حكاية ناي ♔
01-10-2023, 09:27 AM
الثبات على الحق
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا.
أما بعد:
أيها المسلمون عباد الله: إن الثبات على الحق هو من أبرز سمات أهل الحق، إن الثبات على الحق مطلبُ كلِّ مؤمن بالله رب العالمين، وهمُّ كل داعية، لا سيما في هذا الزمن الذي كثرت فيه الابتلاءات والفتن بكل أنواعها، وتنوعت وسائل الإضلال والإفساد والمحن، حتى أصبح القابض على دينه كالقابض الجمر، فأهل الحق هم أعظم الناس صبرًا على أقوالهم ومعتقداتهم.
وإن الثباتَ على الطريق، ولُزومَ الجادَّة، واتِّباع الصراط، والحذَرَ من اتِّباع السُّبُل - آيةُ رُشد المرء، وبُرهان نُضجه، ودليلُ سداد رأيه، وإن أرفعَ مراتبِ الثباتِ وأعلى درجاته - يا عباد الله -: ثباتُ القلب على الحق، واستقامتُه على الدين، وسلامتُه من التقلُّب.
• وقد ذكر الله تعالى الثبات في القرآن الكريم عدَّة مرات، حيث أمر المؤمنين بأن يثبتوا في وجهِ عدوِّهم، ولا ينكصوا ولا يفرُّوا ولا يتقهقروا؛ فإن في ثباتِهم وصمودهم الفوزَ والتمكين والفلاح، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45].
• وكذلك وضع الله تعالى شرطًا لتثبيت الله تعالى للمؤمنين بأن ينصروا الله تعالى في أنفسهم؛ فلا يعصوا له سبحانه أمرًا، ولا يحيدوا عن طريقه الذي ارتضاه لعباده، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7].
ولا يخفى على عاقل متدبر أثرُ قصص الثابتين على الحق في القلوب، وأن الله سبحانه قصَّ على رسوله صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده في ثلث كتابه العظيم قصصًا مثبتةً للفؤاد، وموعظة بالغة، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 120].
ومن ذلك ثبات سحَرةِ فرعون ﴿ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ﴾ [طه: 71].
فكان جوابهم مثالًا في الثبات ﴿ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [طه: 72].
• وهذه أمُّ سلمة رضي الله عنها تحدِّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول: ((اللهم مقلبَ القلوب، ثبِّت قلبي على دينك))، قالت: قلت: يا رسول الله، وإنَّ القلوب لتتقلبُ؟! قال: ((نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا إنَّ قلبه بين إصبعين من أصابع الله، فإن شاء الله عز وجل أقامه، وإن شاء الله أزاغه))؛ أخرجه أحمد في مسنده والترمذي في جامعه بإسناد صحيح.
• وروى مسلم في صحيحه أن (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ))، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ))، ويقول شداد بن أوس رضي الله عنه: "كان رسول الله يعلمنا كلمات ندعو بهن في صلاتنا: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، وأسألك عزيمة الرشد".
♦ وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ثبات عجيب، وإصرار على تبليغ الدعوة، ومن سيرته يتعلم المؤمنون الثبات؛ ولهم في ثباته أسوة حسنة. فلقد آذي المشركون رسول الله وقتَلوا أصحابه فلم يتراجع عن دعوته، وساوموه فلم يتنازل عن شيء منها، وأغرَوه بما يغرى به الأكابر من الناس فما تزحزح عن موقفه، وكان ثابتًا ثبوتَ الجبال الرواسي، بل لو تزحزحت الجبال عن مقارها لما تزحزح عن دعوته.
ويشهد على ثباته صلى الله عليه وسلم رفضُه لما عرضه عليه رؤساء قريش ذات يوم عند ظهر الكعبة، فقالوا: "إن كنت إنما جئتَ بهذا الحديث تطلب به مالًا، جمعنا لك من أموالنا؛ حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا، فنحن نُسَوِّدُك علينا، وإن كنت تريد به مُلكًا، ملَّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن رئيًا - فربما كان ذلك، بذَلْنا لك أموالنا في طلب الطب لك؛ حتى نُبرئك منه أو نعذر فيك"، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: ((مَا بِي مَا تَقُولُونَ، مَا جِئْتُكُمْ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُب أَمْوَالكُمْ، وَلَا الشَّرَف فِيكُمْ، وَلَا الْمُلْك عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُون لَكُمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَالَات رَبِّي وَنَصَحْت لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِر لِأَمْرِ اللَّه حَتَّى يَحْكُم اللَّه بَيْنِي وَبَيْنكُمْ))، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
• فلما يئسوا من توقُّف النبي صلى الله عليه وسلم عن دعوته، قدَّموا عرضًا آخر لمساومته في دينه، وبعض الناس يظن أنه عرض جيد في حال ضعف المسلمين، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم رفضه؛ فاجتمع جمعٌ من أشراف قريش فَقَالُوا: "يَا مُحَمَّدُ، هَلُمَّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ، وَتَعْبُد مَا نَعْبُدُ، فَنَشْتَرِكُ نَحْنُ وَأَنْتَ فِي الْأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي تَعْبُدُ خَيْرًا مِمَّا نَعْبُدُ، كُنَّا قَدْ أَخَذْنَا بِحَظِّنَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَا نَعْبُدُ خَيْرًا مِمَّا تَعْبُدُ، كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَ بِحَظِّكَ مِنْهُ"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 1 - 6].
♦ أيها الإخوة، ولقد ضرَب الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم أجمعين أروعَ الأمثلة في الصمود والثبات على الحق:
• فهذا أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه يَقِف في المشركين خطيبًا عند الكعبة، فيقوم المشركون بضربِه بالنِّعال، حتى ما يُعرف وجهُه من أنفه، وحُمِل إلى بيته في ثوبِه، وهو ما بين الحياةِ والموت، فما يَثنيه ذلك عن دينه ولا عن ذكر الله.
• وهذا بلال بن رباح: كان مولى لأمية بن خلف، فكان يضع في رقبته حبلًا ويُسلمه إلى الصبيان يطوفون به في جبال مكة، وكان يجبره على الجوع والعطش ويشده ويضربه بالعصا، وكان إذا اشتدت الرمضاء يطرحه في بطحاء مكة، ثم يوضع على صدره الصخرة العظيمة ويقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وتعبُد اللات والعزى. فيقول قولته الخالدة: أحَدٌ أحَدٌ. (سيرة ابن هشام).
• وأما خبَّاب بن الأرت: فقد تعرَّض لشتى ألوان العذاب، فقد كانوا يضعون الحديد المحميَّ على جسده، فما يطفئ النارَ إلا الدهن الموجود في ظهره، وقد سأله عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا عما لقي من المشركين، فقال خبَّاب: يا أمير المؤمنين، انظر إلى ظهري، فنظر عمر، فقال: ما رأيت كاليوم، قال خباب: لقد أوقدتْ لي نار، وسُحبتُ عليها فما أطفأها إلا وَدَكُ ظهري (أي دهن الظَّهر).
• وأبو ذر الغفاري رضي الله عنه كان شغوفًا بتتبع الحق ومعرفته، وفعلًا وصل إليه، وبمجرد أن عرف الحق خرج منطلقًا إلى الكعبة وصرخ بما يعتقده في هذا الدين، ولقي منهم ضربًا وبلاءً شديدًا ما يستطيع أحد أن يتحمله، مع أنه لم تمر دقائق أو ساعات معدودة على دخوله في هذا الدين، غير أنه لم يرتدَّ رضي الله عنه، ولم يتلكأ في أن يستمر في حمل هذه الدعوة المباركة، وإيصالها إلى قومه والدفاع عنها أيضًا.
• وما جرى للزبير بن العوام رضي الله عنه من تعذيب عمِّه له كما أخرج الحاكم عن أبي الأسود عن عروة قال: أسلم الزبير بن العوام وهو ابن ثمان سنين، وهاجر وهو ابن ثمان عشرة سنة، وكان عم الزبير يعلِّق الزبير في حصير ويدخن عليه بالنار ويقول: ارجع إلى الكفر، فيقول الزبير: لا أكفر أبدًا.
• ومصعب بن عمير: بعد أن كان فتى مكة المدلل، جوَّعتْه أمُّه وعذَّبته وأخرجته حتى تحشف جلده كتحشف الحية، قال سعد بن أبي وقاص: ( كَانَ مصعب أَتْرَفَ غُلَامٍ بِمَكَّةَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ فِيمَا بَيْنَنَا، فَلَمَّا أَصَابَهُ مَا أَصَابَنَا، لَمْ يَقْوَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَإِنَّ جِلْدَهُ لَيَتَطَايَرُ عَنْهُ تَطَايُرَ جِلْدِ الحَيَّةِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْقَطِعُ بِهِ، فَمَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْشِيَ، فَنَعْرِضُ لَهُ القِسِيَّ ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى عَوَاتِقِنَا).
• وهذا ياسرٌ وزوجتُه سمية وابنه عمار رضي الله عنهم أجمعين يُنكَّل بهم، ويذوقون من العذاب ألوانًا، فما يَثنيهم ذلك عن دينهم ولا عن ذكر الله، ابتلوا بلاءً شديدًا بمجرد ما أسلَموا، وكانت أمه أول شهيدة في الإسلام، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمر عليهم فلا يجد ما يواسيهم به غير الكلمات يقول لهم: ((صبرًا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة)).
• وهذا عبدُالله بن مسعود رضي الله عنه يَصدَحُ بالقرآن بجوار الكعبة مُتحدِّيًا صناديد قريش حتى أوجعوه ضربًا، وهو ماضٍ في قراءته يقرع آذانهم بآيات القرآن الكريم، وعندما أشفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم قال لهم: "ما كان أعداءُ الله أهونَ عليَّ منهم الآن، ولئن شِئتم لأغادينَّهم بمثلها غدًا"، قالوا: "حسبُك، فقد أسمَعْتهم ما يكرهون".
• وكان فروة بن عمرو الجذامي عاملًا للروم على الشام، وبعد ما رأى صبر المسلمين في مؤتة (3000 ضد 200000) أسلم؛ فحبسه الروم وخيروه بين الردة والقتل، فاختار القتل، فصلبوه وقتلوه على ماء في فلسطين يسمى عفراء.
• ومما أخرجه البيهقي عن ثبات النساء ما جاء عن "الزِّنِّيرة" ومدى عذابها وصبرها في الله حتى أعتقها أبو بكر، قال البيهقي: فذهب بصرها وكانت ممن يعذَّب في الله على الإسلام، فتأبى إلا الإسلام، فقال المشركون: ما أصاب بصرَها إلا اللاتُ والعزى، فقالت: كلا والله ما هو كذلك، (وفي بعض الروايات: وما تدري اللات والعزى من يعبدهما، ولو شاء الله لردَّ عليَّ بصري)، فردَّ الله عليها بصرها".
• وذكر ابن حجر رحمه الله في كتابه: "الإصابة": "أن عمر رضي الله عنه وجَّه جيشًا إلى الروم وفيهم عبدالله بن حذافة فأسروه، فقال له ملك الروم: تنصَّر أشركك في ملكي، فأبى، فأمر به فصُلب وأمر برميه بالسهام فلم يجزع، فأنزل وأمر بقدر فصب فيها الماء وأغلى عليه وأمر بإلقاء أسيرٍ فيها فإذا عظامه تلوح، فأمر بإلقائه إن لم يتنصر، فلما ذهبوا به بكى، قال: ردُّوه، فقال: لمَ بكيتَ؟ قال: تمنيت أن لي مائة نفس تُلقى هكذا في الله، فعجب فقال: قبِّل رأسي وأنا أخلي عنك، فقال: وعن جميع أسارى المسلمين؟ قال: نعم، فقبَّل رأسه، فخلى بينهم، فقدم بهم على عمر، فقام عمر فقبَّل رأسه".
فانظروا ماذا يصنع الإيمان، إذا رسخ الإيمان في القلوب هانت على صاحبه آلامُ الجسد إذا كانت من أجل الله تعالى.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى، وبعد:
أيها المسلمون، أما الإمام أحمد رحمه الله تعالى فإنه ثبت وابتُلي بلاءً شديدًا، فلقد سجن وكُبِّل بالأغلال وضُرب بالسياط حتى كان يغمى عليه، وطلاب العلم ينتظرونه في الخارج معهم الأقلام والأوراق ينتظرون ماذا سيقول في محنة خلق القرآن، فلم يبقَ في هذه المحنة إلا هو، فيقال له: أجِبْ، خذ بالرخصة، وقد ترخَّص خلق عظيم، وصار في حقهم في الحقيقة مسبَّة؛ ولذلك يجرح بعضهم نتيجة أنه أجاب بخلق القرآن، فيقال له: أجب، ارفع عن نفسك البلاء عند رخصة، فيقول: "أبدًا، إذا اتقى العالِمُ، متى يعرف الجهالُ الحقَّ؟"، أنا يمكن أن آخذ بالتقية وأجيب تقية، لكن الجهال متى يعرفون أن هذا الحق؟
فصبر وتحمل البلاء العظيم في هذه المحنة، حتى إنه قال لأحد منهم: اخرج إلى خارج الغرفة وانظر من يوجد في الخارج، فخرج فإذا بطلاب العلم ينتظرون ماذا سيقول الإمام أحمد، قال له: لم أجد إلا طلاب العلم، قال له: نعم يريدون أن يكتبوا ماذا سأقول.
والحمد لله أن الله تعالى ثبَّته رحمه الله ولم يكتب عنه إلا الحق في هذه المحنة، ولقِّب بإمام أهل السنة والجماعة.
• وهذا أيضًا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ضرب مثلًا آخر في الثبات، فلقد ابتُلي بلاءً شديدًا نتيجة الوشاية به، لكنه صبر على ذلك كله وسُجن عدة مرات، بل توفي وهو في السجن، فلم يؤْثر عنه أنه تنازل أو أنه مال يمنة أو يسرة، بل كان رحمة الله تعالى عليه أعدلَ بأهل البدع من أنفسهم، لم يتجرأ عليهم ولم يستخدم نفس الأساليب التي استخدموها لا من قريب ولا من بعيد.
أيها المسلمون، إنَّ أمَّتنا الإسلامية -اليوم- أحوج ما تكون إلى وجود أهل الثبات على الحق؛ في زمنٍ اختلطت فيه المفاهيم، وضاعت الحقوق، وانتشر اليأس والتشاؤم، وضاع الإحسان بين الناس، وكثُرت الخيانة، والكذب والغدر... فحين تضيع المقدسات أو كادت... وحين ينتشر الظلم وتكثر المظالِم... وحين تفسد القيم والأخلاق الفاضلة... وحين ينحرف المجتمع عن الصراط المستقيم... وحين تغزونا الأفكار المسمومة والثقافات الغادِرة...كان لا بد من عودة أهل الثبات إلى دورهم، والقيام بالصفات المطلوبة منهم، كما بيَّنها القرآن الكريم والسُّنة المطهَّرة الشريفة.
فألِحُّوا على الله تعالى بالسؤال أن يربط على قلوبكم، ويثبتكم على دينكم؛ فالقلوب ضعيفة والشبهات خطافة، والشيطان قاعد لك بالمرصاد، والله عز وجل يثبِّت أهل الحق أمام ما يعرض لقلوبهم من أمراض الشبهات والشهوات، ولك فيمن تقدمك من المؤمنين أسوةٌ حسنة؛ فإن من دعائهم: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8]، وما ذكره الله تعالى عنهم: ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 250]، وقد كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا مقلب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك)).
أسأل الله أن يثبِّتنا وإياكم على الخير والصلاح.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنَّه هو الغفور الرحيم. وأقم الصلاة.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا.
أما بعد:
أيها المسلمون عباد الله: إن الثبات على الحق هو من أبرز سمات أهل الحق، إن الثبات على الحق مطلبُ كلِّ مؤمن بالله رب العالمين، وهمُّ كل داعية، لا سيما في هذا الزمن الذي كثرت فيه الابتلاءات والفتن بكل أنواعها، وتنوعت وسائل الإضلال والإفساد والمحن، حتى أصبح القابض على دينه كالقابض الجمر، فأهل الحق هم أعظم الناس صبرًا على أقوالهم ومعتقداتهم.
وإن الثباتَ على الطريق، ولُزومَ الجادَّة، واتِّباع الصراط، والحذَرَ من اتِّباع السُّبُل - آيةُ رُشد المرء، وبُرهان نُضجه، ودليلُ سداد رأيه، وإن أرفعَ مراتبِ الثباتِ وأعلى درجاته - يا عباد الله -: ثباتُ القلب على الحق، واستقامتُه على الدين، وسلامتُه من التقلُّب.
• وقد ذكر الله تعالى الثبات في القرآن الكريم عدَّة مرات، حيث أمر المؤمنين بأن يثبتوا في وجهِ عدوِّهم، ولا ينكصوا ولا يفرُّوا ولا يتقهقروا؛ فإن في ثباتِهم وصمودهم الفوزَ والتمكين والفلاح، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45].
• وكذلك وضع الله تعالى شرطًا لتثبيت الله تعالى للمؤمنين بأن ينصروا الله تعالى في أنفسهم؛ فلا يعصوا له سبحانه أمرًا، ولا يحيدوا عن طريقه الذي ارتضاه لعباده، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7].
ولا يخفى على عاقل متدبر أثرُ قصص الثابتين على الحق في القلوب، وأن الله سبحانه قصَّ على رسوله صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده في ثلث كتابه العظيم قصصًا مثبتةً للفؤاد، وموعظة بالغة، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 120].
ومن ذلك ثبات سحَرةِ فرعون ﴿ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ﴾ [طه: 71].
فكان جوابهم مثالًا في الثبات ﴿ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [طه: 72].
• وهذه أمُّ سلمة رضي الله عنها تحدِّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول: ((اللهم مقلبَ القلوب، ثبِّت قلبي على دينك))، قالت: قلت: يا رسول الله، وإنَّ القلوب لتتقلبُ؟! قال: ((نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا إنَّ قلبه بين إصبعين من أصابع الله، فإن شاء الله عز وجل أقامه، وإن شاء الله أزاغه))؛ أخرجه أحمد في مسنده والترمذي في جامعه بإسناد صحيح.
• وروى مسلم في صحيحه أن (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ))، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ))، ويقول شداد بن أوس رضي الله عنه: "كان رسول الله يعلمنا كلمات ندعو بهن في صلاتنا: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، وأسألك عزيمة الرشد".
♦ وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ثبات عجيب، وإصرار على تبليغ الدعوة، ومن سيرته يتعلم المؤمنون الثبات؛ ولهم في ثباته أسوة حسنة. فلقد آذي المشركون رسول الله وقتَلوا أصحابه فلم يتراجع عن دعوته، وساوموه فلم يتنازل عن شيء منها، وأغرَوه بما يغرى به الأكابر من الناس فما تزحزح عن موقفه، وكان ثابتًا ثبوتَ الجبال الرواسي، بل لو تزحزحت الجبال عن مقارها لما تزحزح عن دعوته.
ويشهد على ثباته صلى الله عليه وسلم رفضُه لما عرضه عليه رؤساء قريش ذات يوم عند ظهر الكعبة، فقالوا: "إن كنت إنما جئتَ بهذا الحديث تطلب به مالًا، جمعنا لك من أموالنا؛ حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا، فنحن نُسَوِّدُك علينا، وإن كنت تريد به مُلكًا، ملَّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن رئيًا - فربما كان ذلك، بذَلْنا لك أموالنا في طلب الطب لك؛ حتى نُبرئك منه أو نعذر فيك"، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: ((مَا بِي مَا تَقُولُونَ، مَا جِئْتُكُمْ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُب أَمْوَالكُمْ، وَلَا الشَّرَف فِيكُمْ، وَلَا الْمُلْك عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُون لَكُمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَالَات رَبِّي وَنَصَحْت لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِر لِأَمْرِ اللَّه حَتَّى يَحْكُم اللَّه بَيْنِي وَبَيْنكُمْ))، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
• فلما يئسوا من توقُّف النبي صلى الله عليه وسلم عن دعوته، قدَّموا عرضًا آخر لمساومته في دينه، وبعض الناس يظن أنه عرض جيد في حال ضعف المسلمين، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم رفضه؛ فاجتمع جمعٌ من أشراف قريش فَقَالُوا: "يَا مُحَمَّدُ، هَلُمَّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ، وَتَعْبُد مَا نَعْبُدُ، فَنَشْتَرِكُ نَحْنُ وَأَنْتَ فِي الْأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي تَعْبُدُ خَيْرًا مِمَّا نَعْبُدُ، كُنَّا قَدْ أَخَذْنَا بِحَظِّنَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَا نَعْبُدُ خَيْرًا مِمَّا تَعْبُدُ، كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَ بِحَظِّكَ مِنْهُ"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 1 - 6].
♦ أيها الإخوة، ولقد ضرَب الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم أجمعين أروعَ الأمثلة في الصمود والثبات على الحق:
• فهذا أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه يَقِف في المشركين خطيبًا عند الكعبة، فيقوم المشركون بضربِه بالنِّعال، حتى ما يُعرف وجهُه من أنفه، وحُمِل إلى بيته في ثوبِه، وهو ما بين الحياةِ والموت، فما يَثنيه ذلك عن دينه ولا عن ذكر الله.
• وهذا بلال بن رباح: كان مولى لأمية بن خلف، فكان يضع في رقبته حبلًا ويُسلمه إلى الصبيان يطوفون به في جبال مكة، وكان يجبره على الجوع والعطش ويشده ويضربه بالعصا، وكان إذا اشتدت الرمضاء يطرحه في بطحاء مكة، ثم يوضع على صدره الصخرة العظيمة ويقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وتعبُد اللات والعزى. فيقول قولته الخالدة: أحَدٌ أحَدٌ. (سيرة ابن هشام).
• وأما خبَّاب بن الأرت: فقد تعرَّض لشتى ألوان العذاب، فقد كانوا يضعون الحديد المحميَّ على جسده، فما يطفئ النارَ إلا الدهن الموجود في ظهره، وقد سأله عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا عما لقي من المشركين، فقال خبَّاب: يا أمير المؤمنين، انظر إلى ظهري، فنظر عمر، فقال: ما رأيت كاليوم، قال خباب: لقد أوقدتْ لي نار، وسُحبتُ عليها فما أطفأها إلا وَدَكُ ظهري (أي دهن الظَّهر).
• وأبو ذر الغفاري رضي الله عنه كان شغوفًا بتتبع الحق ومعرفته، وفعلًا وصل إليه، وبمجرد أن عرف الحق خرج منطلقًا إلى الكعبة وصرخ بما يعتقده في هذا الدين، ولقي منهم ضربًا وبلاءً شديدًا ما يستطيع أحد أن يتحمله، مع أنه لم تمر دقائق أو ساعات معدودة على دخوله في هذا الدين، غير أنه لم يرتدَّ رضي الله عنه، ولم يتلكأ في أن يستمر في حمل هذه الدعوة المباركة، وإيصالها إلى قومه والدفاع عنها أيضًا.
• وما جرى للزبير بن العوام رضي الله عنه من تعذيب عمِّه له كما أخرج الحاكم عن أبي الأسود عن عروة قال: أسلم الزبير بن العوام وهو ابن ثمان سنين، وهاجر وهو ابن ثمان عشرة سنة، وكان عم الزبير يعلِّق الزبير في حصير ويدخن عليه بالنار ويقول: ارجع إلى الكفر، فيقول الزبير: لا أكفر أبدًا.
• ومصعب بن عمير: بعد أن كان فتى مكة المدلل، جوَّعتْه أمُّه وعذَّبته وأخرجته حتى تحشف جلده كتحشف الحية، قال سعد بن أبي وقاص: ( كَانَ مصعب أَتْرَفَ غُلَامٍ بِمَكَّةَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ فِيمَا بَيْنَنَا، فَلَمَّا أَصَابَهُ مَا أَصَابَنَا، لَمْ يَقْوَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَإِنَّ جِلْدَهُ لَيَتَطَايَرُ عَنْهُ تَطَايُرَ جِلْدِ الحَيَّةِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْقَطِعُ بِهِ، فَمَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْشِيَ، فَنَعْرِضُ لَهُ القِسِيَّ ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى عَوَاتِقِنَا).
• وهذا ياسرٌ وزوجتُه سمية وابنه عمار رضي الله عنهم أجمعين يُنكَّل بهم، ويذوقون من العذاب ألوانًا، فما يَثنيهم ذلك عن دينهم ولا عن ذكر الله، ابتلوا بلاءً شديدًا بمجرد ما أسلَموا، وكانت أمه أول شهيدة في الإسلام، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمر عليهم فلا يجد ما يواسيهم به غير الكلمات يقول لهم: ((صبرًا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة)).
• وهذا عبدُالله بن مسعود رضي الله عنه يَصدَحُ بالقرآن بجوار الكعبة مُتحدِّيًا صناديد قريش حتى أوجعوه ضربًا، وهو ماضٍ في قراءته يقرع آذانهم بآيات القرآن الكريم، وعندما أشفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم قال لهم: "ما كان أعداءُ الله أهونَ عليَّ منهم الآن، ولئن شِئتم لأغادينَّهم بمثلها غدًا"، قالوا: "حسبُك، فقد أسمَعْتهم ما يكرهون".
• وكان فروة بن عمرو الجذامي عاملًا للروم على الشام، وبعد ما رأى صبر المسلمين في مؤتة (3000 ضد 200000) أسلم؛ فحبسه الروم وخيروه بين الردة والقتل، فاختار القتل، فصلبوه وقتلوه على ماء في فلسطين يسمى عفراء.
• ومما أخرجه البيهقي عن ثبات النساء ما جاء عن "الزِّنِّيرة" ومدى عذابها وصبرها في الله حتى أعتقها أبو بكر، قال البيهقي: فذهب بصرها وكانت ممن يعذَّب في الله على الإسلام، فتأبى إلا الإسلام، فقال المشركون: ما أصاب بصرَها إلا اللاتُ والعزى، فقالت: كلا والله ما هو كذلك، (وفي بعض الروايات: وما تدري اللات والعزى من يعبدهما، ولو شاء الله لردَّ عليَّ بصري)، فردَّ الله عليها بصرها".
• وذكر ابن حجر رحمه الله في كتابه: "الإصابة": "أن عمر رضي الله عنه وجَّه جيشًا إلى الروم وفيهم عبدالله بن حذافة فأسروه، فقال له ملك الروم: تنصَّر أشركك في ملكي، فأبى، فأمر به فصُلب وأمر برميه بالسهام فلم يجزع، فأنزل وأمر بقدر فصب فيها الماء وأغلى عليه وأمر بإلقاء أسيرٍ فيها فإذا عظامه تلوح، فأمر بإلقائه إن لم يتنصر، فلما ذهبوا به بكى، قال: ردُّوه، فقال: لمَ بكيتَ؟ قال: تمنيت أن لي مائة نفس تُلقى هكذا في الله، فعجب فقال: قبِّل رأسي وأنا أخلي عنك، فقال: وعن جميع أسارى المسلمين؟ قال: نعم، فقبَّل رأسه، فخلى بينهم، فقدم بهم على عمر، فقام عمر فقبَّل رأسه".
فانظروا ماذا يصنع الإيمان، إذا رسخ الإيمان في القلوب هانت على صاحبه آلامُ الجسد إذا كانت من أجل الله تعالى.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى، وبعد:
أيها المسلمون، أما الإمام أحمد رحمه الله تعالى فإنه ثبت وابتُلي بلاءً شديدًا، فلقد سجن وكُبِّل بالأغلال وضُرب بالسياط حتى كان يغمى عليه، وطلاب العلم ينتظرونه في الخارج معهم الأقلام والأوراق ينتظرون ماذا سيقول في محنة خلق القرآن، فلم يبقَ في هذه المحنة إلا هو، فيقال له: أجِبْ، خذ بالرخصة، وقد ترخَّص خلق عظيم، وصار في حقهم في الحقيقة مسبَّة؛ ولذلك يجرح بعضهم نتيجة أنه أجاب بخلق القرآن، فيقال له: أجب، ارفع عن نفسك البلاء عند رخصة، فيقول: "أبدًا، إذا اتقى العالِمُ، متى يعرف الجهالُ الحقَّ؟"، أنا يمكن أن آخذ بالتقية وأجيب تقية، لكن الجهال متى يعرفون أن هذا الحق؟
فصبر وتحمل البلاء العظيم في هذه المحنة، حتى إنه قال لأحد منهم: اخرج إلى خارج الغرفة وانظر من يوجد في الخارج، فخرج فإذا بطلاب العلم ينتظرون ماذا سيقول الإمام أحمد، قال له: لم أجد إلا طلاب العلم، قال له: نعم يريدون أن يكتبوا ماذا سأقول.
والحمد لله أن الله تعالى ثبَّته رحمه الله ولم يكتب عنه إلا الحق في هذه المحنة، ولقِّب بإمام أهل السنة والجماعة.
• وهذا أيضًا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ضرب مثلًا آخر في الثبات، فلقد ابتُلي بلاءً شديدًا نتيجة الوشاية به، لكنه صبر على ذلك كله وسُجن عدة مرات، بل توفي وهو في السجن، فلم يؤْثر عنه أنه تنازل أو أنه مال يمنة أو يسرة، بل كان رحمة الله تعالى عليه أعدلَ بأهل البدع من أنفسهم، لم يتجرأ عليهم ولم يستخدم نفس الأساليب التي استخدموها لا من قريب ولا من بعيد.
أيها المسلمون، إنَّ أمَّتنا الإسلامية -اليوم- أحوج ما تكون إلى وجود أهل الثبات على الحق؛ في زمنٍ اختلطت فيه المفاهيم، وضاعت الحقوق، وانتشر اليأس والتشاؤم، وضاع الإحسان بين الناس، وكثُرت الخيانة، والكذب والغدر... فحين تضيع المقدسات أو كادت... وحين ينتشر الظلم وتكثر المظالِم... وحين تفسد القيم والأخلاق الفاضلة... وحين ينحرف المجتمع عن الصراط المستقيم... وحين تغزونا الأفكار المسمومة والثقافات الغادِرة...كان لا بد من عودة أهل الثبات إلى دورهم، والقيام بالصفات المطلوبة منهم، كما بيَّنها القرآن الكريم والسُّنة المطهَّرة الشريفة.
فألِحُّوا على الله تعالى بالسؤال أن يربط على قلوبكم، ويثبتكم على دينكم؛ فالقلوب ضعيفة والشبهات خطافة، والشيطان قاعد لك بالمرصاد، والله عز وجل يثبِّت أهل الحق أمام ما يعرض لقلوبهم من أمراض الشبهات والشهوات، ولك فيمن تقدمك من المؤمنين أسوةٌ حسنة؛ فإن من دعائهم: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8]، وما ذكره الله تعالى عنهم: ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 250]، وقد كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا مقلب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك)).
أسأل الله أن يثبِّتنا وإياكم على الخير والصلاح.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنَّه هو الغفور الرحيم. وأقم الصلاة.