَّدقةَ، بين كتِفَيه خاتمُ النُّبوَّةِ، فإنِ استطعتَ أن تلحقَ بتلك البلادِ فافعلْ..."؛ (الألباني في السلسلة الصحيحة 2/556 بسندٍ حسنٍ عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه).
وبشَّرتِ الكتبُ المقدَّسة السابقة على الإسلام بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا يعلَمون نُعُوته من كتبهم، ومِن ألسنة أحبارهم ورهبانهم، بَيْدَ أنهم كانوا يجتهدون في كتمان الحقيقة، قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146]، وعرَّفَ القرآنُ الكريم لأتباعه بعضَ صفتِه؛ كما قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157].
وكما قال الله تعالى عن نبيِّنا الكريم صلى الله عليه وسلم في القرآن: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45]، فقد جاءَتْ هذه الآية الكريمة بزياداتٍ عليها في توراة سيدنا موسى عليه السلام، فعن عطاء بن يَسَارٍ رضي الله تعالى عنه قال: "لقيتُ عبدَاللهِ بنَ عمرِو بنِ العاصِ، فقلتُ: أخبِرني عن صفةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم في التوراةِ، قال: فقال: أَجَلْ واللهِ، إنَّهُ لموصوفٌ في التوراةِ ببعضِ صفتِه في القرآنِ: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45] وحِرزًا للأُمِّيِّينَ، أنتَ عبدي ورسولي، سمَّيتُك المتوكلُ، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ ولا صخَّابٍ في الأسواقِ، ولا يدفعُ بالسيئةِ السيئةَ، ولكن يعفو ويغفرُ، ولن يقبضَه اللهُ تعالَى حتى يُقيمَ به المِلَّةَ العوجاءَ بأن يقولوا لا إلهَ إلا اللهُ، ويفتحوا بها أعيُنًا عُمْيًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلفًا"؛ (الألباني - صحيح الأدب المفرد 185).
وجاء في الأسفار الموسوية ما يلي: "إن الله تعالى من سيناء تجلَّى، وأشرق نوره من سيعير، وأطلع من جبال فاران ومعه ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم"؛ (سفر التثنية 33/ 1 - 2).
وقد ربط كثيرٌ من الباحثين المنصفين في الأديان على ربوع أديم الأرض بين هذا النص التوراتيِّ وقولِ الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ ﴾ [التين: 1، 2]، بأن التين والزيتون إشارةٌ إلى أرض نبي الله عيسى عليه السلام، وأن طُورَ سينين إشارةٌ إلى نبوة نبي الله موسى عليه السلام، وأن البلد الأمين هي مكة المباركة، إشارة إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان رجالٌ من قوم عاصم بن عمر كانوا يذكرون في سبب هدايتهم للإسلام ما عرَفوه من قول اليهود لهم: " إنَّهُ قد تقاربَ زمانُ نبيٍّ يُبعثُ الآنَ، نقتلُكم معهُ قتلَ عادٍ وإرمَ..."؛ (الوادعي في صحيح أسباب النزول 26، بسندٍ حسنٍ)، ولكنهم كفروا به لما جاء! قال الله تعالى: ﴿ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 89].
وبشَّر به رُوح الله وكلمته سيدنا عيسى عليه السلام، قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الصف: 6].
وقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم - متحدثًا عن نفسه في معرض البشارات -: ((إنِّي عندَ اللهِ مكتوبٌ خاتمُ النَّبيِّينَ وإنَّ آدمَ لمُنْجَدِلٌ في طينتِه، وسأخبرُكم بأوَّلِ أمري:دَعوةُ إبراهيمَ، وبِشارةُ عيسَى، ورؤيا أمِّي التي رأَت - حين وضعَتني - وقد خرج لها نورٌ أضاءَت لها منه قصورُ الشَّامِ))؛ (الألباني في مشكاة المصابيح 5691، بسندٍ صحيحٍ، عن العِرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه).
أما دعوة إبراهيم عليه السلام، ففي قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129]، واستجاب الله تعالى دعاء الخليل عليه السلام، قال الله عز وجل: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164].
وقد وقعت أحداثٌ جليلةٌ تعدُّ مِن التمهيد والبشارات العملية الواقعية للنبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم:
منها إعادة حفر بئر زمزم قبل مولده صلى الله عليه وسلم بقليل، فعن عبدالله بن زرير الغافقي رضي الله تعالى عنه قال: "سمعتُ عليَّ بنَ أبي طالبٍ وهو يُحدِّثُ حديثَ زمزمَ، قال: بَيْنَا عبدُالمطلبِ نائمٌ في الحِجرِ أُتِيَ، فقيل له: احفِرْ بَرَّةً، فقال: وما بَرَّةُ؟ ثم ذهب عنه، حتى إذا كان الغدُ نام في مضجعِه ذلك، فأُتِيَ فقيل له: احفِرِ المضنونةَ، قال: وما المضنونةُ؟ ثم ذهب عنه، حتى إذا كان الغدُ فنام في مضجعِه ذلك، فأُتِيَ فقيل له: احفِرْ طَيْبَةَ، فقال: وما طَيْبَةُ؟ ثم ذهب عنه، فلما كان الغدُ عاد لمضجعِه فنام فيه، فأُتِيَ فقيل له: احفِرْ زمزمَ، فقال: وما زمزمُ؟ فقال: لا تُنزَفُ ولا تُذمُّ، ثم نعت له موضعها، فقام يحفرُ حيثُ نُعِت، فقالت له قريشٌ: ما هذا يا عبدَالمطلبِ؟ فقال: أُمِرتُ بحَفر زمزمَ..."؛ (الألباني في إزالة الدهش 26، بسندٍ صحيحٍ)، وتفجَّرت زمزم بعد ذلك لتسقيَ الحجيج، ويكون الشرب منها نسكًا في شريعة الإسلام، وليكون حفرها من البشارات العملية لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومِن البشارات المشتهرة التي سبقت ميلادَ النبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم حادثةُ الفيل، والتي خاطَب فيها ربُّ العزة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنَّهُ كان موجودًا بين أهل مكة، وهو الذي وُلد في هذا العام، قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ﴾ [الفيل: 1 - 5].
لقد كانت هذه الحادثة لفتًا للأنظارِ إلى قيمة هذا البيتِ العتيق، وإرساءً لفضلهِ وأهميته إلى آخر الأزمان؛ حيث ستَهبِطُ على هذه البقعةِ المباركةِ آخرُ إرسالياتِ السماء لأهلِ الأرض، وسيكون حامل الأمانة الإلهية هو سيِّدَ الأوَّلين صلى الله عليه وسلم، فحفِظ الله بيتَه العتيق مِن هجمةِ أَبْرَهَة وجنوده بعدما أرسى الحقدُ أطنابَهُ في قلبه على البيت الحرام، وقطعَ سَفرًا طويلًا بين اليمن ومكة؛ ليظفر بهدم الكعبة، وهيهات!
وقد جاء الخبر العظيم بعد ما يقارب نصف قرنٍ لتلاوة ملاحم حادثة الفيل درج آيِ القرآن الكريم، "ولم تكن هذه الحمايةُ تكريمًا لمَن يعيش في البيت آنذاك، ولا كانت استجابةً لدعاء الوثنيِّين وعُبَّاد الأصنام الذين يملؤون ساحاته، حَمَى ربُّ البيت بيته لحكمةٍ عليا، كان سبحانه وتعالى يريدُ بهذا البيت أمرًا، يريد أن يحفظه ليكون مثابةً للناس وأمنًا، وليكون نقطةَ تجمع للعقيدة الجديدة، تزحف منه حرة طليقة" (أحمد بهجت / أنبياء الله، ص 399، ط/33، 2007م - دار الشروق / القاهرة).
وبالأمسِ كانت مكة مَطمعًا لجيش أبرهةَ؛ حيث كان الأوغاد يريدُون أن يتخطَّفوها، بَيْدَ أن الله قد دمَّرَهم تدميرًا، "وزاد هذا الحادثُ الفذُّ العجيبُ في مكانة مكة الدينية، وزاد أهلها انصرافًا عن التفكير في شيء غير الاحتفاظ بتلك المكانة الرفيعة، ومحاربة مَن يحاول الانتقاص منها أو الاعتداء عليها"؛ (محمد حسين هيكل / حياة محمد / ص 120، ط/6، 2012م، الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة).
وفي ليلة الميلاد المباركة قد حَدَّث التاريخُ العامُّ للبشرية أن أحداثًا غريبةً قد غمرت الأرضَ، وتناقلتها الألسنة، وحاول البعض إيجاد تفسيرٍ لها، وأرسلوا لذلك رُسُلَهم في الآفاق يستطلعون الخبر، " لَمَّا كانتِ اللَّيلةُ الَّتي وُلِدَ فيها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ارتَجسَ إيوانُ كِسرى، وسقَطَت منها أربعَ عشرَ شرفة، وخَمدت نارُ فارِسَ، ولم تخمَد قبلَ ذلك ألفَ عامٍ، وغاضَت بُحيرَةُ ساوَةَ، فلمَّا أصبحَ كسرى أفزعَهُ ذلِكَ، فصبرَ عليهِ تشجُّعًا، فلمَّا عِيلَ صبرُهُ رأى ألا يسترَ ذلك عن وزرائِهِ ومَرازبتِهِ، فلبسَ تاجَهُ وقعدَ على سريرِهِ، وجمعَهُم إليهِ وأخبرَهُم بما رأى، فبَينا هم كذلِكَ إذ وردَ عليهمُ الكتابُ بخُمودِ النَّارِ، فازدادَ غمًّا إلى غمِّهِ، فقالَ الموبِذانُ: وأَنا - أصلحَ اللَّهُ الملِكَ - اللَّهُمَّ قد رأيتُ في هذِهِ اللَّيلةِ إبلًا ضِعافًا تقودُ خيلًا عِرابًا، قد قطَعَت دجلةَ وانتشَرَت في بلادِها، فقالَ: أيُّ شيءٍ يكونُ هذا يا موبذانُ؟ وَكانَ أعلَمَهُم في أنفسِهِم، قالَ: حادثٌ يكون في ناحيةِ العَربِ، فَكَتبَ عندَ ذلِكَ: مِن كِسرى ملِكِ الملوكِ إلى النُّعمانِ بنِ المنذرِ، أمَّا بعدُ: فابعَث إليَّ برجلٍ عالِمٍ بما أريدُ أن أسألَهُ عنهُ، فبَعثَ إليهِ بعبدِالمسيحِ بنِ عمرِو بنِ حيَّانَ بنِ بَقلةَ الغسَّانيِّ..."؛ (النخشبي في تخريج الحنائيات، 2 /994، وقال: حسنٌ غريبٌ، عن هانئ المخزومي).
ومن إرهاصات النبوة ما حدثَ مع بَحِيرا الراهب الذي لَمَّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ظلَّ يُبشِّر برسالته، ويقيم أدلته على ذلك، ويبدي خوفه عليه من الروم، ذكَرَ الوادعيُّ ذلك، فقال: "... فأخذ بيَدِ رَسولِ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: هذا سيِّدُ العالَمينَ، هذا رسولُ رَبِّ العالَمينَ، يبعَثُه الله رحمةً للعالَمين، فقال له أشياخٌ مِن قريش: ما عِلْمُك؟ فقال: إنَّكم حين أشرَفْتُم من العَقَبة، لم يبقَ حَجَرٌ ولا شجَرٌ إلَّا خَرَّ ساجِدًا، ولا يَسجُدانِ إلَّا لنبيٍّ، وإني أعرِفُه بخاتَمِ النبوَّةِ، أسفل من غضروفِ كتِفِه مثل التفَّاحة، ثم رجع فصنع لهم طعامًا، فلما أتاهم به فكان هو في رعيَّةِ الإبلِ، فقال: أرسِلوا إليه، فأقبلَ وعليه غمامةٌ تُظِلُّه، فلمَّا دنا من القوم وجدهم قد سَبَقوه إلى فيءِ الشَّجرة، فلما جلس مال فيءُ الشَّجرة عليه، فقال: انظروا إلى فَيءِ الشَّجرة مال عليه، قال: فبينما هو قائمٌ عليهم، وهو يناشِدُهم ألَّا يذهبوا به إلى الروم؛ فإنَّ الرُّومَ إن رأَوْه عرَفوه بالصِّفةِ فيَقتُلونَه، فالتفتَ فإذا بسبعةٍ قد أقبلوا من الروم فاستقبَلَهم، فقال: ما جاءَ بكم؟ قالوا: جئنا، إن هذا النبيَّ خارج في هذا الشَّهرِ، فلم يبقَ طريقٌ إلَّا بُعِثَ إليه بأُناسٍ، إنَّا قد أُخبِرْنا خبَرَه فبُعِثنا إلى طريقِك هذا..."؛ (الوادعي في المسند الصحيح، 828، عن أبي موسى الأشعري عبدالله بن قيس).
وهكذا فقد تضافرت البشائر برسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في زمان وجوده، وما سبقه من أزمانٍ؛ دلالةً صادقةً على علوِّ قدره، وشرف رتبته في العالَمين.
وما زال الحب والتقدير والإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين يغمرُنا ونحن أتباع هذا النبيِّ الخاتم صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم بشَّروا به، ومهَّدوا في القلوب والأذهان أَوْفَى مكانٍ لسيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم، والذي كانت رسالته لَبِنَةَ التمامِ، ومسكَ الختام.
نسأل الله تعالى أفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد رسول الله، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
والحمد لله في المبدأ والمنتهى.