حكاية ناي ♔
01-04-2023, 01:40 PM
وُلِدَ عبد الحليم وهبه حسن سعفان، بشبين الكوم، بمحافظة المنوفية، بمصر عام 1914م – 1332هـ. وكان والده الشيخ وهبه، يعمل مؤذنا بمسجد سيدي لاشين، بشبين الكوم، ووالدته فطومة وهيب.
أصابه العمى وهو في الخامسة من العمر، ولم يعقه ذلك عن إدراك مطلوبه فحفظ القرآن الكريم صغيرا بكُتاب الشيخ عبد العزيز أبو حوي، وراجعه على والده.
التحاقه بالأزهر الشريف
التحق بالأزهر الشريف وحصل علي الشهادة الابتدائية الأزهرية في عام 1352 هـ - 1933 م من المعهد الديني الأزهري بطنطا في عهد شيخ الأزهر الشيخ محمد الأحمدي الظواهري وكان ترتيبه الرابع.
ثم حصل على الشهادة الثانوية القسم الثاني في عام 1357 هـ - 1938 م من المعهد الديني الأزهري بشبين الكوم في عهد شيخ الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغي وكان ترتيبه الخامس.
مع حسن البنا
وأكمل دراسته بالأزهر الشريف بالقاهرة وبها تعرف علي حسن البنا (1906-1949) مؤسس جماعة الإخوان.
كان الشيخ يحب حسن البنا وكان مواظبا علي الذهاب إلي المركز العام ليسمع حديث الثلاثاء من البنا وكان يقول كنت أقف مشدوها لخطاب الإيمان وكأنّي في الجنة وكأنني لست من أهل الدنيا فلا أحس بأي مشقة حتي إن مرافقه في هذه الرحلة الأسبوعية لحضور الدرس الشيخ سعيد عبد اللطيف الرفاعي (1919_1994) كان يقول كنا نذهب للدرس ولم نتناول من الطعام شيئا وبعد انتهاء اللقاء الذي يستمر ساعات أذكر الشيخ بالطعام لنتناوله فيقول : ألم تشبع ؟وأي طعام أهنأ وامرأ من طعام الجنة...والله لقد شبعت.
وكان حسن البنا يستقبل الشيخ في مرات كثيرة ولا يبدأ الدرس حتي يجلسه في مجلسه ويربت علي كتفه ويقدِره، وبعد المحاضرة يأتي له ليصافحه مرة ثانية لأنه كان يحبه ويحترمه.
حصل علي شهادة العالية لكلية أصول الدين عام 1361هـ - 1942م، ثم علي شهادة العالمية في أصول الدين مع الإجازة في التدريس من الأزهر الشريف في عام 1363هـ -1944م في عهد شيخ الأزهر محمد مصطفي المراغي، ثم حصل علي شهادة العالمية في أصول الدين مع الإجازة في الدعوة والإرشاد من الأزهر الشريف في 27 رمضان من عام 1366هـ -1947م، وكان الثاني علي دفعته وأقرانه فاحتفي به ملك مصر الملك فاروق الأول
وحكي ابنه المهندس محمد عبد الحليم بأنه ذكر له بأن الملك أقام حفلا لتكريم الأوائل فقدِم الشيخ هو وأبوه فسارع الجميع بخدمته وإكرام ضيافته فهذا يؤكله وهذا ينتقي له أطيب الطعام وهذا يسقيه لأن الله عز وجل أدخل حبه في قلب من لقيه من المؤمنين.
وعُين أول ما عين واعظاً بمساجد الصعيد ثم مدرسا بمعهد قنا الأزهري لمدة عامين وبعدها انتقل للعمل بمعهد منوف الأزهري ثم عمل واستقر بالمعهد الأزهري بشبين الكوم لتدريس الحديث الشريف والفقه الشافعي.
جهاده وابتلاؤه وصبره
وفي محنة 1954 عندما أُعتقل الإخوان المسلمون بمصر بقي هو خارج المعتقل فلم يرهبه الخوف ولم يقعده عن الجهاد في سبيل الله بشتى الطرق ؛وكان النظام وقتها قد منع أي أحد من أن ينفق أو يساعد أسر المعتقلين الذين لا يجدون ما يسد رمقهم ولا ما يتأودون به فقام الشيخ عبد الحليم بتنظيم جمع التبرعات، فقام بجمع الأموال والمساعدات لأسر المعتقلين وكان يقسم راتبه نصفين وكان يحصل علي ستة جنيهات شهريا فنصف لأسر الإخوان الذين أُسِرَ عائلهم والآخر له ولأسرته بالإضافة إلي أمه وعمته اللتان كانتا تقيمان عنده حتي وفاتهما وكان أيضا يصل زوجة أبيه بالزيارة والمال حتى وفاتها.
وظل على هذا حتى قبض عليه النظام بعد صلاة العصر وإلقاءه موعظة بمسجد مديرية الزراعة بشبين الكوم في يوم الثلاثاء من صيف عام 1965 وعند عودته إلى منزله برفقة ابنه محمد قابلته إحدى الجارات وتدعي الحاجة ناهد أبو شنب حفظها الله وحذرته من العودة للمنزل لانتظار الظلمة له هناك لاعتقاله -وهذا شأن المؤمنات الكريمات في الدفاع عن المؤمنين رغما عن ضعفهن ولكن ثقة في قوة الله تعالي- حينها وجهه الشيخ للذهاب إلي مسجد عبد المتعال فدخله وصلى ركعات لله عز وجل فلا تسل عن حسنها ولم يكن يعلم ابنه محمد حينها-كان في السابعة من عمره- هل صلى صلاة الخوف أم الحاجة ولكنه كان اتباع الشيخ عبد الحليم للنبي المصطفي صلي الله عليه و آله وسلم
*كان رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلي* رواه أحمد وأبو داوود عن حذيفة
وبعدما أنهى الشيخ صلاته أمر ابنه بأن يوصله إلي بيته لملاقاة قدر الله رضيً وتسليماً حينها قبض عليه الظالمون بتهمة مساعدة أسر المعتقلين ورعايتهم وإعادة نشاط الدعوة إلي الله عز وجل، حيث ذكر أحد مقربيه وقتها الحاج عبد الحميد الطنبداوي بأنه من منتصف الخمسينات وحتى القبض عليه كان الشيخ مسئولا عن الإخوان بمحافظة المنوفية، فقام الجلاَدون بتعذيبه -وهو الضرير الضعيف العالم- وعلَقوه ثلاثة أيام في السجن الحربي وهو يقول تحت السياط (لا يستطيع أحد أن يمنعني من الإنفاق في سبيل الله)
فيشتد عليه التعذيب فلا يغير قوله وقدِم للمحكمة فقال للقاضي: كيف لا أنفق في سبيل الله وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلي جنبه) رواه أبو يعلي في مسنده وإسناده حسن والبيهقي في سننه وصححه الألباني
فحكمت عليه المحكمة بالسجن لمدة سنتين -فأي ظلم أكثر من ذلك- فرُحِل من السجن الحربي إلي سجن أبو زعبل حتي إن الشيخ عبد الحميد كشكو الحاج محمد أبو السعود ذكرا بأنهما ومَن في السجن رأوا الشيخ عند ترحيله محمولا كمثل الطفل الصغير بين يدي أحد إخوانه لا يستطيع الحركة ولا القيام من هول التعذيب ومن حرمانه من الطعام الأيام الطويلة فكأنه كومة من العظام يكسوها الجلد فحسب، ثم رحل إلي سجن القناطر ومنعت الزيارات عنه إمعانا في إيذائه وأسرته..
وعندما سُمِح بالزيارات زارته زوجه الصابرة مع أبنائها الصغار فنصحها الشيخ بالصبر وقال لها بأنه يعطيها الحق في الطلاق حتي لا تضار من غيبته عن بيته فعليها أن تستشير إخوانها في ذلك أما أولاده فلهم رب يكلؤهم ويرعاهم حينها ردت عليه زوجه الكريمة الأصيلة المؤمنة أفيك أيها الداعية المؤمن أشاور أهلي ؟ لا والله أنا علي العهد باقية ولدعوته راعية وللأولاد مربية... وهذا شأن المؤمنين والمؤمنات لا يأتون إلي بأطيب الأعمال *والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم* سورة النور - الآية 26
ونفذ الحكم الظالم عليه ولكنه لم يفرج عنه بعد انتهاء محكوميته لأنه لم يوقِع خطاب اعتذار للطاغية يتعهد فيه بعدم الدعوة إلي الله مرة ثانية فأبي وكان من نوادر ما حدث له أن أخا معتقلا عرض عليه كتابة هذا الخطاب وأن يوقع الشيخ عليه ويقدمه هذا الأخ للطغاة ولكن الشيخ أبي ونهره اقتداء بعزة الأنبياء والدعاة واتباعا لأمر قادة الدعوة وهو منهم فأخذ هذا الرجل الخطاب ووقعه بخطه هو و أمهره ببصمة إصبعه هو -أي الرجل - وعند ذهابه لتقديمه -دون علم الشيخ- تعثرت قدمه فسقط علي رأسه ودخل في غيبوبة لمدة ثلاثة أيام حالت بينه وبين تقديم الخطاب عندها رجع الرجل للشيخ وأخبره فضحك الشيخ وقال له حتي لا تهادن وتعتذر لطاغية، وحُوِل إلي معتقل طرة ولم يفرج عنه حتي خرج عام 1971 بعد مضي ست سنوات في السجن الظالم (وكان يقول- –إنني كنت أخرج نصف راتبي –ثلاثة جنيهات-في سبيل الله فحصلت علي السجن ولو استقبلت من أمري ما استدبرت وكنت أخرجت راتبي كاملا –الستة الجنيهات-لم أكن لأجلس في السجن هذه الستة الأعوام- وتقبل الله نفقته وجهاده.
وكانت حياته في المعتقل عبادة متصلة بين صلاة فلا يقعد عن الصلاة إلا لتدريس حلقات الفقه لبعض الإخوان معه ومنهم من تعلم الفقه من شيخنا حتي حصل علي شهادة العالمية في الأزهر الشريف ثم بعدها الدكتوراة في أصول الدين * ومنهم من حفظ القرآن الكريم كاملا مشافهة من الشيخ بالمعتقل وهو الشيخ أحمد باشا ومنهم التاجر الكبير الحاج محمد الشال الذي صحبه طوال اعتقاله وكذا بعد خروجه من المعتقل وكان يستشيره في كل صغيرة وكبيرة من أمور تجارته وغيرهم كثير لا نعلمهم ولكن الله يعلمهم....
وكان إذا أردت أن تستفتيه أو تتحدث معه لا تجده خاليا سوي وقت تناول الطعام أما سوي ذلك فصلاة وتعليم.
وكان يقول وهو ممتن شاكر لنعمة الله تعالي عليه:(اللهم أكرم من تسبب بدخولي المعتقل فلقد رأيت فيه الخير الكثير وما قرأت كتاب المحلي لابن حزم إلا في المعتقل، ومن هنا بدأ اهتمام شيخنا بكتاب (المحلي) لابن حزم وتيسيره للناس لينتفعوا بكنوزه.
ولم نذكر أنه عند دخوله المعتقل ترك أولاده صغارا وحدهم مع أمهم الصابرة وله ولدان وابنتان وكان أكبرهم أحمد عبد الحليم والذي أتم حفظ القرآن الكريم في الحادية عشر من عمره في غياب والده بالمعتقل.
وقبل خروج الشيخ من المعتقل بأسبوع جاءته البشري بنجاح ابنه أحمد في الثانوية العامة بدرجات تؤهله لدخول كلية الطب -وكان نِعم الابن الحاني علي أبويه وإخوانه- وكان من مزيد كرم الله تعالي علي الشيخ أن وهبه ذرية طيبة علي نفس العهد بالدعوة إلي الله وحب الله ورسوله وحفظ القرآن الكريم والجهاد في سبيل الله تعالي حتي الابتلاء فقد سجن الظالمون أحمد ابن الشيخ عبدا لحليم بعد كبره لمد ثلاثة أعوام بعد محاكمة عسكرية ظالمة بنفس تهمة أبيه فصبر ورضي اقتداء بأبيه *ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم* سورة آل عمران – الآية 34
وكان من نوادر تواصل الابن مع أبيه في الحياة بالقرآن الكريم أنه ذكر عليه بأنه لما مات جمال عبد الناصر وكان الشيخ وقتها لا يزال معتقلا ولا يسمح لهم بأي أخبار من الخارج فأخفي السجانون الخبر عنه كيلا يفرح ولكن ابنه أحمد أرسل رسالة له تطمئنه علي حال الأسرة –وبالطبع فإنها تراقب من قبل إدارة السجن قبل وصولها لوالده-ففكر كيف يخبره بالنبأ فكتب أعلي الرسالة جزء من آية فكتب *والحمد لله رب العالمين*
وعندها فهم الشيخ مقصد ابنه وبشر من معه بقرب انفراج الأزمة وهلاك الطغاة مصداقا لقوله سبحانه وتعالي في أول الآية *فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين* سورة الأنعام –الآية 45
فأي تربية وأي هداية تلك التي تربي ابنا في فترة المراهقة غائب أو مُغَيْبٌ أبوه ومحاصر بدعاية سيئة علي أن يُحفظ من الفتن بل ويحفظ أهل بيته بحفظ القرآن الكريم له...إنه الله عز وجل *وكان أبوهما صالحا* سورة الكهف – الآية 82
ووهبه الله من أحفاده الذرية الطيبة المؤمنة الحافظة لكتاب الله ومنهم إيمان أحمد عبد الحليم والتي كانت الأولي في جميع مراحل التعليم الأزهري علي مصر كلها ولها قصة مشهورة في المنع من التعيين بالجامعة *
وعند خروج الشيخ من المعتقل كان قائد المعتقل (عبد العال سلومة) يقف علي باب المعتقل ليمعن في إذلال الأسري المفرج عنهم ويتحقق من هوياتهم ولكن الشيخ بعزة المؤمن رغم شوقه وحبه للقاء أسرته وإخوانه بالخارج ظل يصلي حتي خرج جميع المفرج عنهم ويئس قائد المعتقل من انتظار التقليل من شأنه-حاشاه وشيخنا هو الكريم-فدخل حجرته عندها خرج الشيخ دون مصافحة هذا الجلاد الذي كان له دور كبير في مذبحة طره حيث استشهد أكثر من عشرين معتقلا بلا ذنب أو جريرة سوي إيمانهم ب(لا إله إلا الله محمد رسول الله) وعملهم علي تحكيمها في المجتمع *وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد* سورة البروج – الآية 8
ومن زهده وطلبه الثواب من الله عز وجل فحسب أن دعاه أحد إخوانه لرفع قضية للحصول علي تعويض مالي كبير عن سنوات الاعتقال والتعذيب فأبي الشيخ وقال له إذا كان تعويضا ماليا دنيويا فلا حاجة لي به وأما إذا كان التعويض من الله عز وجل فهذا ما أتمناه وكان من زهده وورعه أيضا أنه عندما مات أبوه -وقد كان يعمل مؤذنا بالمسجد- رفض شيخنا أن يحصل علي ميراثه في بيت أبيه وذلك لأنه كان يأخذ بمذهب أن وظيفة الأذان للصلاة لا يستحق عليها المسلم أجرة أو معاشا شهريا، فقد كان يأخذ نفسه بالعزائم.
وذكر أبناؤه-من قبيل أن كل محنة تحمل في طياتها المنح- أن الشيخ كان يعاني قبل دخوله المعتقل من آلام شديدة مزمنة في القولون حتي إن طعامه كان محددا في بضعة أصناف فقط وكانت آلام القولون تعاوده كل فترة فيعاني منها ثلاثة أيام متصلة يفترش الأرض من الآلام وعندما دخل المعتقل خشي أبناؤه من معاودة الألم عليه ولكنه بعدما خرج لم يشتك قط من آلام القولون بل كان يأكل كل أنواع الطعام بلا آلام...فسبحان الله الذي جعل مع كل عسر يسرين *فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا* سورة الانشراح - الآيتين 5، 6
أصابه العمى وهو في الخامسة من العمر، ولم يعقه ذلك عن إدراك مطلوبه فحفظ القرآن الكريم صغيرا بكُتاب الشيخ عبد العزيز أبو حوي، وراجعه على والده.
التحاقه بالأزهر الشريف
التحق بالأزهر الشريف وحصل علي الشهادة الابتدائية الأزهرية في عام 1352 هـ - 1933 م من المعهد الديني الأزهري بطنطا في عهد شيخ الأزهر الشيخ محمد الأحمدي الظواهري وكان ترتيبه الرابع.
ثم حصل على الشهادة الثانوية القسم الثاني في عام 1357 هـ - 1938 م من المعهد الديني الأزهري بشبين الكوم في عهد شيخ الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغي وكان ترتيبه الخامس.
مع حسن البنا
وأكمل دراسته بالأزهر الشريف بالقاهرة وبها تعرف علي حسن البنا (1906-1949) مؤسس جماعة الإخوان.
كان الشيخ يحب حسن البنا وكان مواظبا علي الذهاب إلي المركز العام ليسمع حديث الثلاثاء من البنا وكان يقول كنت أقف مشدوها لخطاب الإيمان وكأنّي في الجنة وكأنني لست من أهل الدنيا فلا أحس بأي مشقة حتي إن مرافقه في هذه الرحلة الأسبوعية لحضور الدرس الشيخ سعيد عبد اللطيف الرفاعي (1919_1994) كان يقول كنا نذهب للدرس ولم نتناول من الطعام شيئا وبعد انتهاء اللقاء الذي يستمر ساعات أذكر الشيخ بالطعام لنتناوله فيقول : ألم تشبع ؟وأي طعام أهنأ وامرأ من طعام الجنة...والله لقد شبعت.
وكان حسن البنا يستقبل الشيخ في مرات كثيرة ولا يبدأ الدرس حتي يجلسه في مجلسه ويربت علي كتفه ويقدِره، وبعد المحاضرة يأتي له ليصافحه مرة ثانية لأنه كان يحبه ويحترمه.
حصل علي شهادة العالية لكلية أصول الدين عام 1361هـ - 1942م، ثم علي شهادة العالمية في أصول الدين مع الإجازة في التدريس من الأزهر الشريف في عام 1363هـ -1944م في عهد شيخ الأزهر محمد مصطفي المراغي، ثم حصل علي شهادة العالمية في أصول الدين مع الإجازة في الدعوة والإرشاد من الأزهر الشريف في 27 رمضان من عام 1366هـ -1947م، وكان الثاني علي دفعته وأقرانه فاحتفي به ملك مصر الملك فاروق الأول
وحكي ابنه المهندس محمد عبد الحليم بأنه ذكر له بأن الملك أقام حفلا لتكريم الأوائل فقدِم الشيخ هو وأبوه فسارع الجميع بخدمته وإكرام ضيافته فهذا يؤكله وهذا ينتقي له أطيب الطعام وهذا يسقيه لأن الله عز وجل أدخل حبه في قلب من لقيه من المؤمنين.
وعُين أول ما عين واعظاً بمساجد الصعيد ثم مدرسا بمعهد قنا الأزهري لمدة عامين وبعدها انتقل للعمل بمعهد منوف الأزهري ثم عمل واستقر بالمعهد الأزهري بشبين الكوم لتدريس الحديث الشريف والفقه الشافعي.
جهاده وابتلاؤه وصبره
وفي محنة 1954 عندما أُعتقل الإخوان المسلمون بمصر بقي هو خارج المعتقل فلم يرهبه الخوف ولم يقعده عن الجهاد في سبيل الله بشتى الطرق ؛وكان النظام وقتها قد منع أي أحد من أن ينفق أو يساعد أسر المعتقلين الذين لا يجدون ما يسد رمقهم ولا ما يتأودون به فقام الشيخ عبد الحليم بتنظيم جمع التبرعات، فقام بجمع الأموال والمساعدات لأسر المعتقلين وكان يقسم راتبه نصفين وكان يحصل علي ستة جنيهات شهريا فنصف لأسر الإخوان الذين أُسِرَ عائلهم والآخر له ولأسرته بالإضافة إلي أمه وعمته اللتان كانتا تقيمان عنده حتي وفاتهما وكان أيضا يصل زوجة أبيه بالزيارة والمال حتى وفاتها.
وظل على هذا حتى قبض عليه النظام بعد صلاة العصر وإلقاءه موعظة بمسجد مديرية الزراعة بشبين الكوم في يوم الثلاثاء من صيف عام 1965 وعند عودته إلى منزله برفقة ابنه محمد قابلته إحدى الجارات وتدعي الحاجة ناهد أبو شنب حفظها الله وحذرته من العودة للمنزل لانتظار الظلمة له هناك لاعتقاله -وهذا شأن المؤمنات الكريمات في الدفاع عن المؤمنين رغما عن ضعفهن ولكن ثقة في قوة الله تعالي- حينها وجهه الشيخ للذهاب إلي مسجد عبد المتعال فدخله وصلى ركعات لله عز وجل فلا تسل عن حسنها ولم يكن يعلم ابنه محمد حينها-كان في السابعة من عمره- هل صلى صلاة الخوف أم الحاجة ولكنه كان اتباع الشيخ عبد الحليم للنبي المصطفي صلي الله عليه و آله وسلم
*كان رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلي* رواه أحمد وأبو داوود عن حذيفة
وبعدما أنهى الشيخ صلاته أمر ابنه بأن يوصله إلي بيته لملاقاة قدر الله رضيً وتسليماً حينها قبض عليه الظالمون بتهمة مساعدة أسر المعتقلين ورعايتهم وإعادة نشاط الدعوة إلي الله عز وجل، حيث ذكر أحد مقربيه وقتها الحاج عبد الحميد الطنبداوي بأنه من منتصف الخمسينات وحتى القبض عليه كان الشيخ مسئولا عن الإخوان بمحافظة المنوفية، فقام الجلاَدون بتعذيبه -وهو الضرير الضعيف العالم- وعلَقوه ثلاثة أيام في السجن الحربي وهو يقول تحت السياط (لا يستطيع أحد أن يمنعني من الإنفاق في سبيل الله)
فيشتد عليه التعذيب فلا يغير قوله وقدِم للمحكمة فقال للقاضي: كيف لا أنفق في سبيل الله وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلي جنبه) رواه أبو يعلي في مسنده وإسناده حسن والبيهقي في سننه وصححه الألباني
فحكمت عليه المحكمة بالسجن لمدة سنتين -فأي ظلم أكثر من ذلك- فرُحِل من السجن الحربي إلي سجن أبو زعبل حتي إن الشيخ عبد الحميد كشكو الحاج محمد أبو السعود ذكرا بأنهما ومَن في السجن رأوا الشيخ عند ترحيله محمولا كمثل الطفل الصغير بين يدي أحد إخوانه لا يستطيع الحركة ولا القيام من هول التعذيب ومن حرمانه من الطعام الأيام الطويلة فكأنه كومة من العظام يكسوها الجلد فحسب، ثم رحل إلي سجن القناطر ومنعت الزيارات عنه إمعانا في إيذائه وأسرته..
وعندما سُمِح بالزيارات زارته زوجه الصابرة مع أبنائها الصغار فنصحها الشيخ بالصبر وقال لها بأنه يعطيها الحق في الطلاق حتي لا تضار من غيبته عن بيته فعليها أن تستشير إخوانها في ذلك أما أولاده فلهم رب يكلؤهم ويرعاهم حينها ردت عليه زوجه الكريمة الأصيلة المؤمنة أفيك أيها الداعية المؤمن أشاور أهلي ؟ لا والله أنا علي العهد باقية ولدعوته راعية وللأولاد مربية... وهذا شأن المؤمنين والمؤمنات لا يأتون إلي بأطيب الأعمال *والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم* سورة النور - الآية 26
ونفذ الحكم الظالم عليه ولكنه لم يفرج عنه بعد انتهاء محكوميته لأنه لم يوقِع خطاب اعتذار للطاغية يتعهد فيه بعدم الدعوة إلي الله مرة ثانية فأبي وكان من نوادر ما حدث له أن أخا معتقلا عرض عليه كتابة هذا الخطاب وأن يوقع الشيخ عليه ويقدمه هذا الأخ للطغاة ولكن الشيخ أبي ونهره اقتداء بعزة الأنبياء والدعاة واتباعا لأمر قادة الدعوة وهو منهم فأخذ هذا الرجل الخطاب ووقعه بخطه هو و أمهره ببصمة إصبعه هو -أي الرجل - وعند ذهابه لتقديمه -دون علم الشيخ- تعثرت قدمه فسقط علي رأسه ودخل في غيبوبة لمدة ثلاثة أيام حالت بينه وبين تقديم الخطاب عندها رجع الرجل للشيخ وأخبره فضحك الشيخ وقال له حتي لا تهادن وتعتذر لطاغية، وحُوِل إلي معتقل طرة ولم يفرج عنه حتي خرج عام 1971 بعد مضي ست سنوات في السجن الظالم (وكان يقول- –إنني كنت أخرج نصف راتبي –ثلاثة جنيهات-في سبيل الله فحصلت علي السجن ولو استقبلت من أمري ما استدبرت وكنت أخرجت راتبي كاملا –الستة الجنيهات-لم أكن لأجلس في السجن هذه الستة الأعوام- وتقبل الله نفقته وجهاده.
وكانت حياته في المعتقل عبادة متصلة بين صلاة فلا يقعد عن الصلاة إلا لتدريس حلقات الفقه لبعض الإخوان معه ومنهم من تعلم الفقه من شيخنا حتي حصل علي شهادة العالمية في الأزهر الشريف ثم بعدها الدكتوراة في أصول الدين * ومنهم من حفظ القرآن الكريم كاملا مشافهة من الشيخ بالمعتقل وهو الشيخ أحمد باشا ومنهم التاجر الكبير الحاج محمد الشال الذي صحبه طوال اعتقاله وكذا بعد خروجه من المعتقل وكان يستشيره في كل صغيرة وكبيرة من أمور تجارته وغيرهم كثير لا نعلمهم ولكن الله يعلمهم....
وكان إذا أردت أن تستفتيه أو تتحدث معه لا تجده خاليا سوي وقت تناول الطعام أما سوي ذلك فصلاة وتعليم.
وكان يقول وهو ممتن شاكر لنعمة الله تعالي عليه:(اللهم أكرم من تسبب بدخولي المعتقل فلقد رأيت فيه الخير الكثير وما قرأت كتاب المحلي لابن حزم إلا في المعتقل، ومن هنا بدأ اهتمام شيخنا بكتاب (المحلي) لابن حزم وتيسيره للناس لينتفعوا بكنوزه.
ولم نذكر أنه عند دخوله المعتقل ترك أولاده صغارا وحدهم مع أمهم الصابرة وله ولدان وابنتان وكان أكبرهم أحمد عبد الحليم والذي أتم حفظ القرآن الكريم في الحادية عشر من عمره في غياب والده بالمعتقل.
وقبل خروج الشيخ من المعتقل بأسبوع جاءته البشري بنجاح ابنه أحمد في الثانوية العامة بدرجات تؤهله لدخول كلية الطب -وكان نِعم الابن الحاني علي أبويه وإخوانه- وكان من مزيد كرم الله تعالي علي الشيخ أن وهبه ذرية طيبة علي نفس العهد بالدعوة إلي الله وحب الله ورسوله وحفظ القرآن الكريم والجهاد في سبيل الله تعالي حتي الابتلاء فقد سجن الظالمون أحمد ابن الشيخ عبدا لحليم بعد كبره لمد ثلاثة أعوام بعد محاكمة عسكرية ظالمة بنفس تهمة أبيه فصبر ورضي اقتداء بأبيه *ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم* سورة آل عمران – الآية 34
وكان من نوادر تواصل الابن مع أبيه في الحياة بالقرآن الكريم أنه ذكر عليه بأنه لما مات جمال عبد الناصر وكان الشيخ وقتها لا يزال معتقلا ولا يسمح لهم بأي أخبار من الخارج فأخفي السجانون الخبر عنه كيلا يفرح ولكن ابنه أحمد أرسل رسالة له تطمئنه علي حال الأسرة –وبالطبع فإنها تراقب من قبل إدارة السجن قبل وصولها لوالده-ففكر كيف يخبره بالنبأ فكتب أعلي الرسالة جزء من آية فكتب *والحمد لله رب العالمين*
وعندها فهم الشيخ مقصد ابنه وبشر من معه بقرب انفراج الأزمة وهلاك الطغاة مصداقا لقوله سبحانه وتعالي في أول الآية *فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين* سورة الأنعام –الآية 45
فأي تربية وأي هداية تلك التي تربي ابنا في فترة المراهقة غائب أو مُغَيْبٌ أبوه ومحاصر بدعاية سيئة علي أن يُحفظ من الفتن بل ويحفظ أهل بيته بحفظ القرآن الكريم له...إنه الله عز وجل *وكان أبوهما صالحا* سورة الكهف – الآية 82
ووهبه الله من أحفاده الذرية الطيبة المؤمنة الحافظة لكتاب الله ومنهم إيمان أحمد عبد الحليم والتي كانت الأولي في جميع مراحل التعليم الأزهري علي مصر كلها ولها قصة مشهورة في المنع من التعيين بالجامعة *
وعند خروج الشيخ من المعتقل كان قائد المعتقل (عبد العال سلومة) يقف علي باب المعتقل ليمعن في إذلال الأسري المفرج عنهم ويتحقق من هوياتهم ولكن الشيخ بعزة المؤمن رغم شوقه وحبه للقاء أسرته وإخوانه بالخارج ظل يصلي حتي خرج جميع المفرج عنهم ويئس قائد المعتقل من انتظار التقليل من شأنه-حاشاه وشيخنا هو الكريم-فدخل حجرته عندها خرج الشيخ دون مصافحة هذا الجلاد الذي كان له دور كبير في مذبحة طره حيث استشهد أكثر من عشرين معتقلا بلا ذنب أو جريرة سوي إيمانهم ب(لا إله إلا الله محمد رسول الله) وعملهم علي تحكيمها في المجتمع *وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد* سورة البروج – الآية 8
ومن زهده وطلبه الثواب من الله عز وجل فحسب أن دعاه أحد إخوانه لرفع قضية للحصول علي تعويض مالي كبير عن سنوات الاعتقال والتعذيب فأبي الشيخ وقال له إذا كان تعويضا ماليا دنيويا فلا حاجة لي به وأما إذا كان التعويض من الله عز وجل فهذا ما أتمناه وكان من زهده وورعه أيضا أنه عندما مات أبوه -وقد كان يعمل مؤذنا بالمسجد- رفض شيخنا أن يحصل علي ميراثه في بيت أبيه وذلك لأنه كان يأخذ بمذهب أن وظيفة الأذان للصلاة لا يستحق عليها المسلم أجرة أو معاشا شهريا، فقد كان يأخذ نفسه بالعزائم.
وذكر أبناؤه-من قبيل أن كل محنة تحمل في طياتها المنح- أن الشيخ كان يعاني قبل دخوله المعتقل من آلام شديدة مزمنة في القولون حتي إن طعامه كان محددا في بضعة أصناف فقط وكانت آلام القولون تعاوده كل فترة فيعاني منها ثلاثة أيام متصلة يفترش الأرض من الآلام وعندما دخل المعتقل خشي أبناؤه من معاودة الألم عليه ولكنه بعدما خرج لم يشتك قط من آلام القولون بل كان يأكل كل أنواع الطعام بلا آلام...فسبحان الله الذي جعل مع كل عسر يسرين *فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا* سورة الانشراح - الآيتين 5، 6