حكاية ناي ♔
01-26-2023, 09:20 AM
صحابي جليلٌ لا يعرفه الكثير منا؛ لأنه كان فقيرَ الحال، لكنه كان غنيًّا بالإيمان، لقد كان في فترة شبابه، فترة الطاقة والحيوية والنشاط، فترة الصحة والقوة والرشاقة، فترة إذا أُحْسِن استغلالها، كان لها عظيم الأثر النافع على الشخص ومَن حوله، وهكذا حدث وتم معه على أكملِ وجهٍ، فنتج لنا ذلك عظيمًا من العظماء، قد سجل التاريخ اسمه بحروفٍ من نور.
كان رضي الله عنه حسن الخلق، وكانت فيه دعابة، وكان عزبًا لم يتزوج بعدُ، أحبه النبي صلى الله عليه وسلم حبًّا شديدًا.
فهيا بنا نتعرف على خبر ذلك الصحابي رضي الله عنه.
محطة تغيير:
قال له النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم مداعبًا إياه: يا جليبيب ألا تتزوج؟ فقال: يا رسول الله، ومَن يزوِّجني؟! استنكر السؤال؛ لأنه ليس له أسرة معروفة ولا مال ولا جمال، فقال له صلى الله عليه وسلم: أنا أزوِّجك يا جليبيب.
فالتفتَ جُليبيب إلى الرسول، فقال: إذًا تجدني كاسدًا يا رسول الله، فقال الرسول: غير أنك عند الله لست بكاسد[1].
رفع النبي صلى الله عليه وسلم من معنوياته، ودعمه دعمًا نفسيًّا، فكسر الحاجز النفسي بمداعبته والترفيه معه، وتكفل بنفسه صلى الله عليه وسلم بتزويجه، ولقد حدث مرة أن سيدنا نضلة بن عبيد المشهور بكنيته "أبو برزة الأسلمي" رضي الله عنه[2]، والذيكان يهتم بالأرامل والفقراء والمساكين، وكان يطعمهم غدوة وعشيًّا، شكا بأن جليبيبًا كان يدخل على النساء يمر بهنَّ ويلاعبهنَّ، فقال لامرأته يومًا: "لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُمْ جُلَيْبِيبٌ؛ فَإِنَّهُ إِنْ دَخَلَ عَلَيْكُمْ، لَأَفْعَلَنَّ وَلَأَفْعَلَنَّ"[3]، يبدو أن خبر جليبيب وصل للنبي صلى الله عليه وسلم، فأراد بتربيته الحكيمة أن يُعيد تأهيل سيدنا جليبيب، وأن يصنع منه عظيمًا من العظماء كما سنرى.
ما أحوج شبابنا لمَن يوجههم ويصنع منهم عظماءَ، ويأخذ بأيديهم وينير لهم طريق الفلاح والنجاح، ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يعيد تربيته بنفسه وتأهيله للحياة، ويتحيَّن فرصة تزويجه إلى أن سنحت له الفرصة بذلك، حتى جاءه رجل أنصاري يعرض ابنته عليه.
وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ أَيِّمٌ لَمْ يُزَوِّجْهَا حَتَّى يَعْلَمَ هَلْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا حَاجَةٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: "زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ".
فَقَالَ: نِعِمَّ وَكَرَامَةٌ يَا رَسُولَ اللهِ وَنُعْمَ عَيْنِي.
قَالَ: "إِنِّي لَسْتُ أُرِيدُهَا لِنَفْسِي".
قَالَ: فَلِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: " لِجُلَيْبِيبٍ."
أخبر النبي أباها بأنه يريدها، ففرح الرجل لطلب النبي إياها، ثم لما أخبره النبي بأنه يريدها لجليبيب أبدى الرجل تراجعًا، لعلمه أن جليبيب ليس مؤهلًا لأن يكون زوجًا يتكفل ويرعى أسرةً.
وغاب عن ذهنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قام بإعداده وتربيته وتأهيله؛ ليخوض معركة الحياة بكل بسالة، وليكون مسؤولًا ليس عن نفسه أو أهله فحسب، بل عن أمة الإسلام كلها.
قال الرجل: "أُشَاوِرُ أُمَّهَا".
فَأَتَى أُمَّهَا فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ ابْنَتَكِ.
فَقَالَتْ: نِعِمَّ، وَنُعْمَةُ عَيْنِي.
فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ يَخْطُبُهَا لِنَفْسِهِ إِنَّمَا يَخْطُبُهَا لِجُلَيْبِيبٍ.
فَقَالَتْ: أَجُلَيْبِيبٌ إنيه؟ أَجُلَيْبِيبٌ إنيه؟ أَجُلَيْبِيبٌ إنيه؟[4].
لَا، لَعَمْرُ اللهِ لَا نُزَوِّجُهُ، أمَا وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيبًا؟! منعناها من فلان وفلان، والجارية في خدرها وسترها تسمع أمَّها، رفضته الأم؛ لأنهم منعوا مَن هو أفضل منه وأقدر في وجهة نظرها.
عقلٌ راجح:
ظهر رفض شديد من تلك الأم لذلك الشاب، فهمَّ الرجل بالقيام ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم رغبتهم بقبول جليبيب زوجًا لابنتهم، إلا أن ابنتهم فطنت لشيء غاب عن ذهن أبويها، مَن الذي يخطبها لجليبيب؟ أجليبيب نفسه أم النبي؟
إن كان جليبيبًا بنفسه، فلا حرج في رفضه لعلمهم بعدم كفاءته، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يخطب له، فهناك في الأمر خير كثير!
سألت البنت أبويها: مَنْ خَطَبَنِي إِلَيْكُمْ؟ فَأَخْبَرَتْهَا أُمُّهَا، فَقَالَتْ: أَتَرُدُّونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ؟ ادْفَعُونِي؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُضَيِّعْنِي، وقالت: إن كان قد رضِيه لكم فأنكحوه.
ما أحكمَ عقل تلك الفتاة ونظرها الثاقب في الأمر!
لم تُشغل تلك الفتاة بالها في مدى وسامة أو دمامة ذلك الشاب، ولا في مدى غناه وفقره، وغير ذلك من مقاييس الناس في الزواج، بل ركَّزت على جانب مهم فطِنت إليه، وأهدى الله عقلها له، وعرَفت حقًّا أين يكمُن معنى السعادة!
مَن الذي يَخطب لي، إنه أشرف الخلق وأحكمهم صلى الله عليه وسلم، ويخطب لي مَن؟
يخطب لي جليبيبًا الذي ربَّاه بيديه وتحت عينه وسمعه، وأحبه حتى أصبح قطعة من قلبهِ صلى الله عليه وسلم، لقد أعاد تأهيله وتكوينه الخلقي والنفسي؛ ليبدأ حياة العظماء، هكذا فكَّرت.
فيكفيها فخرًا وشرفًا أن النبي بنفسه هو الذي اختارها عروسًا لمن ربَّاه بيديه، فما أحكم عقل تلك الفتاة!
حياة جديدة:
اقتنع الأبوان برأي ابنتهما وقالا لها: صدقتِ، وانْطَلَقَ أَبُوهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: شَأْنَكَ بِهَا فَزَوَّجَهَا جُلَيْبِيبًا، إن كنت قد رضيته فقد رضيناه، وافق الأبوان على الزواج بعد مشاورة البنت ومعرفة رأيها السديد في الأمر، ووكَّلا الحبيب صلى الله عليه وسلم في تزويجها، تمَّ أمرُ زواجهما، وبارك النبي صلى الله عليه وسلم زواجهما داعيًا لتلك الفتاة: "اللهم صُبَّ عليها الخير صبًّا صبًّا، ولا تجعل عيشها كدًّا كدًّا"، واجتمعا معًا تحت سقفٍ واحدٍ في بيتٍ دعائمه الحكمة والإيمان بالله تعالى، والتقوى والرضا، وغيرها من الدعائم القويمة التي سوَّاها النبي صلى الله عليه وسلم وهيَّأها لنشأة ذلك البيت الجديد!
ساعد الزوجان بعضهما، وأخذ كل منهما بيدِ الآخر في طريقهما للنجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، وسطَّرا لنا أنموذجًا يُحتذى به في طريقهما للعظمة الإنسانية، وكانا لنا نبراسًا يضيء لنا طريقًا احلولك ظلامُها.
بطولة نادرة:
لم تمض إلا أيام قليلة على زواجهما، ونادى منادِي الجهاد: يا خيل الله اركبي بأن الرسول صلى الله عليه وسلم خارجٌ في مغزى له، فخرج سيدنا جليبيب رضي الله عنه ليشارك النبي وأصحابه في ذلك المغزى[5].
آثر سيدنا جليبيب الجهاد والخروج في سبيل الله، وطلب ما عند الله من الخير الدائم وترك زوجته، وهو ما زال في أيام عُرسهِ، فَخَرَجَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومَن معه مِن أصحابه. وخاضوا معًا عناءَ السفر ومشقة الغزو، وكتب الله تعالى لهم النصر، وأخذ الصحابة يتفقدون إخوانهم الذين كتب الله لهم الشهادة، ويضمدون جراح المصابين، ويجمعون ما أفاء الله به عليهم، وبينما هم كذلك إذ برسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي عليهم: "هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟"، قَالُوا: نَفْقِدُ فُلَانًا وَنَفْقِدُ فُلَانًا، فتركهم النبي يبحثون ويفتشون عن هؤلاء المفقودين، ثم نادى عليهم ثانيةً، قَالَ: "انْظُرُوا هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟"، قَالُوا: لَا، قَالَ: "لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا، فَاطْلُبُوهُ فِي الْقَتْلَى"، نسِيه الصحابة ولم يدروا أنه معهم، بيدَ أن النبي قد أحبه حبًّا جمًّا؛ مما جعله يسأل عنه، ويبحث بنفسه عنه مع أصحابه، ولِم لا وهو الذي رباه بيديه الشريفتين!
فبحثوا وفتشوا في أرجاء المكان، وطَلَبُوهُ فَوَجَدُوهُ إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ، ما أعظمها مِن بطولة، وما أصدقها من نيةٍ، لقد اختاره الله تعالى شهيدًا مكرمًا، ليُكمل عُرسه في الجنة، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، هَا هُوَ ذَا إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ عَلَيْهِ فَقَالَ: "قَتَلَ سَبْعَةً وَقَتَلُوهُ هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، هذا مني وأنا منه"، نعم، إنه قطعة من قلب النبي صلى الله عليه وسلم الذي أدَّبه فأحسن تأديبه، وهيَّأه وقام على شأنه، وصنع منه بطلًا شابًّا عظيمًا، ثُمَّ وَضَعَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَاعِدَيْهِ وَحُفِرَ لَهُ، مَا لَهُ سَرِيرٌ إِلَّا سَاعِدَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ وَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ غَسَّلَهُ؛ لأن الشهيد لا يُغسَّل ولا يُصلى عليه.
تعويض الله تعالى:
رجع الرسول وأصحابه إلى ديارهم فرحين بنصر الله تعالى مستبشرين بمن رزَقهم الله الشهادة في سبيله، ووصل خبر استشهاد جليبيب لأهله، فتقبلت بدموع الفرحة اختيار الله تعالى زوجها شهيدًا عنده، أتذكرون أنها قالت: "أَتَرُدُّونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ؟ ادْفَعُونِي؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُضَيِّعْنِي"، حقًّا، لِحبها للحبيب وثقتها وإيمانها بالله تعالى، لم يُضيعها الله تعالى،
فتح لها الله أبواب الخير الكثير؛ مما جعلها أنفق أيِّم في الأنصار، وجعل الناس يتحدثون عن غناها الذي أغناه الله تعالى لها، قال سيدنا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عن زوجة سيدنا جليبيب: "فَمَا رَأَيْتُ بِالْمَدِينَةِ ثَيِّبًا أَنْفَقَ مِنْهَا"، وقال سيدنا أُنَيس بن الضحاك: "فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا وَإِنَّهَا لَأَنْفَقُ بِنْتٍ بِالْمَدِينَةِ"، وقَال سيدنا ثَابِتٌ البناني: "فَمَا كَانَ فِي الْأَنْصَارِ أَيِّمٌ أَنْفَقَ مِنْهَا"، أغناها الله تعالى وفتح لها أبواب الرزق الواسعة ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها: "اللهُمَّ صُبَّ عَلَيْهَا الْخَيْرَ صَبًّا، وَلَا تَجْعَلْ عَيْشَهَا كَدًّا كَدًّا".
ويُذكر أن جليبيبًا كان رجلًا في بني ثعلبة حليفًا في الأنصار، والمرأة التي زوَّجها النبي صلى الله عليه وسلم إياه من بني الحارث بن الخزرج رضي الله عنه[6].
كان رضي الله عنه حسن الخلق، وكانت فيه دعابة، وكان عزبًا لم يتزوج بعدُ، أحبه النبي صلى الله عليه وسلم حبًّا شديدًا.
فهيا بنا نتعرف على خبر ذلك الصحابي رضي الله عنه.
محطة تغيير:
قال له النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم مداعبًا إياه: يا جليبيب ألا تتزوج؟ فقال: يا رسول الله، ومَن يزوِّجني؟! استنكر السؤال؛ لأنه ليس له أسرة معروفة ولا مال ولا جمال، فقال له صلى الله عليه وسلم: أنا أزوِّجك يا جليبيب.
فالتفتَ جُليبيب إلى الرسول، فقال: إذًا تجدني كاسدًا يا رسول الله، فقال الرسول: غير أنك عند الله لست بكاسد[1].
رفع النبي صلى الله عليه وسلم من معنوياته، ودعمه دعمًا نفسيًّا، فكسر الحاجز النفسي بمداعبته والترفيه معه، وتكفل بنفسه صلى الله عليه وسلم بتزويجه، ولقد حدث مرة أن سيدنا نضلة بن عبيد المشهور بكنيته "أبو برزة الأسلمي" رضي الله عنه[2]، والذيكان يهتم بالأرامل والفقراء والمساكين، وكان يطعمهم غدوة وعشيًّا، شكا بأن جليبيبًا كان يدخل على النساء يمر بهنَّ ويلاعبهنَّ، فقال لامرأته يومًا: "لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُمْ جُلَيْبِيبٌ؛ فَإِنَّهُ إِنْ دَخَلَ عَلَيْكُمْ، لَأَفْعَلَنَّ وَلَأَفْعَلَنَّ"[3]، يبدو أن خبر جليبيب وصل للنبي صلى الله عليه وسلم، فأراد بتربيته الحكيمة أن يُعيد تأهيل سيدنا جليبيب، وأن يصنع منه عظيمًا من العظماء كما سنرى.
ما أحوج شبابنا لمَن يوجههم ويصنع منهم عظماءَ، ويأخذ بأيديهم وينير لهم طريق الفلاح والنجاح، ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يعيد تربيته بنفسه وتأهيله للحياة، ويتحيَّن فرصة تزويجه إلى أن سنحت له الفرصة بذلك، حتى جاءه رجل أنصاري يعرض ابنته عليه.
وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ أَيِّمٌ لَمْ يُزَوِّجْهَا حَتَّى يَعْلَمَ هَلْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا حَاجَةٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: "زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ".
فَقَالَ: نِعِمَّ وَكَرَامَةٌ يَا رَسُولَ اللهِ وَنُعْمَ عَيْنِي.
قَالَ: "إِنِّي لَسْتُ أُرِيدُهَا لِنَفْسِي".
قَالَ: فَلِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: " لِجُلَيْبِيبٍ."
أخبر النبي أباها بأنه يريدها، ففرح الرجل لطلب النبي إياها، ثم لما أخبره النبي بأنه يريدها لجليبيب أبدى الرجل تراجعًا، لعلمه أن جليبيب ليس مؤهلًا لأن يكون زوجًا يتكفل ويرعى أسرةً.
وغاب عن ذهنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قام بإعداده وتربيته وتأهيله؛ ليخوض معركة الحياة بكل بسالة، وليكون مسؤولًا ليس عن نفسه أو أهله فحسب، بل عن أمة الإسلام كلها.
قال الرجل: "أُشَاوِرُ أُمَّهَا".
فَأَتَى أُمَّهَا فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ ابْنَتَكِ.
فَقَالَتْ: نِعِمَّ، وَنُعْمَةُ عَيْنِي.
فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ يَخْطُبُهَا لِنَفْسِهِ إِنَّمَا يَخْطُبُهَا لِجُلَيْبِيبٍ.
فَقَالَتْ: أَجُلَيْبِيبٌ إنيه؟ أَجُلَيْبِيبٌ إنيه؟ أَجُلَيْبِيبٌ إنيه؟[4].
لَا، لَعَمْرُ اللهِ لَا نُزَوِّجُهُ، أمَا وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيبًا؟! منعناها من فلان وفلان، والجارية في خدرها وسترها تسمع أمَّها، رفضته الأم؛ لأنهم منعوا مَن هو أفضل منه وأقدر في وجهة نظرها.
عقلٌ راجح:
ظهر رفض شديد من تلك الأم لذلك الشاب، فهمَّ الرجل بالقيام ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم رغبتهم بقبول جليبيب زوجًا لابنتهم، إلا أن ابنتهم فطنت لشيء غاب عن ذهن أبويها، مَن الذي يخطبها لجليبيب؟ أجليبيب نفسه أم النبي؟
إن كان جليبيبًا بنفسه، فلا حرج في رفضه لعلمهم بعدم كفاءته، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يخطب له، فهناك في الأمر خير كثير!
سألت البنت أبويها: مَنْ خَطَبَنِي إِلَيْكُمْ؟ فَأَخْبَرَتْهَا أُمُّهَا، فَقَالَتْ: أَتَرُدُّونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ؟ ادْفَعُونِي؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُضَيِّعْنِي، وقالت: إن كان قد رضِيه لكم فأنكحوه.
ما أحكمَ عقل تلك الفتاة ونظرها الثاقب في الأمر!
لم تُشغل تلك الفتاة بالها في مدى وسامة أو دمامة ذلك الشاب، ولا في مدى غناه وفقره، وغير ذلك من مقاييس الناس في الزواج، بل ركَّزت على جانب مهم فطِنت إليه، وأهدى الله عقلها له، وعرَفت حقًّا أين يكمُن معنى السعادة!
مَن الذي يَخطب لي، إنه أشرف الخلق وأحكمهم صلى الله عليه وسلم، ويخطب لي مَن؟
يخطب لي جليبيبًا الذي ربَّاه بيديه وتحت عينه وسمعه، وأحبه حتى أصبح قطعة من قلبهِ صلى الله عليه وسلم، لقد أعاد تأهيله وتكوينه الخلقي والنفسي؛ ليبدأ حياة العظماء، هكذا فكَّرت.
فيكفيها فخرًا وشرفًا أن النبي بنفسه هو الذي اختارها عروسًا لمن ربَّاه بيديه، فما أحكم عقل تلك الفتاة!
حياة جديدة:
اقتنع الأبوان برأي ابنتهما وقالا لها: صدقتِ، وانْطَلَقَ أَبُوهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: شَأْنَكَ بِهَا فَزَوَّجَهَا جُلَيْبِيبًا، إن كنت قد رضيته فقد رضيناه، وافق الأبوان على الزواج بعد مشاورة البنت ومعرفة رأيها السديد في الأمر، ووكَّلا الحبيب صلى الله عليه وسلم في تزويجها، تمَّ أمرُ زواجهما، وبارك النبي صلى الله عليه وسلم زواجهما داعيًا لتلك الفتاة: "اللهم صُبَّ عليها الخير صبًّا صبًّا، ولا تجعل عيشها كدًّا كدًّا"، واجتمعا معًا تحت سقفٍ واحدٍ في بيتٍ دعائمه الحكمة والإيمان بالله تعالى، والتقوى والرضا، وغيرها من الدعائم القويمة التي سوَّاها النبي صلى الله عليه وسلم وهيَّأها لنشأة ذلك البيت الجديد!
ساعد الزوجان بعضهما، وأخذ كل منهما بيدِ الآخر في طريقهما للنجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، وسطَّرا لنا أنموذجًا يُحتذى به في طريقهما للعظمة الإنسانية، وكانا لنا نبراسًا يضيء لنا طريقًا احلولك ظلامُها.
بطولة نادرة:
لم تمض إلا أيام قليلة على زواجهما، ونادى منادِي الجهاد: يا خيل الله اركبي بأن الرسول صلى الله عليه وسلم خارجٌ في مغزى له، فخرج سيدنا جليبيب رضي الله عنه ليشارك النبي وأصحابه في ذلك المغزى[5].
آثر سيدنا جليبيب الجهاد والخروج في سبيل الله، وطلب ما عند الله من الخير الدائم وترك زوجته، وهو ما زال في أيام عُرسهِ، فَخَرَجَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومَن معه مِن أصحابه. وخاضوا معًا عناءَ السفر ومشقة الغزو، وكتب الله تعالى لهم النصر، وأخذ الصحابة يتفقدون إخوانهم الذين كتب الله لهم الشهادة، ويضمدون جراح المصابين، ويجمعون ما أفاء الله به عليهم، وبينما هم كذلك إذ برسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي عليهم: "هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟"، قَالُوا: نَفْقِدُ فُلَانًا وَنَفْقِدُ فُلَانًا، فتركهم النبي يبحثون ويفتشون عن هؤلاء المفقودين، ثم نادى عليهم ثانيةً، قَالَ: "انْظُرُوا هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟"، قَالُوا: لَا، قَالَ: "لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا، فَاطْلُبُوهُ فِي الْقَتْلَى"، نسِيه الصحابة ولم يدروا أنه معهم، بيدَ أن النبي قد أحبه حبًّا جمًّا؛ مما جعله يسأل عنه، ويبحث بنفسه عنه مع أصحابه، ولِم لا وهو الذي رباه بيديه الشريفتين!
فبحثوا وفتشوا في أرجاء المكان، وطَلَبُوهُ فَوَجَدُوهُ إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ، ما أعظمها مِن بطولة، وما أصدقها من نيةٍ، لقد اختاره الله تعالى شهيدًا مكرمًا، ليُكمل عُرسه في الجنة، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، هَا هُوَ ذَا إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ عَلَيْهِ فَقَالَ: "قَتَلَ سَبْعَةً وَقَتَلُوهُ هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، هذا مني وأنا منه"، نعم، إنه قطعة من قلب النبي صلى الله عليه وسلم الذي أدَّبه فأحسن تأديبه، وهيَّأه وقام على شأنه، وصنع منه بطلًا شابًّا عظيمًا، ثُمَّ وَضَعَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَاعِدَيْهِ وَحُفِرَ لَهُ، مَا لَهُ سَرِيرٌ إِلَّا سَاعِدَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ وَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ غَسَّلَهُ؛ لأن الشهيد لا يُغسَّل ولا يُصلى عليه.
تعويض الله تعالى:
رجع الرسول وأصحابه إلى ديارهم فرحين بنصر الله تعالى مستبشرين بمن رزَقهم الله الشهادة في سبيله، ووصل خبر استشهاد جليبيب لأهله، فتقبلت بدموع الفرحة اختيار الله تعالى زوجها شهيدًا عنده، أتذكرون أنها قالت: "أَتَرُدُّونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ؟ ادْفَعُونِي؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُضَيِّعْنِي"، حقًّا، لِحبها للحبيب وثقتها وإيمانها بالله تعالى، لم يُضيعها الله تعالى،
فتح لها الله أبواب الخير الكثير؛ مما جعلها أنفق أيِّم في الأنصار، وجعل الناس يتحدثون عن غناها الذي أغناه الله تعالى لها، قال سيدنا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عن زوجة سيدنا جليبيب: "فَمَا رَأَيْتُ بِالْمَدِينَةِ ثَيِّبًا أَنْفَقَ مِنْهَا"، وقال سيدنا أُنَيس بن الضحاك: "فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا وَإِنَّهَا لَأَنْفَقُ بِنْتٍ بِالْمَدِينَةِ"، وقَال سيدنا ثَابِتٌ البناني: "فَمَا كَانَ فِي الْأَنْصَارِ أَيِّمٌ أَنْفَقَ مِنْهَا"، أغناها الله تعالى وفتح لها أبواب الرزق الواسعة ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها: "اللهُمَّ صُبَّ عَلَيْهَا الْخَيْرَ صَبًّا، وَلَا تَجْعَلْ عَيْشَهَا كَدًّا كَدًّا".
ويُذكر أن جليبيبًا كان رجلًا في بني ثعلبة حليفًا في الأنصار، والمرأة التي زوَّجها النبي صلى الله عليه وسلم إياه من بني الحارث بن الخزرج رضي الله عنه[6].