مشاهدة النسخة كاملة : تعظيم النبي ووجوب محبته وطاعته (5)


حكاية ناي ♔
01-05-2023, 01:06 PM
الفصل الأول: في أن طريق النبوة الطريق الأمثل؛ لقوله - تعالى -: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [الأحزاب: 21].
الفصل الثاني: في ضرورةِ اتِّبَاعِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في صفةِ العبادةِ، وبيانِ حِرصِ الصحابة - رضي الله عنه - على تَحْقيقِ ذلك.
الفصل الثالث: في تعظيمِ الرِّوايةِ عن رسول اللهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - والتَّوَقِّي فيها، والنَّهيِ عنِ الحديثِ بكلِّ ما سَمِع، وأنَّ الإسنادَ من الدِّينِ.
الفصل الرابع: في النَّهي عن الغلوِّ في النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم.
الفصل الخامس: في ذِكر خصائص النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الصحيحة.
الفصل السادس: فيما يدَّعيه الغُلاة من خَصائص النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
الفصل السابع: في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي.

الفصل الأول
طريق النبوة الطريق الأمثل
لقوله - تعالى -: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [الأحزاب: 21]

قال ابن الجوزي: في "صيد الخاطر" (ص 189- 192):
الجادَّة السَّليمة والطريق القَوِيمة الاقتداءُ بصاحب الشَّرْعِ، والبدار إلى الاستنان به؛ فهو الكاملُ الذي لا نقصَ فيه.
فإنَّ خلقًا كثيرًا انحرَفُوا إلى جادَّة الزُّهْد، وحملوا أنفُسَهم فوق الجهْد، فأفاقُوا في أواخر العُمر، والبدن قد نهك، وفاتَتْ أمورٌ مهمَّة من العِلم وغيره.
وإنَّ أقوامًا انحرَفُوا إلى صُورة العلم، فبالَغوا في طلبه، فأفاقوا في أواخِر قدم، وقد فاتَهُم العملُ به.

فطريقُ المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - العِلمُ والعمَلُ، والتلطُّف بالبدَن، كما أوصى عبدَالله بن عمرو بن العاص وقال له: ((إنَّ لنَفسِك عليك حقًّا، ولزَوجِك عليك حقًّا))[1].
فهذه هي الطريق الوُسطى والقول الفصْل، فأمَّا اليبس المجرَّد، فكم فوَّت من علم، لو حصل نيل به أكثر ممَّا نِيلَ بالعمل.

فإنَّ مثلَ العالِمِ كرجُلٍ يعرف الطريق، والعابد جاهلٌ بها، فيمشي العابدُ من الفجر إلى العصر، ويقومُ العالم قُبَيل العصر فيلتَقِيان وقد سبَق العالم فضْل شوطه.
فإنْ قال قائل: بيِّن لي هذا.
قلت: صورة التعبُّد خدمةٌ لله - تعالى - وذُلٌّ له، وربما لم يطَّلع العابد على معنى تلك الصورة؛ لأنَّه ربما ظنَّ أنَّه أهلٌ لوجود الكرامة على يده، وأنَّه مستحقٌّ تقبيل يده، أو أنَّه خيرٌ من كثيرٍ من الناس؛ وذلك كلُّه لقلَّة العلم، وأعني بالعلم فَهْمَ أصول العلم، لا كثْرة الرِّواية ومُطالعة مسائل الخِلاف، فإذا طالَع العالم الأصولي سبَق هذا العابد بِحُسن خلق، ومُداراة الناس، وتواضُعه في نفسه، وإرشاده الخلق إلى الله - تعالى - فيعسر هذا على العابد، وهو في ليل جَهلِه بالحال راقد، ربما تزوَّج العابد ثم حمل نفسه على التجفُّف فحبَس زوجتَه عن مَطلُوبها، ولم يُطلِّقها، وصارَ كالتي حبست الهرَّة فلا هي أطعمَتْها ولا هي أرسلَتْها تأكُل من خَشاش الأرض.

ومَن تأمَّل حالة الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - رأى كاملاً من الخلق يُعطِي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه؛ فتارَةً يمزح، وتارة يضحك، ويُداعب الأطفال، ويسمَع الشعر، ويتكلَّم بالمعاريض، ويُحسِن مُعاشَرة النساء، ويأكُل ما قدر عليه وأُتِيح له، وإنْ كان لذيذًا كالعسل، ويستعذب له الماء، ويفرش له في الظلِّ، ولم ينكرْ ذلك.
ولم يُسمَعْ عنه ما حدَث بعده من جُهَّال المتصوِّفة والمتزهِّدين مِن مَنْعِ النَّفْسِ شَهواتها على الإطلاق، فقد كان يأكُل البطيخ بالرُّطَبِ، ويُقبِّل، ويمصُّ اللسان، ويطلُب المستحسَنات.

فأمَّا أكلُ خبز الشعير ووزن المأكول، وتجفيف البدن، وهجر كلِّ مُشتهًى، فإنَّه تعذيبٌ للنفس، وهدمٌ للبدن، لا يقتَضِيه عقلٌ، ولا يمدَحُه شرعٌ.
وإنما اقتَنَع أقوامٌ بالقليل لأسباب؛ مثل أنْ حدثت شُبهة فتقلَّلوا، أو اختلط طعامٌ بطعام فتورَّعوا.
ثم كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يوفي العِبادة حقَّها بقِيام الليل والاجتهاد في الذِّكر.
فعليك بطريقته التي هي أكمَلُ الطرق وبشِرعته التي لا شوب فيها، ودَعْ حديث فلان وفلان من الزُّهَّاد، واحمِل أمرَهُم على أحسن مَحْمَلٍ، وأقمْ لهم الأعْذار مهما قدرت، فإنْ لم تجد عُذرًا فهم محجوجون بفِعله، إذ هو قُدوة الخلق، وسيد العقلاء.
وهل فسَد الناس إلا بالانحراف عن الشريعة.

ولقد حدثت آفات من المتصوِّفة والمتزهِّدين، خرَقوا بها شبكة الشريعة وعبروا، فمنهم مَن يدَّعي المحبَّة والشَّوق، ولا يعرف المحبوب، فتراه يصيحُ ويستغيثُ ويُمزِّق ثيابه ويخرُج عن حدِّ الشَّرع بدَعواه ومضمونها!
ومنهم مَن حمل على نفسه بالجوع والصوم الدائم، وقد صحَّ عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال لعبدالله بن عمرٍو: ((صُمْ يومًا وأفطِرْ يومًا))، فقال: أريد أفضل من ذلك، فقال: ((لا أفضل))[2].
وفيهم: مَن خرَج إلى السِّياحة فأفات نفسَه الجماعة.
وفيهم: مَن دفَن كتب العلم وقعَد يُصلِّي ويصوم، ولم يعلم أنَّ دفنها خطأ قبيح؛ لأنَّ النفس تغفل وتحتاج إلى التَّذكير في كلِّ وقت، ونِعمَ المذكِّر كتبُ العلم، وإنما دخَل إبليس على كلِّ قومٍ منهم من حيث قدر، وكان مقصوده بدَفْنِ الكتب إطفاء المصباح؛ ليسيرَ العابد في الظُّلمة.

وما أحسَنَ ما قال بعضُ العلماء لرجلٍ سأَلَه فقال: أريدُ أنْ أمضي إلى جبل الآكام، فقال: هذه (هوكلة)، وهذه كلمة عاميَّة معناها: حبُّ البطالة.
وعلى الحقيقة: الزُّهَّاد في مَقام الخفافيش، قد دفَنوا أنفُسَهم بالعُزلة عن نفْع الناس، وهي حالةٌ حسنة إذا لم تمنعْ من خيرٍ من جماعة، واتِّباع جنازة، وعِيادة مريض، إلا أنها حالةُ الجبناء، فأمَّا الشُّجعان: فهم يتعلَّمون ويعلَمُون، وهذه مقامات الأنبياء - عليهم السلام.
أترى كم بين العابد إذا نزلت به حادثة وبين الفقيه؟ بالله لو مالَ الخلق إلى التعبُّد لضاعَتِ الشريعة، على أنَّه لو فهم معنى التعبُّد لم يقتصرْ به على الصلاة والصوم، فرُبَّ ماشٍ في حاجةِ مسلمٍ فضل تعبُّده ذلك على صوم سنةٍ، والعملُ بالبدن سعيُ الآلات الظاهرة، والعلمُ سعيُ الآلات الباطنة من العقل والفكر والفهم؛ فلذلك كان أشرف.

فإنْ قُلت: كيف تذمُّ المعتزِلين للشرَّ وتنفي عنهم التعبُّد؟
قلت: ما أذمُّهم، بل حدَثتْ منهم حوادثُ اقتضاها الجهل من الدَّعاوي والآفات التي سبَبُها قلَّة العِلم، وحملوا على أنفُسِهم التي ليست لهم، وعن غير إذن الآمِر ما لم يجزْ، حتى إنَّ أحدَهم يرى أنَّ فعل ما يُؤذِي النفس على الإطلاق فضيلة، وحتى قال بعض الحَمقَى: دخلت الحمام فوجدت غفلة، فآليت ألا أخرج حتى أسبِّح كذا وكذا تسبيحة، فطال الأمر فمرضت، وهذا رجلٌ خاطَر بنفسه في فعل ما ليس له، ومن المتصوِّفة والزهاد من قنع بصورة اللباس، وركب من الجهل في الباطن ما لا يسعه كتاب، طهَّر الله الأرضَ منهم، وأعانَ العلماء عليهم، فإنَّ أكثَرَ الحمقى معهم، فلو أنكر عالِمٌ على أحدهم مال العوام على العالم بقوَّة الجهل.

ولقد رأيت كثيرًا من المتعبِّدين وهو في مَقام العجائز يُسبِّح تسبيحات لا يجوز النُّطق بها، ويفعَلُ في صَلاته ما لم تردْ به السُّنَّة، ولقد دخلتُ يومًا على بعض مَن كان يتعبَّد، وقد أقام إمامًا وهو خلفه في جماعة يصلِّي بهم صلاة الضحى ويجهر، فقلت لهم: إنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((صلاة النهار عَجماء))[3]، فغضب ذلك الزاهد وقال: كم يُنكِر هذا علينا! وقد دخَل فلان وأنكر وفلان وأنكر، نحن نرفَعُ أصواتنا حتى لا نَنام.
فقلت: واعجبًا! ومَن قال لكم: لا تنامُوا، أليس في الصحيحين من حديث ابن عمرو أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال به: ((قُمْ ونَمْ))[4]، وقد كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ينامُ، ولعلَّه ما مضت عليه ليلةٌ إلا ونامَ فيها.
ولقد شاهدتُ رجلاً كان يُقال له: حسين القزويني، بجامع المنصور وهو يمشي في الجامع مشيًا كثيرًا دائمًا، فسألت: ما السبب في هذا المشي؟ فقِيل لي: حتى لا ينام.
وهذه كلُّها حَماقاتٌ أوجبَتْها قلَّةُ العلم؛ لأنَّه إذا لم تأخُذ النفس حظَّها من النوم اختلط العقلُ، وفاتَ المراد من التعبُّد لبُعْدِ الفهم.

ولقد حدَّثني بعضُ الصالحين المجاوِرين بجامع المنصور أنَّ رجلاً اسمه: كثيرٌ، دخَل عليهم الجامع فقال: إنِّي عاهدت الله على أمرٍ ونقضته، وقد جعلت عُقوبتي لنفسي ألاَّ آكُل شيئًا أربعين يومًا، قال: فمكث منها عشرة أيَّام قريب الحال يُصلِّي في جماعة، ثم في العشر الثاني بانَ ضَعفُه وكان يُدارِي الأمر، ثم صارَ في العشر الثالث يُصلِّي قاعدًا، ثم استطرح في العشر الرابع، فلمَّا تمت الأربعون جِيءَ بنقوع فشربه فسمعنا صوتَه في حلقه مثلَما يقع الماء على المقلاة، ثم مات بعد أيَّام.
فقلت: يا للهِ العجب! انظروا ما فعل الجهْل بأهله، ظاهِرُ هذا أنَّه في النار، إلا أنْ يُعفَى عنه، ولو فهم العلمَ وسأَل العلماء لعرَّفوه أنَّه يجب عليه أنْ يأكُل، وأنَّ ما فعله بنفسه حرامٌ.

ولكن من أعظم الجهل استبداد الإنسان بعلمه، وكلُّ هذه الحوادث نشَأَتْ قليلاً قليلاً حتى تمكَّنت، فأمَّا السرب الأول فلم يكن فيه من هذا شيءٌ، وما كانت الصحابة تفعَلُ شيئًا من هذه الأشياء، وقد كانوا يؤثرون ويأكُلون دُون الشبع، ويَصبِرون إذا لم يجدوا.
فمَن أرادَ الاقتداء فعليه برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه؛ ففي ذلك الشفاء والمطلوب.
ولا ينبغي أنْ يخلد العاقل إلى تقليد مُعَظَّمٍ شاعَ اسمه، فيقول: قال: أبو يزيد، وقال الثوري، فإنَّ المقلِّد أعمى.
وكم قد رأينا أعمى يأنف من حمْل عصا، فمَن فهم هذا المشار إليه طلب الأفضل والأعلى! والله الموفِّق.

صمتى لغتى
01-05-2023, 01:07 PM
جزاك الله خيـر
وبارك الله في جهودك
وأسال الله لك التوفيق دائما

حكاية ناي ♔
01-10-2023, 08:01 AM
اسعدني حضوركم