مشاهدة النسخة كاملة : أفراح يوم القيامة (خطبة)


حكاية ناي ♔
01-10-2023, 09:25 AM
نص الخطبة:
الحمد لله الذي جعل جنة الفردوس لعباده نُزلًا، ويسرهم للأعمال الصالحة الموصلة إليها، وأخرجهم إلى دار الامتحان؛ ليبلوهم أيهم أحسن عملًا، وجعل ميعاد دخولها يوم القدوم عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة عبده، وابن عبده، وابن أَمَتِه، ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله، ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، وأمينه على وَحْيِه، وخيرته من خلقه، أرسله رحمةً للعالمين، وقدوةً للعاملين، وحجةً على العباد أجمعين، صلاةً وسلامًا عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:
فيا أيها الكرماء الأجلاء عباد الله، فمن القواعد المقرَّرة أن كثرة المسميات للمسمَّى تدل على شرفه وفضله وعلوِّ درجته ومنزلته، وأهميته وعِظَم شأنه، وكل ما عظُم شأنُه تعدَّدَتْ صفاتُه وكثُرت أسماؤه وتنوَّعت أوصافُه، وهذا كان معروفًا عند العرب، ألا ترى أن السيف عندما عظُم عندهم موضعه، وتأكَّد نفعُه، وظهر موقعُه، جمعوا له خمسمائة اسم، وانظر على سبيل المثال، أسماء الكبير المتعال، وكذا رسوله المفضال، تعددت له الأسماء وصفات الأفعال، وكم من قرآن من الأسماء والبيان؛ بل الفاتحة كم لها من الأسماء والتبيان.

والقيامة لما عظُم أمرها، وكثُرت أهوالها، واشتدَّ خَطْبُها، سمَّاها الله في كتابه بأسماء عديدة؛ تحذيرًا وإنذارًا، تنبيهًا وإعذارًا، ووصفها بأوصاف كثيرة؛ منها: اليوم الآخر، يوم البعث، يوم الخروج، يوم الفصل، يوم الدين، يوم الحسرة، يوم الخلود، يوم الحساب، يوم الآزفة، يوم الجمع، يوم التلاق، يوم الوعيد، يوم التناد، يوم التغابن، وسمَّاه بالساعة والقارعة والصاخة والواقعة والغاشية.

في هذا اليوم شدائد وأهوال، السماء انفطرت ومارت وانشقت وكُشطت وطُويت، والجبال سُيِّرت ونُسفت ودُكَّت، والأرض زُلزلت ومُدَّت وألقَتْ ما فيها وتخلَّتْ، الوحوش حُشِرت، البحار فُجِّرَتْ وسُجِّرَتْ، الأمم على الرُّكَبِ جثَتْ، وإلى كتابها دُعيت، الكواكب انتثرت، النجوم انكدرت، الشمس كُوِّرت ومن رؤوس الخلائق أُدنيت، الصُّحُف نُشِرَتْ، والموازينُ نُصِبَتْ، والكتب تطايرت، الألوان تغيرت لما رأت، الفرائص ارتعدت، القلوب بالنداء قُرعت، والموءودة سُئلت، والجحيم سُعِّرت، والجنة أُزلفت، عظُم الأمر، واشتد الهول، والمرضعة عما أرضعت ذهلت، وكلُّ ذاتِ حَمْلٍ حملها وضَعَتْ، زاغت الأبصار وشخصت، والقلوبُ الحناجرَ بلغَتْ، وانقطعت علائقُ الأنسابِ، قال الله تعالى: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ﴾ [الانفطار: 1 - 4]، ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ﴾ [التكوير: 1 - 3].

لكن مع ذلك هناك جوانب مضيئة في ذلك اليوم للسعداء والموفقين والأتقياء، فلهم حال وأحوال متعددة؛ ولهم فرحة وأفراح متعددة؛ تشوقنا إلى ذلك اليوم، وتستحق منا هذه الجوانب أن نُلقي عليها بعض الأضواء، فمع فرحة المؤمنين نعيش في هذه الخطبة، وكم من أفراحٍ تنتظر المؤمنَ يومَ القيامة، نسأل الله التوفيق والسداد.

♦ أيها المسلمون، تبدأ أفراح المؤمنين في ذلك اليوم، حينما يُبعَثون من قبورهم، وهم يرون هذه الأحداث تتغير لا يخافون، لا يفزعون عندما يفزع الناس، ولا يحزنون عندما يحزن الناس، الناسُ كلُّهم في خوف إلا أهل الإيمان فإنهم ﴿ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ﴾ [النمل: 89].

فعندما يبعثون من قبورهم تستقبلهم الملائكة تُهدِّئ من روعهم وتطمئن قلوبهم، يقـول الله عزَّ وجلَّ: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء: 103].

والفزع هو:
شدة الهلع والخوف الذي يحصل للعباد، والفزع الأكبر هو ما يُصيبُ العبادَ عندما يبعثون من القبور؛ أي: لا يخافون من الفزع الأكبر، وهو أهوال يوم القيامة، تبدأ أفراح المؤمنين في ذلك اليوم يناديهم منادي الرحمن مطمئنًا لهم: ﴿ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ [الزخرف: 68، 69] ويقول لهم: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [يونس: 62 - 64].

وسِرُّ هذا الأمن أن قلوبهم كانت تخاف ربها في الدنيا، فقاموا من ليلهم، وأظمئوا نهارهم، واستعدوا ليوم الوقوف بين يدي الله، كما قال تعالى مخبرًا عن مقالتهم: ﴿ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 10].

ومن كانت هذه حاله وقاه الله شر ذلك اليوم: ﴿ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 11، 12].

وفي الحديث الذي يرويه أبو نعيم في الحلية، عن شداد بن أوس، يقول النبي صلى الله عليه وسلم- وهذا الحديث صحيح؛ صححه الألباني في السلسلة الصحيحة -: ((يقول الله عزَّ وجلَّ: وعِزَّتي وجلالي، لا أجمع لعبدي أمنين، ولا أجمع عليه خوفين، إن هو أَمِنني في الدنيا أخفته يوم أجمع فيه عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمَّنته يوم أجمع فيه عبادي)).

ومن الأعمال التي جعل الله عاقبتها الأمن من الفزع الشهادةُ في سبيل الله، والرباط في سبيل الله؛ روى الترمذي- وصححه الألباني صحيح الترغيب- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، وهذا هو الشاهد يأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتةُ منه خيرٌ من الدنيا وما فيها، ويُزوَّج اثنتانِ وسبعون زوجة من الحور العين، ويُشفع في سبعين من أقاربه))، وفي حديث ابن ماجه: ((وبعثه اللهُ يومَ القيامةِ آمنًا من الفزع)).

وتحقيق التوحيد من أعظم أسباب الأمن يوم القيامة، فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، واعلموا أن توحيد الله تعالى وطاعته سبب للأمن في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 87 - 89]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82].

♦ ويعْظُم فرح المؤمنين حين يظلهم الله في ظل عرشه مع الأمن؛ أي: هم آمنون والشمس تغلي، فالأمن يحتاج إلى نوع من الراحة، فالله أراحهم بأن أظلهم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبعةٌ يُظِلُّهم اللهُ في ظلِّه يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه: إمامٌ عادلٌ، وشابٌّ نشأ في عبادة ربِّه، ورجلٌ قلبُه مُعلَّقٌ في المساجد، ورجلانِ تحابَّا في اللهِ اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه، ورجلٌ طلبَتْه امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمالٍ فقال: إني أخافُ اللهَ، ورجلٌ تصدَّقَ أخفى حتى لا تعلم شمالُه ما تنفق يمينُه، ورجلٌ ذكرَ اللهَ خاليًا ففاضَتْ عيناهُ))؛ رواه البخاري.

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللّهَ تعالى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلالِي، الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي، يَوْمَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي)).

ومن الذين يظلهم الله أيضًا: من أنظر مُعسِرًا، أو وضع عنه؛ ففي صحيح مسلم من حديث أَبِي الْيَسَرِ رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللّهُ فِي ظِلِّهِ)).

وأما قارئ البقرة، وآل عمران؛ فإنهما تأتيان عليه يوم القيامة كأنهما غمامتان تدافعان عنه؛ فعن أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((اقْرَءوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ، اقْرَءوا الزَّهْرَاوَيْنِ: الْبَقَرَةَ، وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ؛ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَأُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلا يَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ))؛ [رواه مسلم]، قَالَ مُعَاوِيةُ: بَلَغَنِي أَنَّ الْبَطَلَةَ: السَّحَرَةُ.

ويأتي المتصدق في ظلِّ صدقته؛ فعن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وإنما يستظلُّ المؤمنُ يومَ القيامةِ في ظلِّ صدقته))؛ (صححه الألباني).

♦ وتعظم الفرحة حين يأتي أهل الإيمان وجوههم بيضاء مستنيرة، قال الله تعالى: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آل عمران: 107]، وقال تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ﴾ [عبس: 38، 39]، ومسفرة: قيل: مشرقة، وقيل: مضيئة، وقيل: مستنيرة، وكلها معانٍ متـقاربة.

يأتي المصلون المتوضئون يوم القيامة غُرًّا مُحجَّلين من آثار الوضوء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ أمتي يدعون يومَ القيامةِ غُرًّا محجَّلين من آثار الوضوء))؛ رواه البخاري، والمراد: النور الكائن في وجوه أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه الغرة وذلك التحجيل يكونان للمؤمن حليةً يومَ القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء))؛ رواه مسلم، وهي مزية لهذه الأمة المحمدية دون غيرها، ففي رواية لمسلم: ((لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لأَحَدٍ مِنَ الأُمَمِ، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ)).

♦ وتعظم فرحة المؤمن حين يلقى الكريمَ سبحانه، ويقف بين يدي أرحم الراحمين، الذي ادَّخر تسعًا وتسعين رحمةً يرحم بها عباده يوم القيامة، ينادى على رؤوس الخلق.. يا فلانَ ابن فلان هلُمَّ إلى العرض على الله، فيتقدم للقاء ربِّ العزة والجلال، ويقترب منه، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((إِنَّ اللهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأى فِي نَفْسِهِ أنَّهُ هَلَكَ، قال: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأنَا أغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ))؛ [متفق عليه].

أيُّ فرحةٍ أيها الإخوة، وأيُّ سعادةٍ يشعر بها العبدُ في هذه اللحظة.. حين ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ﴾ [الانشقاق: 8، 9]، فما أعظمَه من سرور حين يأخذ كتابه بيمينه! لأنه كان من أهل اليمين، كان يمشي على الطريق الصحيح، ولم يكن يعكس السير، يأخذ كتابه بيمينه فيطلقها صرخة في العالمين من الفرح ويقول: ﴿ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ﴾ [الحاقة: 19، 20].

حريٌّ بكل مسلم عرف قيمة فرحة الدار الآخرة أن يشمر، ويسعى لها سعيها بالأعمال الصالحة، والطاعات والقربات؛ من صلاة وصيام وصدقة وإحسان وقرآن؛ فيا طالبًا سلعةَ الرحمن، لا تقتل فرحة الآخرة وسعادتها الأبدية السرمدية بلذة طائشة، وشهوة عابرة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.


الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عباده الذين اصطفى، وبعد:
عباد الله، فما زلنا مع أفراح يوم القيامة فنقول:
♦ وللمؤمن فرحةٌ بالغةٌ حين يقف أمامَ الصراط وتحتَ الصراطِ نارُ جهنم والناس يَهْوُونَ فيها على وجوههم، فيعبُرُ العبدُ الصالحُ كلمح البصر، وكالبرق، وكالريح- يتفاوت المؤمنون بحسب أعمالهم- وقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم عن آخِر عبدٍ يعبر الصراط إلى الجنة ((قال: رجل... يمشي على الصراط، فيكبو مرةً، ويمشي مرةً، وتسفعه النار مرةً))- يعني: تلفح وجهه ويكاد يسقط فيها، فلما عبر ونجا منها -: ((التفت إليها فقالَ: تبارك الذي نجَّاني منك، لقد أعطاني الله شيئًا ما أعطاه أحدًا من الأولين والآخِرين)) هذه فرحةُ آخِر رجلٍ يعبُر على الصراط، فكيف بفرح السابقين.

فتَذَكَّرْ أَخِي المُبَارَكَ أَنَّ فَرْحَةَ تِلْكَ الدَّار تُنْسِي كُلَّ بُؤْسٍ قَبْلَهَا، وَحَسْرَةَ ذَلِكَ اليَوْمِ تُذْهِبُ فَرْحَةَ كُلِّ نَعيمٍ؛ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ فِي الْجَنَّةِ صَبْغَةً فَيُقَالُ لَهُ: يَا بْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَبِّ، مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ)).

♦ ومن أعظم لحظاتِ السعادة والسرور، والفرح والحُبور، حين يُساق المؤمنون إلى الجنة، تَزُفُّهم الملائكة زمرًا؛ جماعاتٍ جماعاتٍ، يأخذُ بعضُهم بأيدي بعض، ضع نفسك يا عبد الله في هذا المقام وأنتَ تسير إلى الجنة مع عباد الله الصالحين قد انتهى الحساب وأَمِنْتَ مِنَ العذاب وليس بينك وبين نعيمِها إلا لحظات؛ فينادي جل في علاه المؤمنين نداءَ تهنئةٍ ونداءَ تكريمٍ ونداءَ توقيرٍ ونداءَ تبشيرٍ، قال جل وعلا: ﴿ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 43].

فما أعظم هذا النداء! نداءٌ بفوزٍ أبديٍّ في نعيم الجنة، والقرب من الرحمن، ونيل رضوانه، ورؤية وجهه الكريم، وحسبك هذا النعيم، ويا له من نعيم باقٍ إلى أبد الآبدين في جنة رب العالمين!

ويصِلُ المؤمنون إلى أبواب الجنة، فيجدونَها مغلقةً موصدة، فيزدحمون عليها وقد بلغ الشوق بهم ما لا يطيقون، كلهم ينتظر اللحظة التي تُفتَح فيها الأبواب ويتقدم سيدُنا وسيدُ الخلق محمدٌ صلى الله عليه وسلم من بين الجموع، يأخذ حلقة الباب، فيَقْرعُهُ، فيَسألُ خازنُها: من أنت؟ فيقول: محمد، فيقول خازنُ الجنة: بك أُمِرْتُ ألَّا أفتحَ لأحد قبلَك فيَفتح له.

وها هي أبواب الجنة تتحرك وتكشف عما وراءها ﴿ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ [الزمر: 73].

♦ ويِعْظُم فرح المؤمن، وتزداد الفرحة عندما تكون ضيفًا مرغوبًا، أنت وأهلك، وتسمع نداءً خاصًّا ﴿ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الزخرف: 70 - 72]، وعندما تنظر خلفك وترى ذريتك تتبعك لمشاركتك فرحتك ﴿ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾ [الطور: 21].

وهنا: تبدأُ حياةُ النعيمِ الخالد الذي لا ينتهي، ولا يقل، ولا يُكَدِّرُه شيء، شبابٌ لا يَبلى، وقوةٌ لا تضْعُف، وصحةٌ لا يعتريها مرض، سعادة لا ينغصها فقد حبيب، ولا موت قريب.

ستكون في غاية الفرح وأنت تمشي ولأول مرة في زمرة المرضي عنهم، ويتقدمك النبي محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ [التحريم: 8].

لن تكون قادرًا على إخفاء نضارة وجهك السعيد عندما يكون رفيقك هناك النبي محمد صلى الله عليه وسلم وموسى وعيسى ونوح وإبراهيم عليهم السلام ﴿ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69].

هناك ستتذكر ما تلوته هنا ﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ [القصص: 61].

أيها الأحبة الكرام، هذه بعض أفراح المؤمنين يوم القيامة؛ فاستعدوا لحياة سرمدية، رزقنا الله وإياكم ووالدينا جميعًا وكل من له حقٌّ علينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين الفردوس الأعلى برفقة حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يجمع لنا ولكم وللمسلمين فرح الدنيا والآخرة، وأقِم الصلاة.

سنينى معاك
01-10-2023, 09:33 AM
جزاك الله خير الجزاء
دمت برضى الله وحفظه ورعايته

الثريا
01-10-2023, 03:28 PM
بارك الله فيك وجزاك خير الجزاء..
على كل ما تقدم لنا من درر قيمة..
جعلها الله في موازين حسناتك..
مع كامل التحية والتقدير..
حفظك المولى وحماك..

حكاية ناي ♔
01-12-2023, 08:03 PM
اسعدني حضوركم