حكاية ناي ♔
02-04-2023, 08:52 AM
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فاستكمالًا للحديث عن فتح الطائف، هذه بعض الفوائد والمسائل الفقهية، فمن ذلك: جواز القتال في الأشهر الحرم ونسخ تحريم ذلك.
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة في أواخر رمضان بعد مضي ثمان عشرة ليلة منه، والدليل عليه ما رواه أحمد في مسنده[1]: حدثنا إسماعيل عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس أنه مر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الفتح على رجل يحتجم بالبقيع لثمان عشرة خلت من رمضان، وهو آخذ بيدي فقال: «أَفْطَرَالْحَاجِمُوَالْمَحْجُومُ»، وهذا أصح من قول من قال: إنه خرج لعشرٍ خلون من رمضان، وهذا الإسناد على شرط مسلم، فقد روى به بعينه: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»[2].
وأقام بمكة تسع عشرة ليلة يقصر الصلاة[3]، ثم خرج إلى هوازن فقاتلهم وفرغ منهم، ثم قصد الطائف فحاصرهم بضعًا وعشرين ليلة في قول ابن إسحاق، وثمان عشرة ليلة في قول ابن سعد، وأربعين ليلة في قول مكحول[4].
فإذا تأملت ذلك علمت أن بعض مدة الحصار في ذي القعدة ولابد، ولكن قد يقال: لم يبتدئ القتال إلا في شوال، فلما شرع فيه لم يقطعه للشهر الحرام، ولكن من أين لكم أنه صلى الله عليه وسلم ابتدأ قتالًا في شهر حرام؟ وفرقٌ بين الابتداء والاستدامة[5].
ومنها: جواز غزو الرجل وأهله معه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان معه في هذه الغزاة أم سلمة وزينب[6].
ومنها: جواز نصب المنجنيق على الكفار ورميهم به، وإن أفضى إلى قتل من لم يقاتل من النساء والذرية.
ومنها: أن العبد إذا أبق من المشركين ولحق بالمسلمين صار حرًا، قال سعيد بن منصور[7]: حدثنا يزيد بن هارون عن الحجاج ]عن الحكم[ عن مِقْسَم عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتق العبيد إذا جاؤوا قبل مواليهم.
وروى سعيد[8] أيضًا قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبد وسيده قضيتين: قضى أن العبد إذا خرج من دار الحرب قبل سيده أنه حر، فإن خرج سيده بعده لم يُرد عليه، وقضى أن السيد إذا خرج قبل العبد ثم خرج العبد رُد على سيده.
وعن الشعبي عن رجل من ثقيف قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد علينا أبا بكرة وكان عبدًا لنا، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُحاصر ثقيفًا فأسلم، فأبى أن يرده علينا وقال: «هُوَ طَلِيقُ اللَّهِ، ثُمَّ طَلِيقُ رَسُولِهِ»، فلم يرده علينا[9].
قال ابن المنذر[10]: وهذا قول كل من نحفظ عنه من أهل العلم.
ومنها: أن الإمام إذا حاصر حصنًا ولم يُفتح عليه، ورأى مصلحة المسلمين في الرحيل عنه، لم يلزمه مصابرته وجاز له ترك مصابرته، وإنما تلزم المصابرة إذا كان فيها مصلحة راجحة على مفسدتها.
ومنها: أنه أحرم من الجعرانة بعمرة وكان داخلًا إلى مكة، وهذه هي السنة لمن دخلها من طريق الطائف وما يليه، وأما ما يفعله كثير ممن لا علم عندهم من الخروج من مكة إلى الجعرانة ليُحرم منها بعمرة ثم يرجع إليها، فهذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه البتة، ولا استحبه أحد من أهل العلم، وإنما يفعله عوام الناس - زعموا - اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم وغلطوا، فإنه إنما أحرم منها داخلًا إلى مكة، لم يخرج منها إلى الجعرانة ليحرم منها؛ فهذا لون وسنته لون، وبالله التوفيق.
ومنها: استجابة الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم دعاءه لثقيف أن يهديهم ويأتي بهم وقد حاربوه وقاتلوه وقتلوا جماعة من أصحابه وقتلوا رسول رسوله الذي أرسله إليهم يدعوهم إلى الله، ومع هذا كله فدعا لهم ولم يدع عليهم، وهذا من كمال رحمته ورأفته ونصيحته صلوات الله وسلامه عليه.
ومنها: كمال محبة الصديق له وقصده التقرب إليه والتحبب بكل ما يمكنه، ولهذا ناشد المغيرة أن يدعه هو يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم وفد الطائف ليكون هو الذي سره وفرحه بذلك، وهذا يدل على أنه يجوز للرجل أن يسأل أخاه أن يؤثره بقربة من القرب، وأنه يجوز للرجل أن يؤثر بها أخاه، وقول من قال من الفقهاء: لا يجوز الإيثار بالقرب، لا يصح.
وقد آثرت عائشة عمر بن الخطاب بدفنه في بيتها جوار النبي صلى الله عليه وسلم[11]، وسألها عمر ذلك فلم يُكره له السؤال ولا لها البذل، وعلى هذا فإذا سأل الرجل غيره أن يؤثره بمقامه في الصف الأول لم يكره له السؤال، ولا لذلك البذل، ونظائره.
ومن تأمل سيرة الصحابة وجدهم غير كارهين لذلك، ولا ممتنعين عنه، وهل هذا إلا كرم وسخاء، وإيثار على النفس بما هو من أعظم محبوباتها، وتفريحًا لأخيه المسلم، وتعظيمًا لقدره، وإجابة له إلى ما سأله، وترغيبًا له في الخير؛ وقد يكون ثواب كل واحد من هذه الخصال راجحًا على ثواب تلك القربة، فيكون المؤثر بها ممن تاجر فبذل قربة وأخذ أضعافها.
وعلى هذا فلا يمتنع أن يؤثر صاحب الماء بمائه أن يتوضأ به ويتيمم هو، إذ كان لابد من تيمم أحدهما، فآثر أخاه وحاز فضيلة الإيثار وفضيلة الطهر بالتراب، ولم يمنع من هذا كتاب ولا سنة ولا مكارم أخلاق.
وعلى هذا فإذا اشتد العطش بجماعة وعاينوا التلف، ومع بعضهم ماء فآثر به على نفسه واستسلم للموت كان ذلك جائزًا، ولم نقل إنه قاتل لنفسه ولا إنه فعل محرمًا، بل هذا غاية الجود والسخاء، كما قال تعالى: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر:9]، وقد جرى هذا بعينه لجماعة من الصحابة في فتوح الشام، وعُدَّ ذلك في مناقبهم وفضائلهم.
وهل إهداء القُرَبِ المجمع عليها المتنازع فيها إلى الميت إلا إيثار بثوابها؟ وهو عين الإيثار بالقرب، فأي فرق بين أن يؤثره بفعلها ليُحرز ثوابها وبين أن يعمل ثم يؤثره بثوابها؟ وبالله التوفيق.
ومنها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يومًا واحدًا، فإنها شعائر الكفر والشرك وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة، وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانًا وطواغيت تُعبد من دون الله والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، أو أعظم شركًا عندها وبها، وبالله المستعان.
ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد فيها أنها تخلق وترزق وتميت وتحيي، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القُذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم، فصار المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقلَّ العلماء، وغلبت السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
ومنها: جواز صرف الإمام الأموال التي تصير إلى هذه المشاهد والطواغيت في الجهاد ومصالح المسلمين، فيجوز للإمام بل يجب عليه أن يأخذ أموال هذه الطواغيت التي تُساق إليها كلها ويصرفها على الجند والمقاتلة ومصالح الإسلام، كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أموال اللات وأعطاها لأبي سفيان يتألفه بها وقضى منها دين عروة والأسود.
وكذلك يجب عليه أن يهدم هذه المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانًا، وله أن يقطعها للمقاتلة أو يبيعها ويستعين بأثمانها على مصالح المسلمين، وكذلك الحكم في أوقافها، فإن وقفها والوقف عليها باطل وهو مال ضائع، فيُصرف في مصالح المسلمين، فإن الوقف لا يصح إلا في قربة وطاعة لله ورسوله، فلا يصح الوقف على مشهدٍ ولا قبرٍ يُسرج عليه ويُعظم، وينذر له ويحج إليه، ويُعبد من دون الله ويُتخذ وثنًا من دونه، وهذا مما لا يخالف فيه أحد من أئمة الإسلام ومن اتبع سبيلهم.
ومنها: أن وادي وج - وهو واد بالطائف - حرم يحرم صيده وقطع شجره، وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فالجمهور قالوا: ليس في البقاع حرم إلا مكة والمدينة، وأبو حنيفة خالفهم في حرم المدينة، وقال الشافعي في أحد قوليه: وجٌّ حرم يحرم صيده وشجره، واحتج لهذا القول بحديثين: أحدهما هذا الذي تقدم[12]، والثاني: حديث عروة بن الزبير عن أبيه الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ صَيْدَ وَجٍّ، وَعِضَاهَهُحَرَمٌ مُحَرَّمٌ لِلَّهِ»[13].
وهذا الحديث يعرف بمحمد بن عبد الله بن إنسان عن أبيه عن عروة، قال البخاري في تاريخه[14]: لا يتابع عليه.
قلت: وفي سماع عروة من أبيه نظر، وإن كان قد رآه[15]، والله أعلم.أ هـ
والراجح أن وادي وج ليس بحرم؛ لأن الأحاديث الواردة في ذلك لم تصح.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فاستكمالًا للحديث عن فتح الطائف، هذه بعض الفوائد والمسائل الفقهية، فمن ذلك: جواز القتال في الأشهر الحرم ونسخ تحريم ذلك.
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة في أواخر رمضان بعد مضي ثمان عشرة ليلة منه، والدليل عليه ما رواه أحمد في مسنده[1]: حدثنا إسماعيل عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس أنه مر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الفتح على رجل يحتجم بالبقيع لثمان عشرة خلت من رمضان، وهو آخذ بيدي فقال: «أَفْطَرَالْحَاجِمُوَالْمَحْجُومُ»، وهذا أصح من قول من قال: إنه خرج لعشرٍ خلون من رمضان، وهذا الإسناد على شرط مسلم، فقد روى به بعينه: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»[2].
وأقام بمكة تسع عشرة ليلة يقصر الصلاة[3]، ثم خرج إلى هوازن فقاتلهم وفرغ منهم، ثم قصد الطائف فحاصرهم بضعًا وعشرين ليلة في قول ابن إسحاق، وثمان عشرة ليلة في قول ابن سعد، وأربعين ليلة في قول مكحول[4].
فإذا تأملت ذلك علمت أن بعض مدة الحصار في ذي القعدة ولابد، ولكن قد يقال: لم يبتدئ القتال إلا في شوال، فلما شرع فيه لم يقطعه للشهر الحرام، ولكن من أين لكم أنه صلى الله عليه وسلم ابتدأ قتالًا في شهر حرام؟ وفرقٌ بين الابتداء والاستدامة[5].
ومنها: جواز غزو الرجل وأهله معه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان معه في هذه الغزاة أم سلمة وزينب[6].
ومنها: جواز نصب المنجنيق على الكفار ورميهم به، وإن أفضى إلى قتل من لم يقاتل من النساء والذرية.
ومنها: أن العبد إذا أبق من المشركين ولحق بالمسلمين صار حرًا، قال سعيد بن منصور[7]: حدثنا يزيد بن هارون عن الحجاج ]عن الحكم[ عن مِقْسَم عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتق العبيد إذا جاؤوا قبل مواليهم.
وروى سعيد[8] أيضًا قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبد وسيده قضيتين: قضى أن العبد إذا خرج من دار الحرب قبل سيده أنه حر، فإن خرج سيده بعده لم يُرد عليه، وقضى أن السيد إذا خرج قبل العبد ثم خرج العبد رُد على سيده.
وعن الشعبي عن رجل من ثقيف قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد علينا أبا بكرة وكان عبدًا لنا، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُحاصر ثقيفًا فأسلم، فأبى أن يرده علينا وقال: «هُوَ طَلِيقُ اللَّهِ، ثُمَّ طَلِيقُ رَسُولِهِ»، فلم يرده علينا[9].
قال ابن المنذر[10]: وهذا قول كل من نحفظ عنه من أهل العلم.
ومنها: أن الإمام إذا حاصر حصنًا ولم يُفتح عليه، ورأى مصلحة المسلمين في الرحيل عنه، لم يلزمه مصابرته وجاز له ترك مصابرته، وإنما تلزم المصابرة إذا كان فيها مصلحة راجحة على مفسدتها.
ومنها: أنه أحرم من الجعرانة بعمرة وكان داخلًا إلى مكة، وهذه هي السنة لمن دخلها من طريق الطائف وما يليه، وأما ما يفعله كثير ممن لا علم عندهم من الخروج من مكة إلى الجعرانة ليُحرم منها بعمرة ثم يرجع إليها، فهذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه البتة، ولا استحبه أحد من أهل العلم، وإنما يفعله عوام الناس - زعموا - اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم وغلطوا، فإنه إنما أحرم منها داخلًا إلى مكة، لم يخرج منها إلى الجعرانة ليحرم منها؛ فهذا لون وسنته لون، وبالله التوفيق.
ومنها: استجابة الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم دعاءه لثقيف أن يهديهم ويأتي بهم وقد حاربوه وقاتلوه وقتلوا جماعة من أصحابه وقتلوا رسول رسوله الذي أرسله إليهم يدعوهم إلى الله، ومع هذا كله فدعا لهم ولم يدع عليهم، وهذا من كمال رحمته ورأفته ونصيحته صلوات الله وسلامه عليه.
ومنها: كمال محبة الصديق له وقصده التقرب إليه والتحبب بكل ما يمكنه، ولهذا ناشد المغيرة أن يدعه هو يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم وفد الطائف ليكون هو الذي سره وفرحه بذلك، وهذا يدل على أنه يجوز للرجل أن يسأل أخاه أن يؤثره بقربة من القرب، وأنه يجوز للرجل أن يؤثر بها أخاه، وقول من قال من الفقهاء: لا يجوز الإيثار بالقرب، لا يصح.
وقد آثرت عائشة عمر بن الخطاب بدفنه في بيتها جوار النبي صلى الله عليه وسلم[11]، وسألها عمر ذلك فلم يُكره له السؤال ولا لها البذل، وعلى هذا فإذا سأل الرجل غيره أن يؤثره بمقامه في الصف الأول لم يكره له السؤال، ولا لذلك البذل، ونظائره.
ومن تأمل سيرة الصحابة وجدهم غير كارهين لذلك، ولا ممتنعين عنه، وهل هذا إلا كرم وسخاء، وإيثار على النفس بما هو من أعظم محبوباتها، وتفريحًا لأخيه المسلم، وتعظيمًا لقدره، وإجابة له إلى ما سأله، وترغيبًا له في الخير؛ وقد يكون ثواب كل واحد من هذه الخصال راجحًا على ثواب تلك القربة، فيكون المؤثر بها ممن تاجر فبذل قربة وأخذ أضعافها.
وعلى هذا فلا يمتنع أن يؤثر صاحب الماء بمائه أن يتوضأ به ويتيمم هو، إذ كان لابد من تيمم أحدهما، فآثر أخاه وحاز فضيلة الإيثار وفضيلة الطهر بالتراب، ولم يمنع من هذا كتاب ولا سنة ولا مكارم أخلاق.
وعلى هذا فإذا اشتد العطش بجماعة وعاينوا التلف، ومع بعضهم ماء فآثر به على نفسه واستسلم للموت كان ذلك جائزًا، ولم نقل إنه قاتل لنفسه ولا إنه فعل محرمًا، بل هذا غاية الجود والسخاء، كما قال تعالى: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر:9]، وقد جرى هذا بعينه لجماعة من الصحابة في فتوح الشام، وعُدَّ ذلك في مناقبهم وفضائلهم.
وهل إهداء القُرَبِ المجمع عليها المتنازع فيها إلى الميت إلا إيثار بثوابها؟ وهو عين الإيثار بالقرب، فأي فرق بين أن يؤثره بفعلها ليُحرز ثوابها وبين أن يعمل ثم يؤثره بثوابها؟ وبالله التوفيق.
ومنها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يومًا واحدًا، فإنها شعائر الكفر والشرك وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة، وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانًا وطواغيت تُعبد من دون الله والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، أو أعظم شركًا عندها وبها، وبالله المستعان.
ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد فيها أنها تخلق وترزق وتميت وتحيي، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القُذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم، فصار المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقلَّ العلماء، وغلبت السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
ومنها: جواز صرف الإمام الأموال التي تصير إلى هذه المشاهد والطواغيت في الجهاد ومصالح المسلمين، فيجوز للإمام بل يجب عليه أن يأخذ أموال هذه الطواغيت التي تُساق إليها كلها ويصرفها على الجند والمقاتلة ومصالح الإسلام، كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أموال اللات وأعطاها لأبي سفيان يتألفه بها وقضى منها دين عروة والأسود.
وكذلك يجب عليه أن يهدم هذه المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانًا، وله أن يقطعها للمقاتلة أو يبيعها ويستعين بأثمانها على مصالح المسلمين، وكذلك الحكم في أوقافها، فإن وقفها والوقف عليها باطل وهو مال ضائع، فيُصرف في مصالح المسلمين، فإن الوقف لا يصح إلا في قربة وطاعة لله ورسوله، فلا يصح الوقف على مشهدٍ ولا قبرٍ يُسرج عليه ويُعظم، وينذر له ويحج إليه، ويُعبد من دون الله ويُتخذ وثنًا من دونه، وهذا مما لا يخالف فيه أحد من أئمة الإسلام ومن اتبع سبيلهم.
ومنها: أن وادي وج - وهو واد بالطائف - حرم يحرم صيده وقطع شجره، وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فالجمهور قالوا: ليس في البقاع حرم إلا مكة والمدينة، وأبو حنيفة خالفهم في حرم المدينة، وقال الشافعي في أحد قوليه: وجٌّ حرم يحرم صيده وشجره، واحتج لهذا القول بحديثين: أحدهما هذا الذي تقدم[12]، والثاني: حديث عروة بن الزبير عن أبيه الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ صَيْدَ وَجٍّ، وَعِضَاهَهُحَرَمٌ مُحَرَّمٌ لِلَّهِ»[13].
وهذا الحديث يعرف بمحمد بن عبد الله بن إنسان عن أبيه عن عروة، قال البخاري في تاريخه[14]: لا يتابع عليه.
قلت: وفي سماع عروة من أبيه نظر، وإن كان قد رآه[15]، والله أعلم.أ هـ
والراجح أن وادي وج ليس بحرم؛ لأن الأحاديث الواردة في ذلك لم تصح.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.