حكاية ناي ♔
01-17-2023, 12:46 PM
إن الهجرة سماء لا تطاولها سماء، البدر الساطع فيها هو حبيب الله صلى الله عليه وسلم الذي نصر ربَّه فنصَره ربُّه: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ﴾ [التوبة: 40].
نصر محمد صلى الله عليه وسلم ربه بجهاده في الله حق جهاده، وبتوكُّله المطلق على الله عز وجل وحده، وبثباته الذي جعله يقول لصاحبه وهما في الغار: ﴿ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40]، هذا البدر الساطع في سماء الهجرة حوله نجوم يحيطون به، يعزرونه ويوقرونه، ويقدمونه على أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وسيظل كل واحد منهم نجمًا يُهتدى به أبناء الأمة على مر التاريخ وتعاقب الأجيال.
أبوبكر الصديق:
هو النجم الأول بلا منازع في سماء الهجرة، أليس هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة؟
لقد كان أثناء الطريق يسير تارة أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتارة خلفه خوفًا عليه؛ قَالَ البَيهَقِيُّ: إن ابن سيرين قال: ذَكَرَ رِجَالٌ عَلَى عَهْدِ عُمْرَ، فَكَأَنَّهُمْ فَضَّلُوا عُمَرَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ، فقال: والله لليلة مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ آلِ عُمَرَ، وَلَيَوْمٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ آلِ عُمَرَ، لَقَدْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ انْطَلَقَ إِلَى الْغَارِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَجَعَلَ يَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ وَسَاعَةً خَلْفَهُ، حَتَّى فَطِنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مالك تمشي ساعة خلفي وساعة بين يدي؟»، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَذْكُرُ الطَّلَبَ فَأَمْشِي خَلْفَكَ، ثُمَّ أَذْكُرُ الرَّصَدَ فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْكَ، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، لَوْ كَانَ شَيْءٌ لَأَحْبَبْتَ أَنْ يَكُونَ بِكَ دُونِي؟»، قَالَ: نَعَمْ والذي بعثك بالحق، فلما انتهيا إِلَى الْغَارِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَتَّى أَسْتَبْرِئَ لَكَ الْغَارَ، فَدَخَلَ فاستبرأه، حتى إذا كان ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَبْرِئِ الْجحَرَةَ، فَقَالَ: مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَتَّى أَسْتَبْرِئَ، فَدَخَلَ فَاسْتَبْرَأَ ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَنَزَلَ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتِلْكَ اللَّيْلَةُ خَيْرٌ مِنْ آلِ عُمَرَ[1].
إن صدق أبي بكر في حبه للنبي صلى الله عليه وسلم، جعله يطير فرحًا حين يخبره بأن الله أذن له في الهجرة، فيقول له: الصحبة يا رسول الله؟! قال: "الصحبة"، تقول عائشة رضي الله عنها: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذ يبكي!
هذا الصدق الذي جعله يأتي بماله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجهز راحلتين لسفرهما، ويجند ولده وابنته وعامله من أجل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستحق عن جدارة أن يلقَّب بالصديق رضي الله عنها.
علي بن أبي طالب:
أَمَا النجم الثاني، فهو عَلِيٌّ رضي الله عنها، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَهُ بِخُرُوجِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ بعدَه بِمَكَّةَ، حَتَّى يؤدِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الودائعَ التِي كَانَتْ عندَه لِلنَّاسِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِمَكَّةَ أَحَدٌ عندَه شَيْءٌ يُخْشَى عَلَيْهِ إلَّا وَضَعَهُ عِنْدَهُ، لِمَا يُعْلَمُ مِنْ صِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ صلى الله عليه وسلم؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ ﴾ [الأنفال: 30]، قَالَ: "تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَصْبَحَ، فَأَثْبِتُوهُ بِالْوَثَاقِ، يُرِيدُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ اقْتُلُوهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ أَخْرِجُوهُ، فَأَطْلَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ، فَبَاتَ عَلِيٌّ عَلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ، وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا، يَحْسَبُونَهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ثَارُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَوْا عَلِيًّا، رَدَّ اللهُ مَكْرَهُمْ، فَقَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكَ هَذَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي[2].
حقًّا لم يكن ليقوم بهذه المهمة إلا عليٌّ شجاع الشجعان، وصدق من قال: لا فتى إلا علي.
عبدالله بن أبي بكر:
أما النجم الآخر في سماء الهجرة، فكان عبدالله بن أبي بكر الذى قام بدور مخابراتي ذكي في سرية وإتقان.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَكَانَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يَكُونُ فِي قُرَيْشٍ نَهَارَهُ مَعَهُمْ يَسْمَعُ مَا يَأْتَمِرُونَ بِهِ، وَمَا يَقُولُونَ فِي شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ يَأْتِيهِمَا إِذَا أَمْسَى فَيُخْبِرُهُمَا الْخَبَرَ[3].
وقد وُصِف عبدالله بأنه ثَقِفٌ لَقِنٌ، والثقف هو الخَفِيف الحاذِق، سريعُ الفَهْم لِما يُرمى إِلَيْهِ مِنْ كَلَامٍ بِاللِّسَانِ[4]، واللقن: أَي الفَهِمٌ حسَنُ التَّلْقِين لِمَا يسْمَعه[5]، والتي وصفته بذلك أخته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ قالت عائشة: فَمَكَثَا فِيهِ - أي في غار ثور - ثَلَاثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ، فَيَدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كبائت، لا يسمع أمرًا يكادان بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ.
أسماء بنت أبي بكر:
أما أسماء رضي الله عنها وهي نجمة ساطعة من نجوم الهجرة، فقد قامت بدورٍ لا يقوى عليه كثير من الرجال، صبر وشجاعة وذكاء وحُسن تصرُّف في صدقٍ وحُب لله ورسوله.
ذات النطاقين:
لقد استخدمت أسماء حُسن تصرُّفها، فشقت نطاقها نصفين، فجعلت نصفه على وسطها، وجعلت الزاد الذي تحمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبيها في النصف الآخر، فسُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ.
أما صبرها فقد صبرت على جهل أبي جهل:
حيث قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنها، أَتَانَا نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، فَوَقَفُوا عَلَى بَابِ أَبِي بَكْرٍ، فَخَرَجْتُ إلَيْهِمْ، فَقَالُوا: أَيْنَ أَبُوكَ يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: لَا أَدْرِي وَاَللَّهِ أَيْنَ أَبِي؟ قَالَتْ: فَرَفَعَ أَبُو جَهْلٍ يَدَهُ، وَكَانَ فَاحِشًا خَبِيثًا، فَلَطَمَ خدي لطمةً طرح منها قُرطي، تحملت وصبرت من أجل دين الله ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما ذكاؤها:
فيمثله هذا الموقف لها مع جدها أبي قحافة؛ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مَعَهُ، احْتَمَلَ أَبُو بَكْرٍ مَالَهُ كلَّه، وَمَعَهُ خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ سِتَّةُ آلَافٍ، فَانْطَلَقَ بِهَا مَعَهُ، قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيْنَا جَدي أَبُو قُحَافَةَ، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قَدْ فَجَعَكُمْ بِمَالِهِ مَعَ نَفْسِهِ، قَالَتْ: قُلْتُ: كَلَّا يَا أَبَتِ، إنَّهُ قَدْ تَرَكَ لَنَا خَيْرًا كَثِيرًا، قَالَتْ: فَأَخَذْتُ أَحْجَارًا فَوَضَعْتهَا فِي كُوَّةٍ فِي الْبَيْتِ الَّذِي كَانَ أَبِي يَضَعُ مَالَهُ فِيهَا، ثُمَّ وَضَعْتُ عَلَيْهَا ثَوْبًا، ثُمَّ أَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ، ضَعْ يَدَكَ عَلَى هَذَا الْمَالِ، قَالَتْ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ، إذَا كَانَ تَرَكَ لَكُمْ هَذَا فَقَدْ أَحْسَنَ، وَفِي هَذَا بَلَاغٌ لَكُمْ، تقول أسماء: لا وَاَللَّهِ مَا تَرَكَ لَنَا شَيْئًا وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أن أُسكن الشيخ بذلك[6].
عامر بن فهيرة:
هذا نجم آخر من نجوم الهجرة، قام بدوره في إتقان، وهكذا يعلمنا الإسلام من خلال دور عامر بن فهيرة أن التفاصيل مهما كانت صغيرة لا بد من إتقانها؛ حتى لا ندع ثغرة يدخل منها العدو؛ يقول ابن كثير: وكان عامر بن فهيرة يَرْعَى فِي رُعْيَانِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَإِذَا أَمْسَى أَرَاحَ عَلَيْهِمَا غَنَمَ أَبِي بَكْرٍ فَاحْتَلَبَا وَذَبَحَا، فَإِذَا غَدَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ عِنْدِهِمَا إِلَى مَكَّةَ، اتَّبَعَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ أَثَرَهُ بِالْغَنَمِ يُعْفِّي عَلَيْهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ[7].
عمر بن الخطاب:
أما عمر فقد كان نجمًا فريدًا من نجوم الهجرة؛ حيث كانت هجرته عجبًا، فقد هاجر علنًا، وفي تحدٍّ كبير للمشركين؛ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنها قال: ما علمت أحدًا هاجر إلا مختفيًا إلا عمرَ بن الخطاب، فإنه لما همَّ بالهجرة تقلَّد سيفه، وتنكَّب قوسه، وانتضى في يده أسهُمًا، وأتى الكعبة - وأشراف قريش بفِنائها - فطاف سبعًا، ثم صلَّى ركعتين عند المقام، ثم أتى حِلَقهم واحدة واحدة، فقال: شاهت الوجوه، من أراد أن تثكله أمه، ويُؤتَم ولده، وتَرْمُل زوجته؛ فليَلْقني وراء هذا الوادي، فما تبعه منهم أحد[8].
وكأن عمر بن الخطاب أراد أن يعوِّض إعلانه وجهره بالعداء للدعوة قبل إسلامه، فأحب أن يقتص من نفسه، فعرَّضها للأذى في سبيل الله، وجهر بهجرته عيانًا بيانًا في إقدام ما له نظير.
صهيب بن سنان:
وهذا نجم من طراز آخر، يعلمنا أن ما عند الله خير وأبقى من أي عرض دنيوي زائل؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 207]، نَزَلَتْ فِي صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ الرُّومِيِّ، يقول صهيب: لما أردتُ الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قالت لي قريش: يا صهيبُ، قَدمتَ إلينا ولا مَالَ لك، وتخرج أنت ومالك، والله لا يكون ذلك أبدًا، فقلت لهم: أرأيتم إن دَفَعْتُ إليكم مالي تُخَلُّون عني؟ قالوا: نعم، فدفعتُ إليهم مالي، فخلَّوا عني، فخرجت حتى قدمتُ المدينة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "رَبح صهيبُ، ربح صهيب" مرتين[9].
أم سلمة:
أما أم سلمة، فهي نجمتان في نجمة واحدة، إن قصة هجرتها ومعها طفلها الرضيع كانت ضربًا من العجب، وطرازًا فريدًا في الصبر والتضحية، لقد خرجت مهاجرة هي وزوجها وطفلها الرضيع، حتى إذا ما وصلوا إلى ديار قومها بني المغيرة على مشارف مكة، قاموا إلى زوجها وهدَّدوه ووبَّخوه، ونزعوا خطام البعير من يده، وأخذوا منه أم سلمة عَنوةً، وغضب عند ذلك بنو عبدالأسد رهط أبي سلمة، فأسرعوا إلى قومها وقالوا: لن نترك الغلام، وتنازع الحيَّان على الغلام، كُلٌّ يجذبه من ناحيته، حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبدالأسد، فأصبحت أم سلمة عند قومها، وطفلها عند قوم أبي سلمة، وزوجها انطلق وحده إلى المدينة، ففُرِّق بينها وبين ابنها وبين زوجها، تقول: فكنت أخرج كل غداة، فأجلس في الأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريبًا منها، حتى مر بي رجل من بني عمي، فرأى ما بي، فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تُحرجون من هذه المسكينة؟! فرَّقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها؟! فاستجابوا له، وقالوا: الحقي بزوجك إن شئت، فانطلقت وحدها مهاجرة ومعها طفلها الصغير، وتحملت المشاق الهائلة إلى أن وصلت إلى زوجها بالمدينة، فكانت تقول: ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة؛ رضي الله عن أم المؤمنين المهاجرة الصابرة أم سلمة [10].
الأنصار:
أما الأنصار- وهم نجوم زاهرة في سماء الهجرة - فحسبهم قول الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].
هؤلاء جميعًا كانوا وما زالوا في سماء الهجرة نجومًا، يَهتدي بها من أراد الهجرة إلى الله بتوبة صادقة نصوح أساسها الصدق في العلم والعمل لنصرة دين الله عز وجل: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40].
نصر محمد صلى الله عليه وسلم ربه بجهاده في الله حق جهاده، وبتوكُّله المطلق على الله عز وجل وحده، وبثباته الذي جعله يقول لصاحبه وهما في الغار: ﴿ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40]، هذا البدر الساطع في سماء الهجرة حوله نجوم يحيطون به، يعزرونه ويوقرونه، ويقدمونه على أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وسيظل كل واحد منهم نجمًا يُهتدى به أبناء الأمة على مر التاريخ وتعاقب الأجيال.
أبوبكر الصديق:
هو النجم الأول بلا منازع في سماء الهجرة، أليس هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة؟
لقد كان أثناء الطريق يسير تارة أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتارة خلفه خوفًا عليه؛ قَالَ البَيهَقِيُّ: إن ابن سيرين قال: ذَكَرَ رِجَالٌ عَلَى عَهْدِ عُمْرَ، فَكَأَنَّهُمْ فَضَّلُوا عُمَرَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ، فقال: والله لليلة مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ آلِ عُمَرَ، وَلَيَوْمٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ آلِ عُمَرَ، لَقَدْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ انْطَلَقَ إِلَى الْغَارِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَجَعَلَ يَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ وَسَاعَةً خَلْفَهُ، حَتَّى فَطِنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مالك تمشي ساعة خلفي وساعة بين يدي؟»، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَذْكُرُ الطَّلَبَ فَأَمْشِي خَلْفَكَ، ثُمَّ أَذْكُرُ الرَّصَدَ فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْكَ، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، لَوْ كَانَ شَيْءٌ لَأَحْبَبْتَ أَنْ يَكُونَ بِكَ دُونِي؟»، قَالَ: نَعَمْ والذي بعثك بالحق، فلما انتهيا إِلَى الْغَارِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَتَّى أَسْتَبْرِئَ لَكَ الْغَارَ، فَدَخَلَ فاستبرأه، حتى إذا كان ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَبْرِئِ الْجحَرَةَ، فَقَالَ: مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَتَّى أَسْتَبْرِئَ، فَدَخَلَ فَاسْتَبْرَأَ ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَنَزَلَ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتِلْكَ اللَّيْلَةُ خَيْرٌ مِنْ آلِ عُمَرَ[1].
إن صدق أبي بكر في حبه للنبي صلى الله عليه وسلم، جعله يطير فرحًا حين يخبره بأن الله أذن له في الهجرة، فيقول له: الصحبة يا رسول الله؟! قال: "الصحبة"، تقول عائشة رضي الله عنها: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذ يبكي!
هذا الصدق الذي جعله يأتي بماله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجهز راحلتين لسفرهما، ويجند ولده وابنته وعامله من أجل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستحق عن جدارة أن يلقَّب بالصديق رضي الله عنها.
علي بن أبي طالب:
أَمَا النجم الثاني، فهو عَلِيٌّ رضي الله عنها، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَهُ بِخُرُوجِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ بعدَه بِمَكَّةَ، حَتَّى يؤدِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الودائعَ التِي كَانَتْ عندَه لِلنَّاسِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِمَكَّةَ أَحَدٌ عندَه شَيْءٌ يُخْشَى عَلَيْهِ إلَّا وَضَعَهُ عِنْدَهُ، لِمَا يُعْلَمُ مِنْ صِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ صلى الله عليه وسلم؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ ﴾ [الأنفال: 30]، قَالَ: "تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَصْبَحَ، فَأَثْبِتُوهُ بِالْوَثَاقِ، يُرِيدُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ اقْتُلُوهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ أَخْرِجُوهُ، فَأَطْلَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ، فَبَاتَ عَلِيٌّ عَلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ، وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا، يَحْسَبُونَهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ثَارُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَوْا عَلِيًّا، رَدَّ اللهُ مَكْرَهُمْ، فَقَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكَ هَذَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي[2].
حقًّا لم يكن ليقوم بهذه المهمة إلا عليٌّ شجاع الشجعان، وصدق من قال: لا فتى إلا علي.
عبدالله بن أبي بكر:
أما النجم الآخر في سماء الهجرة، فكان عبدالله بن أبي بكر الذى قام بدور مخابراتي ذكي في سرية وإتقان.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَكَانَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يَكُونُ فِي قُرَيْشٍ نَهَارَهُ مَعَهُمْ يَسْمَعُ مَا يَأْتَمِرُونَ بِهِ، وَمَا يَقُولُونَ فِي شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ يَأْتِيهِمَا إِذَا أَمْسَى فَيُخْبِرُهُمَا الْخَبَرَ[3].
وقد وُصِف عبدالله بأنه ثَقِفٌ لَقِنٌ، والثقف هو الخَفِيف الحاذِق، سريعُ الفَهْم لِما يُرمى إِلَيْهِ مِنْ كَلَامٍ بِاللِّسَانِ[4]، واللقن: أَي الفَهِمٌ حسَنُ التَّلْقِين لِمَا يسْمَعه[5]، والتي وصفته بذلك أخته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ قالت عائشة: فَمَكَثَا فِيهِ - أي في غار ثور - ثَلَاثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ، فَيَدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كبائت، لا يسمع أمرًا يكادان بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ.
أسماء بنت أبي بكر:
أما أسماء رضي الله عنها وهي نجمة ساطعة من نجوم الهجرة، فقد قامت بدورٍ لا يقوى عليه كثير من الرجال، صبر وشجاعة وذكاء وحُسن تصرُّف في صدقٍ وحُب لله ورسوله.
ذات النطاقين:
لقد استخدمت أسماء حُسن تصرُّفها، فشقت نطاقها نصفين، فجعلت نصفه على وسطها، وجعلت الزاد الذي تحمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبيها في النصف الآخر، فسُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ.
أما صبرها فقد صبرت على جهل أبي جهل:
حيث قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنها، أَتَانَا نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، فَوَقَفُوا عَلَى بَابِ أَبِي بَكْرٍ، فَخَرَجْتُ إلَيْهِمْ، فَقَالُوا: أَيْنَ أَبُوكَ يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: لَا أَدْرِي وَاَللَّهِ أَيْنَ أَبِي؟ قَالَتْ: فَرَفَعَ أَبُو جَهْلٍ يَدَهُ، وَكَانَ فَاحِشًا خَبِيثًا، فَلَطَمَ خدي لطمةً طرح منها قُرطي، تحملت وصبرت من أجل دين الله ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما ذكاؤها:
فيمثله هذا الموقف لها مع جدها أبي قحافة؛ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مَعَهُ، احْتَمَلَ أَبُو بَكْرٍ مَالَهُ كلَّه، وَمَعَهُ خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ سِتَّةُ آلَافٍ، فَانْطَلَقَ بِهَا مَعَهُ، قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيْنَا جَدي أَبُو قُحَافَةَ، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قَدْ فَجَعَكُمْ بِمَالِهِ مَعَ نَفْسِهِ، قَالَتْ: قُلْتُ: كَلَّا يَا أَبَتِ، إنَّهُ قَدْ تَرَكَ لَنَا خَيْرًا كَثِيرًا، قَالَتْ: فَأَخَذْتُ أَحْجَارًا فَوَضَعْتهَا فِي كُوَّةٍ فِي الْبَيْتِ الَّذِي كَانَ أَبِي يَضَعُ مَالَهُ فِيهَا، ثُمَّ وَضَعْتُ عَلَيْهَا ثَوْبًا، ثُمَّ أَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ، ضَعْ يَدَكَ عَلَى هَذَا الْمَالِ، قَالَتْ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ، إذَا كَانَ تَرَكَ لَكُمْ هَذَا فَقَدْ أَحْسَنَ، وَفِي هَذَا بَلَاغٌ لَكُمْ، تقول أسماء: لا وَاَللَّهِ مَا تَرَكَ لَنَا شَيْئًا وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أن أُسكن الشيخ بذلك[6].
عامر بن فهيرة:
هذا نجم آخر من نجوم الهجرة، قام بدوره في إتقان، وهكذا يعلمنا الإسلام من خلال دور عامر بن فهيرة أن التفاصيل مهما كانت صغيرة لا بد من إتقانها؛ حتى لا ندع ثغرة يدخل منها العدو؛ يقول ابن كثير: وكان عامر بن فهيرة يَرْعَى فِي رُعْيَانِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَإِذَا أَمْسَى أَرَاحَ عَلَيْهِمَا غَنَمَ أَبِي بَكْرٍ فَاحْتَلَبَا وَذَبَحَا، فَإِذَا غَدَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ عِنْدِهِمَا إِلَى مَكَّةَ، اتَّبَعَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ أَثَرَهُ بِالْغَنَمِ يُعْفِّي عَلَيْهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ[7].
عمر بن الخطاب:
أما عمر فقد كان نجمًا فريدًا من نجوم الهجرة؛ حيث كانت هجرته عجبًا، فقد هاجر علنًا، وفي تحدٍّ كبير للمشركين؛ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنها قال: ما علمت أحدًا هاجر إلا مختفيًا إلا عمرَ بن الخطاب، فإنه لما همَّ بالهجرة تقلَّد سيفه، وتنكَّب قوسه، وانتضى في يده أسهُمًا، وأتى الكعبة - وأشراف قريش بفِنائها - فطاف سبعًا، ثم صلَّى ركعتين عند المقام، ثم أتى حِلَقهم واحدة واحدة، فقال: شاهت الوجوه، من أراد أن تثكله أمه، ويُؤتَم ولده، وتَرْمُل زوجته؛ فليَلْقني وراء هذا الوادي، فما تبعه منهم أحد[8].
وكأن عمر بن الخطاب أراد أن يعوِّض إعلانه وجهره بالعداء للدعوة قبل إسلامه، فأحب أن يقتص من نفسه، فعرَّضها للأذى في سبيل الله، وجهر بهجرته عيانًا بيانًا في إقدام ما له نظير.
صهيب بن سنان:
وهذا نجم من طراز آخر، يعلمنا أن ما عند الله خير وأبقى من أي عرض دنيوي زائل؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 207]، نَزَلَتْ فِي صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ الرُّومِيِّ، يقول صهيب: لما أردتُ الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قالت لي قريش: يا صهيبُ، قَدمتَ إلينا ولا مَالَ لك، وتخرج أنت ومالك، والله لا يكون ذلك أبدًا، فقلت لهم: أرأيتم إن دَفَعْتُ إليكم مالي تُخَلُّون عني؟ قالوا: نعم، فدفعتُ إليهم مالي، فخلَّوا عني، فخرجت حتى قدمتُ المدينة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "رَبح صهيبُ، ربح صهيب" مرتين[9].
أم سلمة:
أما أم سلمة، فهي نجمتان في نجمة واحدة، إن قصة هجرتها ومعها طفلها الرضيع كانت ضربًا من العجب، وطرازًا فريدًا في الصبر والتضحية، لقد خرجت مهاجرة هي وزوجها وطفلها الرضيع، حتى إذا ما وصلوا إلى ديار قومها بني المغيرة على مشارف مكة، قاموا إلى زوجها وهدَّدوه ووبَّخوه، ونزعوا خطام البعير من يده، وأخذوا منه أم سلمة عَنوةً، وغضب عند ذلك بنو عبدالأسد رهط أبي سلمة، فأسرعوا إلى قومها وقالوا: لن نترك الغلام، وتنازع الحيَّان على الغلام، كُلٌّ يجذبه من ناحيته، حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبدالأسد، فأصبحت أم سلمة عند قومها، وطفلها عند قوم أبي سلمة، وزوجها انطلق وحده إلى المدينة، ففُرِّق بينها وبين ابنها وبين زوجها، تقول: فكنت أخرج كل غداة، فأجلس في الأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريبًا منها، حتى مر بي رجل من بني عمي، فرأى ما بي، فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تُحرجون من هذه المسكينة؟! فرَّقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها؟! فاستجابوا له، وقالوا: الحقي بزوجك إن شئت، فانطلقت وحدها مهاجرة ومعها طفلها الصغير، وتحملت المشاق الهائلة إلى أن وصلت إلى زوجها بالمدينة، فكانت تقول: ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة؛ رضي الله عن أم المؤمنين المهاجرة الصابرة أم سلمة [10].
الأنصار:
أما الأنصار- وهم نجوم زاهرة في سماء الهجرة - فحسبهم قول الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].
هؤلاء جميعًا كانوا وما زالوا في سماء الهجرة نجومًا، يَهتدي بها من أراد الهجرة إلى الله بتوبة صادقة نصوح أساسها الصدق في العلم والعمل لنصرة دين الله عز وجل: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40].