مشاهدة النسخة كاملة : نفح الطيب من بيت الحبيب صلى الله عليه وسلم


حكاية ناي ♔
11-13-2022, 09:29 AM
فرحة العمر عند الفتاة أو الفتى حين تلتفُّ الروح بالروح، ويعانق القلبُ القلبَ تحت ظل ميثاق غليظ يعطي العهد بالأمان، ويجعل المرء يعيش تلك اللحظات بمشاعرَ تتخطى حدود الزمن، وتسمو في علياء الفرح، مرددة أن مثل هذا اليوم "لا يكون من أربع وعشرين ساعة، بل من أربعة وعشرين فرحًا؛ لأنه من الأيام التي تجعل الوقت يتقدم في القلب، لا في الزمن، ويكون بالعواطف لا بالساعات، ويتواتر على النفس بجديدها، لا بقديمها"؛ [وحي القلم، ص: 60].

ولأنه فرحة العمر، كان لزامًا على مَن ينخرط في سلكه أن يحسن التدبير، ويؤسس لهذا البناء الجديد على بصيرة وهدًى من دين الله تعالى، وحسن التدبير ليس مالًا فحسب؛ لأن الكيان الأسري كيان بشري قوامه روح وعقل تآلفا وامتزجا؛ فــــ"المرأة للرجل نفس لنفس، لا متاع لشاريه"؛ وربنا سبحانه قال في محكم كتابه: ﴿ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ [الأعراف: 189]، فالمرأة تبحث في الرجل عن كيان يحتويها عاطفيًّا وعقليًّا وماديًّا، والرجل يهفو لروحٍ يسكن إليها، وينصهر في بحر ودادها، ويلم بها شعت نفسه المبعثرة.

لهذا كانت البيوت التي تشيد لبناتها على الحب والدين بيوتًا عامرة بأهلها، على أكتافها تُبنى الأمة، ومن رحِمها تنجب الذرية الصالحة التي تحمل همَّ إصلاح ذواتها ومجتمعاتها، وبيوت الرسول صلى الله عليه وسلم قدَّمت أسمى النماذج للحياة الزوجية وأرقاها، بيوت امتلأت بالحب والرضا والصبر، فكان الاحتواء، وكان التآلف، وكان الود، وكان التعاون، وكانت نورانية الحياة تُرخي بظلالها على قلوب أمهاتنا الطاهرات، فتغمرها بالحياة، وتدفئها بالسكينة، كيف لا ورب هذه الأسرة صفوة خلق الله، ومدرسة الحب الأولى، والرجولة الأولى، والإنسانية الأولى.

"كان للنبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة زوجة؛ وهن: خديجة بنت خويلد، عائشة بنت أبي بكر، حفصة بنت عمر، سودة بنت زمعة العامرية، زينب بنت جحش الأسدية، زينب بنت خزيمة الهلالية، أم سلمة هند بنت أبي أمية المخزومية، أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان الأموية، ميمونة بنت الحارث الهلالية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، وصفية بنت حيي النضيرية، رضي الله عنهن"؛ [كيف عاملهم محمد صلى الله عليه وسلم، ص: 41، 42].

كانت أمنا خديجة رضي الله عنها أولى زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، زواج سُطِّر بمداد من حبٍّ، حب تعالت فيه كل المعوقات العرفية التي ملأت حياتنا بؤسًا، حب لم يهتم لفارق السن، ولا لفارق المستوى المادي، ولا أن الزوجة لها سابق عهد بزواج، حب شيَّد به الزوجان الشريفان أسرة متحابة طيلة خمس وعشرين سنة، حبٍّ أبى أن يأفل برحيل أحد أطرافه، فظل له امتداد روحي سَكَنَ قلب الطرف الآخر، فكان طيف الحبيب يطفو كل حين، وصوته ترتاع له النفس كلما سمعت شبيهًا له، حب لم تتدخل في نسجه إلا قدرة إلهية قدرت التقاء هاتين الروحين الطاهرتين، حب كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفتخر به، ولا يأنف من التصريح به، أو الرفع من قدره حتى عدَّه رزقًا، وعده فضيلة؛ ((إني رزقت حبها))، هكذا أعلنها الرسول صلى الله عليه وسلم، فحبها رزق، وحبها فضيلة، فما أجمل أن يقدر الزوج قلب زوجته، ويثمِّن مشاعرها، ويعتبرها رزقًا من أرزاق الله، لا بلاء من بلاياه! وما أجمل أن يدب عنها بعد أن واراها الثَّرى، وأن يحفظ فضلها وعهدها، ويحمل في قلبه الطاهر كل الوفاء لها، فها هي أمنا عائشة تسري في قلبها الغَيرة من فرط ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم لخديجة فتقول: ((ما تذكر من عجوزٍ قد أبدلك الله خيرًا منها؟ فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: لا والله ما أبدلني الله خيرًا منها، آمنت بي حين كذبني الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس، ورزقني الولد منها ولم يرزقنيه من غيرها))؛ [السيرة الحلبية 3/401].

والملاحظ هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم في معرِض كشفه عن حبه للسيدة خديجة رضي الله عنها لم يعرض لشيء من جمالها أو شبابها، وإنما ذكَّر بنبلها، ومتانة خُلُقها، وعظمة وفائها، وسابقة إيمانها، وهذا ما يفند ادعاءات المغرضين الذين قالوا بأن دافع الجنس والشهوة كان واردًا في زيجاته عليه الصلاة والسلام؛ [النبي محمد صلى الله عليه وسلم إنسان الإنسانية، ونبي الأنبياء، لعبدالكريم الخطيب، ص: 354].

ولو لم تستشعر أمنا عائشة عظم محبة أمنا خديجة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم ما تحركت مشاعر الغَيرة في قلبها؛ يقول ابن حجر رحمة الله عليه: "وأصل غيرة المرأة من تخيل محبة غيرها أكثر منها، وكثرة الذكر تدل على كثرة المحبة"؛ [فتح الباري، ج 7، ص 166].

لقد كان في خديجة رضي الله عنها ما لم يكن في غيرها من النساء، وحظيَتْ بمرتبة عاطفية تربعت بها في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لهذا ما كان ليفكر في الارتباط بغيرها في حياته، حتى لا يذيقها مرارة الغيرة من الضرائر، حققت له الاحتواء والاكتفاء، فكانت نعم الزوجة المحبة، العطوفة، المساندة، المواسية لزوجها، المؤمنة بدوره الريادي؛ قال الحافظ ابن حجر: "وفيه دليل على عظم قدرها عنده، وعلى مزيد فضلها؛ لأنها أغنته عن غيرها، واختصت به بقدر ما اشترك فيه غيرها مرتين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عاش بعد أن تزوجها ثمانية وثلاثين عامًا، انفردت خديجة منها بخمسة وعشرين عامًا، وهي نحو الثلثين من المجموع، ومع طول المدة، فصان قلبها فيها من الغيرة، ومن نكد الضرائر، الذي ربما حصل له هو منه ما يشوش عليه بذلك، وهي فضيلة لم يشاركها فيها غيرها"؛ [فتح الباري، ج 7، ص 167].

فرضِيَ الله عن خديجة، وعن قلب خديجة، كما أرضت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما علاقة الرسول صلى الله عليه وسلم بأمِّنا عائشة رضي الله عنها، فقد جسدت صورة أخرى مثالية للعلاقة الزوجية، المبنية على الحب المتبادل، والانسجام والنشاط في الحضر والسفر؛ فقد كانت عائشة رضي الله عنها "أحب إنسانة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد خديجة رضي الله عنها؛ لِما امتازت به من علم وأدب، ومعرفة بالشعر، وأيام العرب، إضافة إلى شبابها وخفة روحها، ومقام أبيها منه صلى الله عليه وسلم، فكان هذا مما جعله يتعاطف معها قلبًا وقالبًا، ناهيك عن ذكائها وفصاحتها وفقهها؛ [حب الرسول صلى الله عليه وسلم للنساء، لعبدالله كنون، ص: 40].

فهي "الأنثى الخالدة في غَيرتها، وهي الأنثى الخالدة في دلالها، وهي الأنثى الخالدة في كل ما عُرفت به الأنثى من حب الزينة، وحب التدليل والتصغير، وحب التطلع"؛ [الصديقة بنت الصديق، للعقاد، ص: 26].


وكما جهر الرسول صلى الله عليه وسلم بحبه للسيدة خديجة، فكذلك أجمعت الروايات على المكانة المتميزة لأمنا عائشة في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وأثبتت تصريحه بأنها أحب الناس إليه؛ "وحبه لعائشة رضي الله عنها أشهر من أن يُذكر، فلم يحب رسول الله صلى عليه وسلم امرأة حبها، ولا تزوج بكرًا سواها، وكان يظهر ذلك الحب ولا يخفيه، حتى إن عمرو بن العاص سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ((أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قلت: من الرجال، قال: أبوها))"؛ [كيف عاملهم محمد صلى الله عليه وسلم، ص: 51، 52].

"أما الآن فتجد من الرجال من يعاشر زوجته السنين الطوال، دون أن يصارحها بحبه لها، وبعضهم يعد ذلك من خوارم المروءة، وربما يستحي بعضهم من ذلك، وكثير من الناس لا يعلم أن تصريحه بحبه لزوجته من أفضل ما يساعد على تعزيز العلاقات، واستمرار الحياة السعيدة، وزيادة الثقة بينهما".

وكان لزينب بنت جحش رضي الله عنها حظوة كذلك في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، حظوة أشعلت قلب عائشة غَيرة، وجعلتها أحيانًا تتصرف بتصرفات تُغضِب الرسول صلى الله عليه وسلم، فها هي أمنا عائشة رضي الله عنها تعترف قائلة: ((وهي التي كانت تساميني في المنزلة عند رسول الله))؛ أي: "تعادلني وتضاهيني في الحظوة والمنزلة الرفيعة"؛ [صحيح مسلم بشرح النووي 15/206]، غيرة لم تمنعها من إنصاف ضرتها، والاعتراف بفضلها وكريم خصالها، فتتابع قائلة: ((لم أرَ امرأة قط خيرًا في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثًا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالًا لنفسها في العمل الذي تصدق به وتقرب به إلى الله تعالى))، وصادفت موقفًا جميلًا للرسول صلى الله عليه وسلم مع إحدى زوجاته الطاهرات، موقفًا يعكس رقة مشاعر الزوج، وصدق مواساته لزوجاته، فهن القوارير اللواتي تكسرهن كلمة، وتجبرهن كلمة، اللمسة والهمسة لها تعبيرها، ولها دلالتها في نفس المرأة، خصوصًا حين تكون من زوج له قدره وقيمته كرسول الله صلى الله عليه وسلم.

عن صفية بنت حيي رضي الله عنها: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم حجَّ بنسائه، فلما كان في بعض الطريق، نزل رجل، فساق بهن، فأسرع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كذاك سوقك بالقوارير؛ يعني النساء؟ فبينا هم يسيرون برك بصفية بنت حيي جملها، وكانت من أحسنهن ظهرًا، فبكت، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبر بذلك، فجعل يمسح دموعها بيده))؛ [رواه أحمد، وصححه الألباني].

ولأنه من مظاهر اكتمال الخُلُق، ونمو الإيمان أن يكون المرء رقيقًا مع أهله، عادلًا بين نسائه فيما وجب فيه العدل، وفيما ملك القدرة على العدل فيه؛ فقد كان عليه الصلاة والسلام حريصًا على تحقيق ذلك مع كل نسائه، ومن يعدل إن لم يعدل هو بأبي وأمي أنت يا رسول الله؟

فقد كانت معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لأزواجه محبة وتكريمًا وعشرة طيبة، ومراعاة لعواطفهن، وحدبًا عليهن، وحرصًا شديدًا على العدل والمساواة بينهن في السكن والنفقة، والكسوة والمبيت، والزيارات والوقت، فكان صلى الله عليه وسلم يخصص لكل واحدة منهن ليلة، فإذا زار إحداهن زار بعد ذلك جميعهن، حتى في مرضه الأخير وهو أحوج إلى الاستقرار في بيت واحد لم يرضَ صلى الله عليه وسلم أن يستقر في بيت عائشة، إلا بعد أن أذِن له الجميع بذلك؛ [الرسول صلى الله عليه وسلم، لسعيد حوى، 1/163].

ومع هذه الدقة في العدل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستغفر الله من عدم عدله في المحبة؛ فكان يقول: ((اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)).

وقد نقل الإمام النووي رحمه الله إجماع المسلمين على أن محبته صلى الله عليه وسلم لهن لا تكليف فيها، ولا يلزمه التسوية فيها؛ لأنه لا قدرة لأحد عليها إلا الله سبحانه وتعالى، وإنما يؤمر بالعدل في الأفعال وهذا أمر ثابت.
وبعدُ:
فهذا هو الرسول صلى الله عليه وسلم، الزوج المحب، الودود، المعدِّد، العادل، المتفهم، الزوج الذي برهن بالدلائل الواقعة أن التدين لا يعني التزمُّت والتشدد، وأن التعبير عن الحب للزوجة ليس منقصةً للرجولة، ولا عورة يجب سترها ومداراتها، بل الحب هو الأساس الذي ينبغي أن تشيد عليه البيوت، وهو الزهرة التي يجب أن تنمو بين أحضان الزواج، لا أن تذبل بعده.

أمير المحبه
11-17-2022, 09:35 PM
جزاك الله خيرا
يعطيك العافيه يارب
اناار الله قلبكك بالايمــــــــان
وجعل ماقدمت في ميزان حسناتكـ
لكـ شكري وتقديري

همس الورد
11-19-2022, 08:52 PM
جزاك الله خير الجزاء ونفع بك
وألبسك لباس التقوى والغفران وجعلك ممن يظلهم اللَّه
في يوم لا ظل إلاظله وعمر الله قلبك بالايمان

حكاية ناي ♔
12-04-2022, 09:07 AM
امير
اسعدني حضورك

حكاية ناي ♔
12-04-2022, 09:07 AM
حكايه
اسعدني حضورك

يحيى الشاعر
12-04-2022, 07:38 PM
..









بارك الله فيك على الطرح الطيب
وجزاك الخير كله .. واثابك ورفع من قدرك
ووفقك الله لمايحبه ويرضاه
دمت بحفظ الله ورعايته
http://www.nalwrd.com/vb/upload/4156nalwrd.gif

حكاية ناي ♔
12-06-2022, 09:04 AM
اسعدني مروركم