حكاية ناي ♔
01-12-2023, 08:22 PM
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أمَّا بعدُ:
فهناك مسألةٌ شَغَلَتْ كثيرًا من الناس، وكَثُرَتْ حولها الأسئلة، وخُلاصَةُ هذه السُّؤَالَات: أنَّ نصوصَ الكتابِ والسُّنةِ قد فصَّلَتْ القولَ في صفات "الحُور العِين" وأشادتْ بِمَفاتِنِهِنَّ ومَحاسِنِهِنَّ، وحُلَّتِهن وزِينَتِهِنَّ؛ فأينَ ذِكْرُ "النِّساءِ الدُّنْيَوِيات" من ذلك، وعلى أيِّ صُورَةٍ سَيَكُنَّ؟!
وسبب هذه السُّؤَالَات: أنَّ كثيرًا من الناس يَظُنُّ: أنَّ "الحُور العِين" قَسِيمٌ مُقابِلٌ لنساء الجنة من "الدُّنْيَوِيَّات"، وأنَّ جميعَ ما وردتْ به النصوصُ من التَّوْصِيفات، هو في "الحُور العِين"، لا في "النِّساء الدُّنْيَوِيَّات".
فالبعض يتوَهَّم: أنَّ النُّصوصَ أورَدَتْ وَصْفَ "الحُورِ العِين" على سبيل التَّصْنِيف، كَقَسِيمٍ مُقابِلٍ لنساء الجنة من أهل الدنيا، وليس الأمْرُ كذلك؛ بل "الحُور العِين" مُجَرَّد تَوصِيفٍ لنساء الجنة، يَشْتَرِكُ فيه مَنْ هو فيها الآنَ من "نِسَائِها الأُخْرَوِيَّات"، ومَنْ سَيَدْخُلُها لاَحِقًا من "نِسَائِها الدُّنْيَوِيَّات".
فقوله تعالى: ﴿ وَحُورٌ عِينٌ ﴾، هو كأَمْثالِه من التَّوصِيفاتِ الأُخْرَى الوارِدَةِ في أُولئك النِّسْوة؛ مِنْ مِثْلِ قولِه سبحانه: ﴿ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ﴾؛ وقولِه عز وجل: ﴿ عُرُبًا أَتْرَابًا ﴾؛ وقولِه: ﴿ وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ﴾؛ وقولِه: ﴿ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ﴾ فجَمِيعُ هذا تَوصِيفٌ، لا تَصْنِيف؛ أي: نُعوتٌ وصِفاتٌ، لا أنواعٌ ومُسمَّيات. يقول ابنُ عاشور رحمه الله في تفسيره: (﴿ وَحُورٌ ﴾: صِفَةٌ لِنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ، وَهُنَّ النِّسَاءُ اللَّاتِي كُنَّ أَزْوَاجًا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا - إِنْ كُنَّ مُؤْمِنَاتٍ، وَمَنْ يَخْلُقُهُنَّ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ لِنِعْمَةِ الْجَنَّةِ). فَفَسَّرَ – رحمه الله – لَفْظَةَ "حُور" بأنها: وَصْفٌ لنساء الجنة مِنْ بَنَاتِ الدَّارَين جميعًا، مُقَدِّمًا "النِّساءَ الدُّنْيَوِيَّات".
والشَّاهِدُ هُنا: أنَّ "الحُور العِين" المَوْصُوفات في القرآنِ والسُّنة هُنَّ نِساءُ الجنةِ جميعًا؛ من "الدُّنْيَوِيَّات" ومن "الأُخْرَوِيَّات". فلو أنَّ "أَمَةَ اللهِ الدُّنيوية" – حِينَ تَمُرُّ على تلك الصِّفات في الكتاب والسُّنة – تَسْتَحْضِرُ أنها المقصودة بذلك؛ ما خَطَرَ بِخَلَدِها – قَطُّ - أنْ تَسْأَلَ: وماذا لِي أنا في الجنَّة؟!
فالأَولَى لها: أنْ تَنْشَغِلَ بإصلاح سِيرَتِها وسَرِيرَتِها، وأنْ تدعو اللهَ تعالى أنْ يَجْعَلَها من الحُور العِين؛ هي وَمَنْ تُحِبُّ من أخَواتِها المؤمنات، كما قيل لأَبِي نُحَيْلَةَ الصحابيِّ رضي الله عنه – وقد رُمِيَ بِسَهْمٍ: ادْعُ اللَّهَ؛ فَدَعَا، وكان مِمَّا قال: «اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الْمُقَرَّبِينَ؛ وَاجْعَلْ أُمِّي مِنَ الْحُورِ الْعِينِ» صحيح – رواه البخاري في "الأدب المفرد"، والطبراني في "الكبير". فانظر إلى فِقْهِهِ - رضي اللهُ عنه وأرْضَاه.
وعلى هذا؛ فإنَّ "المرأةَ الدُّنيوية" إذا أُدْخِلَت الجنةَ؛ أصْبَحَتْ زَوْجَةً مُطَهَّرةً، حَوْراءَ عَيْناءَ، كَاعِبًا عَرُوبًا، خَيِّرَةً حَسَنَة، لا تَرَى أحْسَنَ من زوجها، ولا يرى هو أحْسَنَ منها، وعلى هذا دِينُ المسلِمين من الأَوَّلين والآخِرين. عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعِنْدِي عَجُوزٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! ادْعُ اللهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْجَنَّةَ لَا تَدْخُلُهَا عَجُوزٌ». فَوَلَّتْ تَبْكِي، فَقَالَ: «أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا وَهِيَ عَجُوزٌ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿ إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا ﴾ [الواقعة: 35-37]» صحيح – رواه الترمذي في "الشمائل المحمدية".
ومعنى الآيات: خَلَقْنَا نِساءَ الدُّنيا - من الثَّيِّباتِ والأَبْكَار - خَلْقًا جَدِيدًا، سِوَى الخَلْقِ الذي كان في الدنيا. فأَعَدْناهُنَّ إلى حال الشَّبابِ، وكَمَالِ الجَمَال. خَلْقًا يُناسِبُ البَقَاءَ والدَّوامَ، وذلك يستلزِمُ كَمَالَ الخَلْقِ، وانْتِفَاءَ سِماتِ النَّقْص؛ إذْ كانت الواحِدَةُ مِنْهُنَّ - في الدنيا - عَجُوزًا شَمْطَاءَ، عَمْشَاءَ رَمْصَاءَ، فأنْشَأَها ربُّها إِنْشَاءً جَدِيدًا، بِكْرًا تَتَغَنَّجُ وتَتَعَشَّقُ، عَرْباءَ تَتَوَدَّدُ لِزَوجِها وتَتَحَبَّب.
وهذا يَدُلُّ: على مُشَارَكَتِهِنَّ للحُورِ العِينِ في هذه الصِّفات المذكورة؛ فلا يُتَوَهَّم انفرادُ الحُورِ العِينِ عنهُنَّ بما ذُكِرَ مِنَ الصِّفات، بل هُنَّ أحَقُّ بِهَا مِنْهُنَّ.
و"الحُورُ الدُّنْيَوِيَّات" أجَمَلُ من "الحُورِ العِين": يقول ابنُ النَّحاس رحمه الله - في وَصْفِ مَنزِلَةِ "المرأةِ الدنيوية" في الجنة: (فتَجِدُها في الآخِرَةِ أجْمَلَ من الحُورِ العِين بما لا يَعْلَمُه إلاَّ رَبُّ العالمين، قد ذَهَبَ ما تَكْرَه منها، وزال ما يَسُوءُ عنها، وحَسُنَ خُلُقُها، وكَمُلَ خَلْقُها، كَحْلاءَ نَجْلاءَ، حَسْناءَ زَهْراءَ، بِكْرًا عَذْراءَ، قد طَهُرَتْ من الحَيْضِ والنِّفاس، وكَرُمَتْ منها الأنواع والأجناس، وزال اعْوِجاجُها، وزاد ابْتِهاجُها، وعَظُمَتْ أنوارُها، وجَلَّ مِقْدارُها، وفَضُلَتْ على الحُورِ العِين في الجَمَالِ، والأنوارِ، كَفَضْلِهِنَّ عليها في هذه الدار). ويُقالُ أيضًا: فإنَّ "الحُورَ الأُخْرَوِيَّات" مُجَرَّدُ جَزَاءٍ، وأمَّا "الدُّنْيَوِيَّات" فَمِنْ أهلِ الجزاءِ أنفسِهم، أولئك خُلِقْنَ للجنة، وهؤلاء خُلِقَتِ الجنةُ لَهُنَّ.
و"النِّساءُ الدُّنْيَوِيَّات" سَيِّداتُ نِساءِ أهْلِ الجنَّة: عن فاطِمَةَ رضي الله عنها؛ أنَّ النبيَّ أَسَرَّ إِلَيهَا بقوله: «أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» رواه البخاري. وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ» صحيح – رواه أحمد. وفي روايةٍ بلفظ: «سَيِّدَاتُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَرْبَعٌ» صحيح – رواه الحاكم، والطبراني.
وكِلاَ الحَدِيثين ظاهِرُ الدَّلالة على أنَّ جِنْسَ "الدُّنْيَوِيَّات" أفْضَلُ مِنْ جِنْسِ "الأُخْرَوِيَّات" في الجنة؛ لِتَصْرِيحِهِما بأنَّ سَيِّدات نسائِها مِنْهُنَّ، لا مِنْ أولئك. فبهذا اسْتَحْقَقْنَ تلك الأفضَلِيَّةَ على نساء الجنة.
ويُفْهَمُ منه: أنَّ مَنْ دُونَهُنَّ من المؤمنات على مَنازِلَ في الفَضْلِ أيضًا – قُرْبًا أو بُعْدًا – من هؤلاء السَّيِّدات الكامِلات - رَضِيَ اللهُ عنهنَّ -؛ حتى تكون أدنى مَنازِلِهِنَّ فوقَ أعلى مَنْزِلَةٍ من مَنازِلِ الحُور، وهذا يُؤَيِّدُ ما علَّلَتْ به الأخبارُ تَفْضيلَ "الدُّنْيَوِيَّات" على "الأُخْرَوِيَّات"؛ مِنْ كَونِ "الأُخْرَوِيَّات" جزاءً فَحَسْب، وأمَّا "الدُّنْيَوِيَّات" فبالإضافة إلى كَونِهِنَّ كذلك، فَهُنَّ من أهلِ الجَزَاءِ أيضًا؛ فَلاَ غَرْوَ إذنْ في أنْ تكونَ لَهُنَّ الأفْضَلِيَّةُ والسِّيادَةُ.
الخطبة الثانية
الحمد لله... أيها المسلمون.. و"النِّساءُ الدُّنْيَوِيَّات" أفْضَلُ في الحُسْنِ من "الأُخْرَوِيَّات": فقد ثَبَتَ - في نُصوصِ الكتابِ والسُّنة - تَفاوُتُ المؤمنين والمؤمنات في مَنازِلِ الآخِرة، وتفاضُلُهُم في درجات الجنة؛ وذلك مُقْتَضٍ تفاضُلَهم في الأقْدَار، وفي النَّعِيمِ والمَحاسِن.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ مِنَ الأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ؛ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! تِلْكَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ لاَ يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ. قَالَ: «بَلَى؛ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ، وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ» رواه البخاري ومسلم. قال ابنُ حَجَرٍ رحمه الله: (وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ تَتَفَاوَتُ مَنَازِلُهُمْ بِحَسَبِ دَرَجَاتِهِمْ فِي الْفَضْلِ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَا لَيَرَاهُمْ مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُمْ كَالنُّجُومِ).
والآياتُ والأحاديثُ في تَفَاضُلِ أهلِ الجنةِ كثيرةٌ مَشْهورةٌ، وذلك مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ ما يَجْرِي التَّفاضُلُ فيه، من كَرامَةِ الآخِرَةِ جُمْلَةً وتَفْصيلًا؛ حتى إنهم لَيَتَفاضَلُونَ في صُوَرِهم ومَحاسِنِهم، رجالهم ونسائهم.
ومِمَّا وَرَدَ في ذلك: قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالَّذِينَ عَلَى آثَارِهِمْ كَأَحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً، ثُمَّ هُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنَازِلُ» رواه البخاري ومسلم. قال القرطبي رحمه الله: (الصُّورة بمعنى الصِّفَة، يعني: أنهم في جَمالِهم وإشراقِ وُجوهِهِم على صِفَةِ القَمَرِ ليلةَ تمامِه وكمالِه، وهي ليلة أربعة عشر).
والخلاصة: أنَّ النِّساءَ الدُّنْيَوِيَّات لا يَكُنَّ في الجنة على درجةٍ واحدةٍ من الحُسْنِ، بل تتفاوت محاسِنُهنَّ وجَمالِيَّاتُهنَّ بتفاوتِ إيمانِهنَّ وأعمالِهنَّ الصَّالحة في الدنيا؛ فلا تتوانَى العاقلاتُ إذًا.
وأمَّا حديث: وَأَبْدِلْهُ «زَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ» رواه مسلم. فَأَوْهَمَ ظاهِرُه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا للمَيِّتِ بأنْ يُبْدِلَه اللهُ تعالى في حياةِ الآخِرة زوجةً أُخرى تكون خيرًا من زَوجَتِه الدُّنيوِيَّة التي فارَقَها وارْتَحَلَ عنها، فدلَّ على أنَّ "الحُورَ العِين" خيرٌ من بنات الدنيا! وليس كذلك؛ إذْ يَلْزَمُ - على تفسير الحديثِ بهذا المعنى - الدُّعاءُ بِقَطْعِ صِلَةِ الزَّوجية بين المُتَوَفَّى، وامرأتِه التي فارَقَها! وهذا اللاَّزِمُ يُصادِمُه المُتَقَرِّرُ في نُصوصِ الشريعة؛ من كَوْنِ الأزواجِ في الدنيا، أزواجًا في الجنَّةِ – أيضًا – إنْ كانوا مِنْ أهلِها.
ولذا قال ابنُ حجرٍ الهَيْتَمِيُّ رحمه الله: (وَظَاهِرٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِبْدَالِ فِي الْأَهْلِ وَالزَّوْجَةِ، إبْدَالُ الْأَوْصَافِ لَا الذَّوَاتِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾ [الطور: 21]). وقال ابنُ عُثيمين رحمه الله: (خَيْرِيَّةُ الزَّوجِ هنا؛ ليست خَيْرِيَّةً في العَين، بل خَيْرِيَّةٌ في الوَصْفِ، وهذا يَتَضَمَّنُ أنْ يَجْمَعَ اللهُ بينهما في الجنَّة).
فلا تتبدَّل أعيانُهم إذًا؛ لَكِنْ تَتَبَدَّلُ الأوصافُ فقط، وبهذه الأوصافِ الكَمَالِيَّةِ الجَدِيدةِ يكونون لِبَعْضٍ في الجنة خيرًا منهم لِبَعْضٍ في الدنيا؛ بأنْ تَعُودَ العجوزُ شابَّةً، وسَيِّئَةُ الخُلُق حَسَنَةَ الخُلُقِ، وغيرُ الجَمِيلةِ جَمِيلةً
فهناك مسألةٌ شَغَلَتْ كثيرًا من الناس، وكَثُرَتْ حولها الأسئلة، وخُلاصَةُ هذه السُّؤَالَات: أنَّ نصوصَ الكتابِ والسُّنةِ قد فصَّلَتْ القولَ في صفات "الحُور العِين" وأشادتْ بِمَفاتِنِهِنَّ ومَحاسِنِهِنَّ، وحُلَّتِهن وزِينَتِهِنَّ؛ فأينَ ذِكْرُ "النِّساءِ الدُّنْيَوِيات" من ذلك، وعلى أيِّ صُورَةٍ سَيَكُنَّ؟!
وسبب هذه السُّؤَالَات: أنَّ كثيرًا من الناس يَظُنُّ: أنَّ "الحُور العِين" قَسِيمٌ مُقابِلٌ لنساء الجنة من "الدُّنْيَوِيَّات"، وأنَّ جميعَ ما وردتْ به النصوصُ من التَّوْصِيفات، هو في "الحُور العِين"، لا في "النِّساء الدُّنْيَوِيَّات".
فالبعض يتوَهَّم: أنَّ النُّصوصَ أورَدَتْ وَصْفَ "الحُورِ العِين" على سبيل التَّصْنِيف، كَقَسِيمٍ مُقابِلٍ لنساء الجنة من أهل الدنيا، وليس الأمْرُ كذلك؛ بل "الحُور العِين" مُجَرَّد تَوصِيفٍ لنساء الجنة، يَشْتَرِكُ فيه مَنْ هو فيها الآنَ من "نِسَائِها الأُخْرَوِيَّات"، ومَنْ سَيَدْخُلُها لاَحِقًا من "نِسَائِها الدُّنْيَوِيَّات".
فقوله تعالى: ﴿ وَحُورٌ عِينٌ ﴾، هو كأَمْثالِه من التَّوصِيفاتِ الأُخْرَى الوارِدَةِ في أُولئك النِّسْوة؛ مِنْ مِثْلِ قولِه سبحانه: ﴿ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ﴾؛ وقولِه عز وجل: ﴿ عُرُبًا أَتْرَابًا ﴾؛ وقولِه: ﴿ وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ﴾؛ وقولِه: ﴿ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ﴾ فجَمِيعُ هذا تَوصِيفٌ، لا تَصْنِيف؛ أي: نُعوتٌ وصِفاتٌ، لا أنواعٌ ومُسمَّيات. يقول ابنُ عاشور رحمه الله في تفسيره: (﴿ وَحُورٌ ﴾: صِفَةٌ لِنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ، وَهُنَّ النِّسَاءُ اللَّاتِي كُنَّ أَزْوَاجًا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا - إِنْ كُنَّ مُؤْمِنَاتٍ، وَمَنْ يَخْلُقُهُنَّ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ لِنِعْمَةِ الْجَنَّةِ). فَفَسَّرَ – رحمه الله – لَفْظَةَ "حُور" بأنها: وَصْفٌ لنساء الجنة مِنْ بَنَاتِ الدَّارَين جميعًا، مُقَدِّمًا "النِّساءَ الدُّنْيَوِيَّات".
والشَّاهِدُ هُنا: أنَّ "الحُور العِين" المَوْصُوفات في القرآنِ والسُّنة هُنَّ نِساءُ الجنةِ جميعًا؛ من "الدُّنْيَوِيَّات" ومن "الأُخْرَوِيَّات". فلو أنَّ "أَمَةَ اللهِ الدُّنيوية" – حِينَ تَمُرُّ على تلك الصِّفات في الكتاب والسُّنة – تَسْتَحْضِرُ أنها المقصودة بذلك؛ ما خَطَرَ بِخَلَدِها – قَطُّ - أنْ تَسْأَلَ: وماذا لِي أنا في الجنَّة؟!
فالأَولَى لها: أنْ تَنْشَغِلَ بإصلاح سِيرَتِها وسَرِيرَتِها، وأنْ تدعو اللهَ تعالى أنْ يَجْعَلَها من الحُور العِين؛ هي وَمَنْ تُحِبُّ من أخَواتِها المؤمنات، كما قيل لأَبِي نُحَيْلَةَ الصحابيِّ رضي الله عنه – وقد رُمِيَ بِسَهْمٍ: ادْعُ اللَّهَ؛ فَدَعَا، وكان مِمَّا قال: «اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الْمُقَرَّبِينَ؛ وَاجْعَلْ أُمِّي مِنَ الْحُورِ الْعِينِ» صحيح – رواه البخاري في "الأدب المفرد"، والطبراني في "الكبير". فانظر إلى فِقْهِهِ - رضي اللهُ عنه وأرْضَاه.
وعلى هذا؛ فإنَّ "المرأةَ الدُّنيوية" إذا أُدْخِلَت الجنةَ؛ أصْبَحَتْ زَوْجَةً مُطَهَّرةً، حَوْراءَ عَيْناءَ، كَاعِبًا عَرُوبًا، خَيِّرَةً حَسَنَة، لا تَرَى أحْسَنَ من زوجها، ولا يرى هو أحْسَنَ منها، وعلى هذا دِينُ المسلِمين من الأَوَّلين والآخِرين. عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعِنْدِي عَجُوزٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! ادْعُ اللهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْجَنَّةَ لَا تَدْخُلُهَا عَجُوزٌ». فَوَلَّتْ تَبْكِي، فَقَالَ: «أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا وَهِيَ عَجُوزٌ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿ إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا ﴾ [الواقعة: 35-37]» صحيح – رواه الترمذي في "الشمائل المحمدية".
ومعنى الآيات: خَلَقْنَا نِساءَ الدُّنيا - من الثَّيِّباتِ والأَبْكَار - خَلْقًا جَدِيدًا، سِوَى الخَلْقِ الذي كان في الدنيا. فأَعَدْناهُنَّ إلى حال الشَّبابِ، وكَمَالِ الجَمَال. خَلْقًا يُناسِبُ البَقَاءَ والدَّوامَ، وذلك يستلزِمُ كَمَالَ الخَلْقِ، وانْتِفَاءَ سِماتِ النَّقْص؛ إذْ كانت الواحِدَةُ مِنْهُنَّ - في الدنيا - عَجُوزًا شَمْطَاءَ، عَمْشَاءَ رَمْصَاءَ، فأنْشَأَها ربُّها إِنْشَاءً جَدِيدًا، بِكْرًا تَتَغَنَّجُ وتَتَعَشَّقُ، عَرْباءَ تَتَوَدَّدُ لِزَوجِها وتَتَحَبَّب.
وهذا يَدُلُّ: على مُشَارَكَتِهِنَّ للحُورِ العِينِ في هذه الصِّفات المذكورة؛ فلا يُتَوَهَّم انفرادُ الحُورِ العِينِ عنهُنَّ بما ذُكِرَ مِنَ الصِّفات، بل هُنَّ أحَقُّ بِهَا مِنْهُنَّ.
و"الحُورُ الدُّنْيَوِيَّات" أجَمَلُ من "الحُورِ العِين": يقول ابنُ النَّحاس رحمه الله - في وَصْفِ مَنزِلَةِ "المرأةِ الدنيوية" في الجنة: (فتَجِدُها في الآخِرَةِ أجْمَلَ من الحُورِ العِين بما لا يَعْلَمُه إلاَّ رَبُّ العالمين، قد ذَهَبَ ما تَكْرَه منها، وزال ما يَسُوءُ عنها، وحَسُنَ خُلُقُها، وكَمُلَ خَلْقُها، كَحْلاءَ نَجْلاءَ، حَسْناءَ زَهْراءَ، بِكْرًا عَذْراءَ، قد طَهُرَتْ من الحَيْضِ والنِّفاس، وكَرُمَتْ منها الأنواع والأجناس، وزال اعْوِجاجُها، وزاد ابْتِهاجُها، وعَظُمَتْ أنوارُها، وجَلَّ مِقْدارُها، وفَضُلَتْ على الحُورِ العِين في الجَمَالِ، والأنوارِ، كَفَضْلِهِنَّ عليها في هذه الدار). ويُقالُ أيضًا: فإنَّ "الحُورَ الأُخْرَوِيَّات" مُجَرَّدُ جَزَاءٍ، وأمَّا "الدُّنْيَوِيَّات" فَمِنْ أهلِ الجزاءِ أنفسِهم، أولئك خُلِقْنَ للجنة، وهؤلاء خُلِقَتِ الجنةُ لَهُنَّ.
و"النِّساءُ الدُّنْيَوِيَّات" سَيِّداتُ نِساءِ أهْلِ الجنَّة: عن فاطِمَةَ رضي الله عنها؛ أنَّ النبيَّ أَسَرَّ إِلَيهَا بقوله: «أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» رواه البخاري. وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ» صحيح – رواه أحمد. وفي روايةٍ بلفظ: «سَيِّدَاتُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَرْبَعٌ» صحيح – رواه الحاكم، والطبراني.
وكِلاَ الحَدِيثين ظاهِرُ الدَّلالة على أنَّ جِنْسَ "الدُّنْيَوِيَّات" أفْضَلُ مِنْ جِنْسِ "الأُخْرَوِيَّات" في الجنة؛ لِتَصْرِيحِهِما بأنَّ سَيِّدات نسائِها مِنْهُنَّ، لا مِنْ أولئك. فبهذا اسْتَحْقَقْنَ تلك الأفضَلِيَّةَ على نساء الجنة.
ويُفْهَمُ منه: أنَّ مَنْ دُونَهُنَّ من المؤمنات على مَنازِلَ في الفَضْلِ أيضًا – قُرْبًا أو بُعْدًا – من هؤلاء السَّيِّدات الكامِلات - رَضِيَ اللهُ عنهنَّ -؛ حتى تكون أدنى مَنازِلِهِنَّ فوقَ أعلى مَنْزِلَةٍ من مَنازِلِ الحُور، وهذا يُؤَيِّدُ ما علَّلَتْ به الأخبارُ تَفْضيلَ "الدُّنْيَوِيَّات" على "الأُخْرَوِيَّات"؛ مِنْ كَونِ "الأُخْرَوِيَّات" جزاءً فَحَسْب، وأمَّا "الدُّنْيَوِيَّات" فبالإضافة إلى كَونِهِنَّ كذلك، فَهُنَّ من أهلِ الجَزَاءِ أيضًا؛ فَلاَ غَرْوَ إذنْ في أنْ تكونَ لَهُنَّ الأفْضَلِيَّةُ والسِّيادَةُ.
الخطبة الثانية
الحمد لله... أيها المسلمون.. و"النِّساءُ الدُّنْيَوِيَّات" أفْضَلُ في الحُسْنِ من "الأُخْرَوِيَّات": فقد ثَبَتَ - في نُصوصِ الكتابِ والسُّنة - تَفاوُتُ المؤمنين والمؤمنات في مَنازِلِ الآخِرة، وتفاضُلُهُم في درجات الجنة؛ وذلك مُقْتَضٍ تفاضُلَهم في الأقْدَار، وفي النَّعِيمِ والمَحاسِن.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ مِنَ الأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ؛ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! تِلْكَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ لاَ يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ. قَالَ: «بَلَى؛ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ، وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ» رواه البخاري ومسلم. قال ابنُ حَجَرٍ رحمه الله: (وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ تَتَفَاوَتُ مَنَازِلُهُمْ بِحَسَبِ دَرَجَاتِهِمْ فِي الْفَضْلِ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَا لَيَرَاهُمْ مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُمْ كَالنُّجُومِ).
والآياتُ والأحاديثُ في تَفَاضُلِ أهلِ الجنةِ كثيرةٌ مَشْهورةٌ، وذلك مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ ما يَجْرِي التَّفاضُلُ فيه، من كَرامَةِ الآخِرَةِ جُمْلَةً وتَفْصيلًا؛ حتى إنهم لَيَتَفاضَلُونَ في صُوَرِهم ومَحاسِنِهم، رجالهم ونسائهم.
ومِمَّا وَرَدَ في ذلك: قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالَّذِينَ عَلَى آثَارِهِمْ كَأَحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً، ثُمَّ هُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنَازِلُ» رواه البخاري ومسلم. قال القرطبي رحمه الله: (الصُّورة بمعنى الصِّفَة، يعني: أنهم في جَمالِهم وإشراقِ وُجوهِهِم على صِفَةِ القَمَرِ ليلةَ تمامِه وكمالِه، وهي ليلة أربعة عشر).
والخلاصة: أنَّ النِّساءَ الدُّنْيَوِيَّات لا يَكُنَّ في الجنة على درجةٍ واحدةٍ من الحُسْنِ، بل تتفاوت محاسِنُهنَّ وجَمالِيَّاتُهنَّ بتفاوتِ إيمانِهنَّ وأعمالِهنَّ الصَّالحة في الدنيا؛ فلا تتوانَى العاقلاتُ إذًا.
وأمَّا حديث: وَأَبْدِلْهُ «زَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ» رواه مسلم. فَأَوْهَمَ ظاهِرُه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا للمَيِّتِ بأنْ يُبْدِلَه اللهُ تعالى في حياةِ الآخِرة زوجةً أُخرى تكون خيرًا من زَوجَتِه الدُّنيوِيَّة التي فارَقَها وارْتَحَلَ عنها، فدلَّ على أنَّ "الحُورَ العِين" خيرٌ من بنات الدنيا! وليس كذلك؛ إذْ يَلْزَمُ - على تفسير الحديثِ بهذا المعنى - الدُّعاءُ بِقَطْعِ صِلَةِ الزَّوجية بين المُتَوَفَّى، وامرأتِه التي فارَقَها! وهذا اللاَّزِمُ يُصادِمُه المُتَقَرِّرُ في نُصوصِ الشريعة؛ من كَوْنِ الأزواجِ في الدنيا، أزواجًا في الجنَّةِ – أيضًا – إنْ كانوا مِنْ أهلِها.
ولذا قال ابنُ حجرٍ الهَيْتَمِيُّ رحمه الله: (وَظَاهِرٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِبْدَالِ فِي الْأَهْلِ وَالزَّوْجَةِ، إبْدَالُ الْأَوْصَافِ لَا الذَّوَاتِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾ [الطور: 21]). وقال ابنُ عُثيمين رحمه الله: (خَيْرِيَّةُ الزَّوجِ هنا؛ ليست خَيْرِيَّةً في العَين، بل خَيْرِيَّةٌ في الوَصْفِ، وهذا يَتَضَمَّنُ أنْ يَجْمَعَ اللهُ بينهما في الجنَّة).
فلا تتبدَّل أعيانُهم إذًا؛ لَكِنْ تَتَبَدَّلُ الأوصافُ فقط، وبهذه الأوصافِ الكَمَالِيَّةِ الجَدِيدةِ يكونون لِبَعْضٍ في الجنة خيرًا منهم لِبَعْضٍ في الدنيا؛ بأنْ تَعُودَ العجوزُ شابَّةً، وسَيِّئَةُ الخُلُق حَسَنَةَ الخُلُقِ، وغيرُ الجَمِيلةِ جَمِيلةً