حكاية ناي ♔
01-17-2023, 01:16 PM
(لم تكن دارُ أُمِّ المؤمنينَ عائشة رضي الله عنها مُجرَّد غُرْفَةٍ ضيِّقةٍ، بل كان فيها منافع مُتعدِّدة، منها: البيت «الغرفة» التي بداخلها السهوة، والْحُجْرَة «الحوش أو الفناء»، والشرفة «الغرفة العالية» التي كانت خزانة البيت «المستودع»، والكنيف الذي اتُّخذَ فيهِ مُؤَخَّرَاً.
الْحُجْرَةُ والبيت: - أي الفناء والغُرْفة - فمِمَّا وَرَدَ فيهما الأخبارُ الآتية:
عن داود بن قيس قال:«رأيتُ الْحُجُراتِ من جريد النخلِ مُغَشَّياً من خارجٍ بمسُوحِ الشَّعْرِ، وأظنُّ عرضَ البيتِ من باب الْحُجرة إلى بابِ البيتِ نحواً من ستِّ أو سبعِ أذرُعٍ، وأَحرِزُ البيتَ الداخلَ عشرَ أذرُعٍ، وأظنُّ سَمْـكَهُ بين الثمانِ والسبعِ نحو ذلك، ووقفتُ عند باب عائشةَ رضي الله عنها فإذا هو مُستقبلُ المغرِبَ»[1]... وعن عائشةَ قالت: «كانَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُصلِّي في الحُجرةِ وأنا في البيتِ، فيفصلُ بينَ الشفعِ والوَترِ بتسليمٍ يُسمعُناهُ»[2]... فعُرِف بما ذُكر: بأن البيت «الغرفة» مبنيةٌ بالطين، وله حُجرة «فناءٌ» مبنيةٌ بالجريد، وهي مطرورةٌ بالطين، وأن عرض الحجرة فيما بين باب الحجرة وباب البيت نحوٌ من ستة أو سبعة أذرع، والبيت الداخل «الغرفة»: عشرة أذرع.
السَّهْوَةُ:
وكانت داخلَ البيتِ «الغرفة»، لحديثِ أُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «أنها كانتِ اتَّخذت على سَهْوَةٍ[3] لَهَا سِتراً فيهِ تَماثيلُ، فهَتَكَهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فاتخذتْ منهُ نُمْرُقَتَينِ[4]، فكانتا في البيتِ يَجلسُ عليهما»[5].
وفي روايةٍ: «أنها اشتَرَتْ نُمْرُقةً فيها تصاويرُ، فلمَّا رآها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قامَ على البابِ فلم يَدخُلْهُ»[6].
وفي روايةٍ: «فأخذتُ نَمَطاً[7]فسَترتُهُ على البابِ»[8].
وفي روايةٍ: «كانَ لَنا سِـترٌ فيهِ تِمثـالُ طائرٍ، وكانَ الدَّاخلُ إذا دَخَلَ استقْبَلَهُ»[9].
وفي روايةٍ: عن «القاسم يُحدِّثُ عن عائشةَ رضي الله عنها أنهُ كانَ لَهَا ثوبٌ فيهِ تَصَاوِيرُ، مَمدُودٌ إلى سَهْوَةٍ، فكانَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُصلِّي إليهِ، فقالَ: أخِّرِيهِ عنِّي، قالت: فأخَّرتُهُ فجَعَلْتُهُ وسَائِدَ»[10].
تبيَّن بهذا أن السهوةَ بيتٌ صغيرٌ «مخدعٌ» داخل البيت «الغرفة»، وله بابٌ، وهذا الباب هو الذي علَّقت عليه عائشة رضي الله عنها النمرقة التي فيها التصاوير، وكان الداخل إذا دخل - أي من الباب الشامي - استقبله، فهو في جهة القبلة حيثُ كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُصلِّي إليها، وهذه السهوة هي التي فيها القبور الثلاثة الشريفة كما سيأتي بيانه إن شاء الله، ويُؤكِّدُ ذلكَ أنَّ قبرَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مُلاصقٌ بالحائطِ الجنوبيِّ للبيتِ، قالَ الإمامُ الشافعيُّ: «أخبَرَني الثِّقاتُ من أصحابنا: أنَّ قبرَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ على يَمينِ الدَّاخلِ مِن البيتِ، لاصقٌ بالجدارِ، والجدارُ الذي لِلَّحدِ لجنبهِ قِبلَةُ البيتِ، وأنَّ لَحْدَهُ تحتَ الجدارِ»[11]، أي: إذا دَخَلَ من البابِ الغربـيِّ.
الكَنِيفُ: وقد اتُّخِذَ في بيت أُمِّ المؤمنينَ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها مُؤَخَّراً.
ففي حديثِ الإفك الطويل، قالت عائشة رضي الله عنها: «فخَرَجَتْ معي أُمُّ مِسطَحٍ قِبَلَ الْمَناصِعِ[12]، وهُوَ مُتَبَرَّزُنَا، وكُنَّا لا نَخْرُجُ إلاَّ لَيلاً إلى ليلٍ، وذلكَ قبلَ أنْ نَتَّخذَ الكُنُفَ قريباً من بُيُوتِنا، وأَمْرُنَا أَمْرُ العَرَبِ الأُوَلِ في التَّبرُّزِ قِبَلَ الغائطِ، فكُنَّا نَتَأذَّى بالكُنُفِ أنْ نتَّخِذَها عندَ بُيُوتِنا»[13].
وعن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال: «ارتقيتُ فَوْقَ ظَهْرِ بيتِ حفصةَ لبعضِ حاجتي فرأيتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَقضي حاجتَهُ مُستدبرَ القبلَةِ، مُستقبلَ الشامِ»[14].
قال ابنُ حَجَرٍ: «وللحكيمِ الترمذيِّ بسندٍ صحيحٍ: فرأيتُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في كَنِيفٍ»[15].
قال السمهودي: «أسند يحيى.. عن عمر بن علي بن عمر بن علي بن الحسين قال: كان بيت فاطمة في موضع الزور مخرج النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وكانت فيه كُوَّةٌ إلى بيت عائشة رضي الله عنها، فكان رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إذا قام إلى المخرج اطلع من الكوَّة إلى فاطمة رضي الله عنها فعلم خبرهم... وأسند يحيى عقب ذلك حديث عائشة: «قلتُ: يا رسول الله ندخلُ كنيفك فلا نرى شيئاً من الأذى، فقال: الأرضُ تبلَعُ ما يَخْرُجُ من الأنبياءِ من الأَذَى فلا يُرَى منهُ شيءٌ»، فأشعرَ صنيع يحيى أن المراد من المخرج موضع الكنيف، وأفهم ذلك أن المخرج المذكور كان خَلْفَ حُجْرَةِ عائشةَ رضي الله عنها بينها وبين بيت فاطمة رضي الله عنها»[16].
فيكون الكنيف في الجهة الشمالية من حُجْرَةِ عائشةَ رضي الله عنها، ولكنَّ الأَثَرَ ضَعيفٌ.
الْمَشْرُبَةُ:
كان للنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مَشْرُبَة، يُصْعَدُ إليها بِدَرَجٍ مـن عَجَلَةٍ وهي خزانته «مستودعه»، لها بابٌ يُفتح بمفتاح، وهذه المشربة نُسبت في أكثر من حديثٍ إلى عائشة رضي الله عنها مما يدلُّ على أنها من مَرافق بيتها.
فعن جابرٍ رضيَ اللهُ عنهُ قال: «ركبَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فَرَساً بالمدينةِ فصَرَعَهُ على جذمِ نخلةٍ، فانفكَّت قَدَمُهُ، فأتيناهُ نَعُودُهُ، فوَجَدناهُ في مَشرُبَةٍ لعائشةَ يُسبِّحُ جالساً»[17].
وفي حديثِ عُمَرٍ رضيَ اللهُ عنهُ الطويل: «فإذا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في مَشْرُبَةٍ لهُ يَرقَى عليها بعَجَلَةٍ[18]، وغُلامٌ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أسودُ على رأسِ الدَّرجةِ...»[19].
وفي روايةٍ أن عمرَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ لابنتهِ حفصة رضيَ اللهُ عنها: «أينَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ؟ قالت: هُوَ في خِزانتِهِ في الْمَشْرُبَةِ، فدخلتُ، فإذا أنا برَباحٍ غُلامِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قاعداً على أُسْكُفَّةِ الْمَشْرُبَةِ، مُدَلٍّ رِجلَيْهِ على نَقِيرٍ من خَشَبٍ- وهُوَ جذعٌ يَرْقَى عليهِ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ويَنْحَدِرُ-، فناديتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندكَ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرفةِ، ثُمَّ نظَرَ إليَّ، فلم يَقُلْ شيئاً، ثمَّ قُلتُ: يا رَباحُ، استأذن لي عندكَ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغرفةِ، ثُمَّ نظرَ إليَّ، فلم يَقُلْ شيئاً، ثمَّ رفعتُ صوتي، فقلتُ: يا رَباحُ، استأذن لي عندكَ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فإني أظُنُّ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ظَنَّ أني جئتُ من أجلِ حفصةَ، واللهِ لَئِن أمَرَني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بضربِ عُنُقها، لأضربَنَّ عُنُقَهَا، ورفعتُ صوتي، فأومأَ إليَّ أنِ ارْقَهْ، فدخلتُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وهوَ مُضطَجعٌ على حصيرٍ، فجلستُ، فأدنى عليهِ إزارَهُ وليسَ عليهِ غيرُهُ، وإذا الحصيرُ قد أثرَ في جنبهِ، فنظرتُ ببصرِي في خِزانةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فإذا أنا بقبضَةٍ من شعيرٍ نحوِ الصَّاعِ، ومِثلِها قَرَظاً في ناحيةِ الغُرفَةِ، وإذا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ، قالَ: فابتَدَرَتْ عَينايَ، قالَ: ما يُبكيكَ يا ابن الخطَّابِ، قُلتُ: يا نبيَّ اللهِ، وما لي لا أبكي وهذا الحصيرُ قد أثرَ في جنبكَ، وهذهِ خِزانتُكَ لا أرى فيها إلاَّ ما أَرَى، وذاكَ قيصَرُ وكسرَى في الثِّمارِ والأنهارِ، وأنتَ رسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وصَفْوتُهُ، وهذهِ خِزانتُكَ، فقال: يا ابنَ الخطَّابِ ألا تَرضَى أن تكُونَ لَنَا الآخرةُ ولَهُمُ الدنيا؟ قُلتُ: بلى... ثمَّ نزلَ نبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ونزلتُ، فنزلتُ أتشبَّثُ بالجِذعِ، ونزلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كأنما يَمشي على الأرضِ ما يَمَسُّهُ بيدِهِ..»[20].
وعن دُكَينِ بنِ سعيدٍ المزنيِّ رضيَ اللهُ عنهُ قال: «أتينا النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فسألناهُ الطعامَ، فقال: يا عُمَرُ اذهبْ فأعطهِم، فارتقَى بنا إلى علِّيَّةٍ[21]، فأخذَ المفتاحَ من حُجْرتهِ فَفَتحَ»[22].
وكان سقفُ بيوت النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ليسَ مرتفعاً: فعن الحسن البصري رَحِمَهُ اللهُ قال: «كُنتُ أدخُلُ بُيُوتَ أزواجِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في خلافةِ عُثمانَ بنِ عفَّانَ رضيَ اللهُ عنهُ فأتناولُ سَقْفَها بيدي»[23].
وكان جدارُ حُجرة النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قصيراً: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كانَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُصلِّي من الليلِ في حُجرتهِ، وجدارُ الحجرةِ قصيرٌ، فرأى الناسُ شخصَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فقامَ أُناسٌ يُصلُّونَ بصلاتهِ، فأصبحُوا فتحدَّثوا بذلكَ، فقامَ الليلَةَ الثانيةَ، فقامَ مَعَهُ أُناسٌ يُصلُّونَ بصلاتهِ، صَنعُوا ذلكَ ليلتينِ أو ثلاثاً، حتى إذا كانَ بعدَ ذلكَ، جلسَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فلم يَخرُج، فلمَّا أصبحَ ذكَرَ ذلكَ الناسُ، فقالَ: إني خشيتُ أن تُكتبَ عليكُم صلاةُ الليلِ»[24].
قال الشيخ محمد عبد الباقي: «كانت الحجرة ضيِّقة العرصة، قصيرة الجدار، بحيث يكون طول جدارها أقل من مساحة العرصة بشيءٍ يسير، فإذا صار ظل الجدار مثله دخل وقت العصر، وتكون الشمس بعد في أواخر العرصة لم يقع الفيء في الجدار الشرقي قبل أن تظهر، معناه: قبل أن تخرج الشمس من الحجرة فينبسط الفيء فيها»[25].
والله أعلم، وصلَّى الله وسلَّمَ على نبيِّنا محمد وآله وصحبه.
الْحُجْرَةُ والبيت: - أي الفناء والغُرْفة - فمِمَّا وَرَدَ فيهما الأخبارُ الآتية:
عن داود بن قيس قال:«رأيتُ الْحُجُراتِ من جريد النخلِ مُغَشَّياً من خارجٍ بمسُوحِ الشَّعْرِ، وأظنُّ عرضَ البيتِ من باب الْحُجرة إلى بابِ البيتِ نحواً من ستِّ أو سبعِ أذرُعٍ، وأَحرِزُ البيتَ الداخلَ عشرَ أذرُعٍ، وأظنُّ سَمْـكَهُ بين الثمانِ والسبعِ نحو ذلك، ووقفتُ عند باب عائشةَ رضي الله عنها فإذا هو مُستقبلُ المغرِبَ»[1]... وعن عائشةَ قالت: «كانَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُصلِّي في الحُجرةِ وأنا في البيتِ، فيفصلُ بينَ الشفعِ والوَترِ بتسليمٍ يُسمعُناهُ»[2]... فعُرِف بما ذُكر: بأن البيت «الغرفة» مبنيةٌ بالطين، وله حُجرة «فناءٌ» مبنيةٌ بالجريد، وهي مطرورةٌ بالطين، وأن عرض الحجرة فيما بين باب الحجرة وباب البيت نحوٌ من ستة أو سبعة أذرع، والبيت الداخل «الغرفة»: عشرة أذرع.
السَّهْوَةُ:
وكانت داخلَ البيتِ «الغرفة»، لحديثِ أُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «أنها كانتِ اتَّخذت على سَهْوَةٍ[3] لَهَا سِتراً فيهِ تَماثيلُ، فهَتَكَهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فاتخذتْ منهُ نُمْرُقَتَينِ[4]، فكانتا في البيتِ يَجلسُ عليهما»[5].
وفي روايةٍ: «أنها اشتَرَتْ نُمْرُقةً فيها تصاويرُ، فلمَّا رآها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قامَ على البابِ فلم يَدخُلْهُ»[6].
وفي روايةٍ: «فأخذتُ نَمَطاً[7]فسَترتُهُ على البابِ»[8].
وفي روايةٍ: «كانَ لَنا سِـترٌ فيهِ تِمثـالُ طائرٍ، وكانَ الدَّاخلُ إذا دَخَلَ استقْبَلَهُ»[9].
وفي روايةٍ: عن «القاسم يُحدِّثُ عن عائشةَ رضي الله عنها أنهُ كانَ لَهَا ثوبٌ فيهِ تَصَاوِيرُ، مَمدُودٌ إلى سَهْوَةٍ، فكانَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُصلِّي إليهِ، فقالَ: أخِّرِيهِ عنِّي، قالت: فأخَّرتُهُ فجَعَلْتُهُ وسَائِدَ»[10].
تبيَّن بهذا أن السهوةَ بيتٌ صغيرٌ «مخدعٌ» داخل البيت «الغرفة»، وله بابٌ، وهذا الباب هو الذي علَّقت عليه عائشة رضي الله عنها النمرقة التي فيها التصاوير، وكان الداخل إذا دخل - أي من الباب الشامي - استقبله، فهو في جهة القبلة حيثُ كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُصلِّي إليها، وهذه السهوة هي التي فيها القبور الثلاثة الشريفة كما سيأتي بيانه إن شاء الله، ويُؤكِّدُ ذلكَ أنَّ قبرَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مُلاصقٌ بالحائطِ الجنوبيِّ للبيتِ، قالَ الإمامُ الشافعيُّ: «أخبَرَني الثِّقاتُ من أصحابنا: أنَّ قبرَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ على يَمينِ الدَّاخلِ مِن البيتِ، لاصقٌ بالجدارِ، والجدارُ الذي لِلَّحدِ لجنبهِ قِبلَةُ البيتِ، وأنَّ لَحْدَهُ تحتَ الجدارِ»[11]، أي: إذا دَخَلَ من البابِ الغربـيِّ.
الكَنِيفُ: وقد اتُّخِذَ في بيت أُمِّ المؤمنينَ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها مُؤَخَّراً.
ففي حديثِ الإفك الطويل، قالت عائشة رضي الله عنها: «فخَرَجَتْ معي أُمُّ مِسطَحٍ قِبَلَ الْمَناصِعِ[12]، وهُوَ مُتَبَرَّزُنَا، وكُنَّا لا نَخْرُجُ إلاَّ لَيلاً إلى ليلٍ، وذلكَ قبلَ أنْ نَتَّخذَ الكُنُفَ قريباً من بُيُوتِنا، وأَمْرُنَا أَمْرُ العَرَبِ الأُوَلِ في التَّبرُّزِ قِبَلَ الغائطِ، فكُنَّا نَتَأذَّى بالكُنُفِ أنْ نتَّخِذَها عندَ بُيُوتِنا»[13].
وعن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال: «ارتقيتُ فَوْقَ ظَهْرِ بيتِ حفصةَ لبعضِ حاجتي فرأيتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَقضي حاجتَهُ مُستدبرَ القبلَةِ، مُستقبلَ الشامِ»[14].
قال ابنُ حَجَرٍ: «وللحكيمِ الترمذيِّ بسندٍ صحيحٍ: فرأيتُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في كَنِيفٍ»[15].
قال السمهودي: «أسند يحيى.. عن عمر بن علي بن عمر بن علي بن الحسين قال: كان بيت فاطمة في موضع الزور مخرج النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وكانت فيه كُوَّةٌ إلى بيت عائشة رضي الله عنها، فكان رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إذا قام إلى المخرج اطلع من الكوَّة إلى فاطمة رضي الله عنها فعلم خبرهم... وأسند يحيى عقب ذلك حديث عائشة: «قلتُ: يا رسول الله ندخلُ كنيفك فلا نرى شيئاً من الأذى، فقال: الأرضُ تبلَعُ ما يَخْرُجُ من الأنبياءِ من الأَذَى فلا يُرَى منهُ شيءٌ»، فأشعرَ صنيع يحيى أن المراد من المخرج موضع الكنيف، وأفهم ذلك أن المخرج المذكور كان خَلْفَ حُجْرَةِ عائشةَ رضي الله عنها بينها وبين بيت فاطمة رضي الله عنها»[16].
فيكون الكنيف في الجهة الشمالية من حُجْرَةِ عائشةَ رضي الله عنها، ولكنَّ الأَثَرَ ضَعيفٌ.
الْمَشْرُبَةُ:
كان للنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مَشْرُبَة، يُصْعَدُ إليها بِدَرَجٍ مـن عَجَلَةٍ وهي خزانته «مستودعه»، لها بابٌ يُفتح بمفتاح، وهذه المشربة نُسبت في أكثر من حديثٍ إلى عائشة رضي الله عنها مما يدلُّ على أنها من مَرافق بيتها.
فعن جابرٍ رضيَ اللهُ عنهُ قال: «ركبَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فَرَساً بالمدينةِ فصَرَعَهُ على جذمِ نخلةٍ، فانفكَّت قَدَمُهُ، فأتيناهُ نَعُودُهُ، فوَجَدناهُ في مَشرُبَةٍ لعائشةَ يُسبِّحُ جالساً»[17].
وفي حديثِ عُمَرٍ رضيَ اللهُ عنهُ الطويل: «فإذا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في مَشْرُبَةٍ لهُ يَرقَى عليها بعَجَلَةٍ[18]، وغُلامٌ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أسودُ على رأسِ الدَّرجةِ...»[19].
وفي روايةٍ أن عمرَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ لابنتهِ حفصة رضيَ اللهُ عنها: «أينَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ؟ قالت: هُوَ في خِزانتِهِ في الْمَشْرُبَةِ، فدخلتُ، فإذا أنا برَباحٍ غُلامِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قاعداً على أُسْكُفَّةِ الْمَشْرُبَةِ، مُدَلٍّ رِجلَيْهِ على نَقِيرٍ من خَشَبٍ- وهُوَ جذعٌ يَرْقَى عليهِ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ويَنْحَدِرُ-، فناديتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندكَ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرفةِ، ثُمَّ نظَرَ إليَّ، فلم يَقُلْ شيئاً، ثمَّ قُلتُ: يا رَباحُ، استأذن لي عندكَ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغرفةِ، ثُمَّ نظرَ إليَّ، فلم يَقُلْ شيئاً، ثمَّ رفعتُ صوتي، فقلتُ: يا رَباحُ، استأذن لي عندكَ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فإني أظُنُّ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ظَنَّ أني جئتُ من أجلِ حفصةَ، واللهِ لَئِن أمَرَني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بضربِ عُنُقها، لأضربَنَّ عُنُقَهَا، ورفعتُ صوتي، فأومأَ إليَّ أنِ ارْقَهْ، فدخلتُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وهوَ مُضطَجعٌ على حصيرٍ، فجلستُ، فأدنى عليهِ إزارَهُ وليسَ عليهِ غيرُهُ، وإذا الحصيرُ قد أثرَ في جنبهِ، فنظرتُ ببصرِي في خِزانةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فإذا أنا بقبضَةٍ من شعيرٍ نحوِ الصَّاعِ، ومِثلِها قَرَظاً في ناحيةِ الغُرفَةِ، وإذا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ، قالَ: فابتَدَرَتْ عَينايَ، قالَ: ما يُبكيكَ يا ابن الخطَّابِ، قُلتُ: يا نبيَّ اللهِ، وما لي لا أبكي وهذا الحصيرُ قد أثرَ في جنبكَ، وهذهِ خِزانتُكَ لا أرى فيها إلاَّ ما أَرَى، وذاكَ قيصَرُ وكسرَى في الثِّمارِ والأنهارِ، وأنتَ رسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وصَفْوتُهُ، وهذهِ خِزانتُكَ، فقال: يا ابنَ الخطَّابِ ألا تَرضَى أن تكُونَ لَنَا الآخرةُ ولَهُمُ الدنيا؟ قُلتُ: بلى... ثمَّ نزلَ نبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ونزلتُ، فنزلتُ أتشبَّثُ بالجِذعِ، ونزلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كأنما يَمشي على الأرضِ ما يَمَسُّهُ بيدِهِ..»[20].
وعن دُكَينِ بنِ سعيدٍ المزنيِّ رضيَ اللهُ عنهُ قال: «أتينا النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فسألناهُ الطعامَ، فقال: يا عُمَرُ اذهبْ فأعطهِم، فارتقَى بنا إلى علِّيَّةٍ[21]، فأخذَ المفتاحَ من حُجْرتهِ فَفَتحَ»[22].
وكان سقفُ بيوت النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ليسَ مرتفعاً: فعن الحسن البصري رَحِمَهُ اللهُ قال: «كُنتُ أدخُلُ بُيُوتَ أزواجِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في خلافةِ عُثمانَ بنِ عفَّانَ رضيَ اللهُ عنهُ فأتناولُ سَقْفَها بيدي»[23].
وكان جدارُ حُجرة النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قصيراً: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كانَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُصلِّي من الليلِ في حُجرتهِ، وجدارُ الحجرةِ قصيرٌ، فرأى الناسُ شخصَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فقامَ أُناسٌ يُصلُّونَ بصلاتهِ، فأصبحُوا فتحدَّثوا بذلكَ، فقامَ الليلَةَ الثانيةَ، فقامَ مَعَهُ أُناسٌ يُصلُّونَ بصلاتهِ، صَنعُوا ذلكَ ليلتينِ أو ثلاثاً، حتى إذا كانَ بعدَ ذلكَ، جلسَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فلم يَخرُج، فلمَّا أصبحَ ذكَرَ ذلكَ الناسُ، فقالَ: إني خشيتُ أن تُكتبَ عليكُم صلاةُ الليلِ»[24].
قال الشيخ محمد عبد الباقي: «كانت الحجرة ضيِّقة العرصة، قصيرة الجدار، بحيث يكون طول جدارها أقل من مساحة العرصة بشيءٍ يسير، فإذا صار ظل الجدار مثله دخل وقت العصر، وتكون الشمس بعد في أواخر العرصة لم يقع الفيء في الجدار الشرقي قبل أن تظهر، معناه: قبل أن تخرج الشمس من الحجرة فينبسط الفيء فيها»[25].
والله أعلم، وصلَّى الله وسلَّمَ على نبيِّنا محمد وآله وصحبه.