حكاية ناي ♔
02-04-2023, 09:04 AM
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
وهذه الغزوة في الحقيقة امتدادٌ لغزوة حُنين[1]، وذلك أن معظم فلول[2] هوازن وثقيف دخلوا الطائف مع قائدهم مالك ابن عوف النصري، وتحصنوا بها، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من حنين، وذلك في شهر شوال سنة ثمانٍ للهجرة.
وكانت ثقيف لما انهزموا من حنين وأوطاس، تحصنوا بحصونهم المنيعة في الطائف.
طريق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وحصارها:
تحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وقد جعل على مقدمته خالد بن الوليد رضي الله عنه، حتى نزل قريبًا من حصن الطائف، فضرب عسكره هناك، وفرض على أهلها الحصار[3]، وأشرفت ثقيف، وأقاموا يرمون المسلمين بالنبال والحجارة رميًا شديدًا، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراح، فاضطر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرتفع بعسكره إلى مسجد الطائف اليوم، فعسكر هناك، وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه أم سلمة رضي الله عنها.
قصة المخنث:
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة رضي الله عنه، وعندها أخوها عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، ومُخنث[4] يدعى هيتا[5]، فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة: يا عبد الله! إن فتح الله عليكم الطائف غدًا، فعليك بابنة[6] غيلان[7]، فإنها تُقبل بأربع، وتدبر بثمان[8]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَدْخُلَنَّ هَؤُلَاءِ عَلَيْكُنَّ»[9].
قال الحافظ في الفتح: ويُستفاد منه حجب النساء عمن يفطن لمحاسنهن، وهذا الحديث أصل في إبعاد من يُستراب[10] به في أمر من الأمور[11].
رمي الرسول صلى الله عليه وسلم أهل الطائف بالمنجنيق:
ونصب رسول الله صلى الله عليه وسلم المنجنيق على أهل الطائف، وقذف به القذائف، وهذا أول منجنيق يُرمى به في الإسلام، كما نثر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسك[12] حول الحصن.
ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه رضي الله عنهم على الرمي، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه عن أبي نجيح[13] السلمي رضي الله عنه قال: حاصرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حصن الطائف، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ بَلَغَ بِسَهْمٍ فَلَهُ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ لَهُ عَدْلُ مُحَرَّرٍ[14]، وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
قال أبو نجيح رضي الله عنه: فبلغت يومئذ ستة عشر سهمًا[15].
ولما كان القتال تراشقًا بالسهام عن بعد، استخدم المسلمون «الدبابة»[16]؛ ليحموا بها أنفسهم من السهام، حتى يصلوا إلى الحصن، فعندما رأتهم ثقيف، ألقت عليهم قطعًا من حديد محماة بالنار، فأحرقت الدبابة فخرجوا من تحتها، فرموهم بالنبال، فقتلوا منهم رجالًا.
إسلام عبيد من الطائف:
ثم نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر! فنزل إليه ثلاثة وعشرون رجلًا، فيهم: نفيع بن مسروح، تسور حصن الطائف وتدلى ببكرة مستديرة، يُستقى عليها الماء، فكناه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكرة، فأسلم هؤلاء العبيد، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أسلمت ثقيف بعد ذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد إليهم أبا بكرة، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، وقال: «هُوَ طَلِيقُ اللَّهِ، وَطَلِيقُ رَسُولِهِ»، فكان مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم[17].
رؤيا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورحيل المسلمين:
ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه رأى رؤيا، وهو محاصر ثقيفًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا بَكْرٍ إِنِّيرَأَيْتُ أَنِّي أُهْدِيَتْ لِي قَعْبَةٌ[18] مَمْلُوءَةٌ زُبْدًا فَنَقَرَهَا دِيكٌ فَهَرَاقَ مَا فِيهَا»، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما أظن أن تُدرك منهم يومك هذا ما تريد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَأَنَا لَا أَرَى ذَلِكَ»[19].
ولما طال حصار الطائف واستعصى على المسلمين، ولم يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح الطائف، قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: «نَادِ فِي النَّاسِ إِنَّا قَافِلُونَ[20] إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، فثقل ذلك على المسلمين واستنكروه، وقالوا: نذهب ولا نفتحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ»، فغدوا فأصابهم جراح، فقالوا: يا رسول الله! أحرقتنا نبال ثقيف، فادع الله عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا، وَائْتِ بِهِمْ»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّا قَافِلُونَ غَدَاً إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك[21].
وقد استجاب الله سبحانه وتعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى بثقيف مسلمين، قبل أن يرتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة.
إسلام سراقة بن مالك الجعشمي رضي الله عنه:
غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف متوجهًا إلى الجعرانة، وفي الطريق لقيه سراقة بن مالك الجعشمي، فدخل في كتيبة من خيل الأنصار، فجعلوا يقرعونه بالرماح ويقولون: إليك إليك، ماذا تريد؟
قال سراقة: فدنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته، والله لكأني أنظر إلى ساقه في غرزه[22] كأنها جمارة[23]، قال: فرفعت يدي بالكتاب، ثم قلت: يا رسول الله! هذا كتابك لي[24]، أنا سراقة بن مالك بن جعشم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَوْمُ وَفَاءٍ، وَبِرٍّ، ادْنُهْ».
قال سراقة رضي الله عنه: فدنوت منه، فأسلمت، ثم تذكرت شيئًا أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فما أذكره، إلا أني قلت: يا رسول الله! الضالة من الإبل تغشى حياضي، وقد ملأتها لإبلي، هل لي من أجر في أن أسقيها؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ، فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى[25] أَجْرٌ».
قال سراقة رضي الله عنه: ثم رجعت إلى قومي، فسقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقتي[26].
قسمة الغنائم بالجعرانة:
ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجعرانة ليلة الخميس لخمس ليال خلون من ذي القعدة، فنزل بها، وأقام بها ثلاث عشرة ليلة لا يقسم الغنائم، يبتغي أن يقدم عليه وفد هوازن مسلمين، فيحرزوا[27] ما أصيب منهم، فلما لم يجئه أحد أمر بتقسيم الغنائم.
البدء بالمؤلفة قلوبهم[28] وهم سادات العرب:
أول من أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنائم هم سادات العرب، يتألفهم إلى الإسلام، فأعطى أبا سفيان بن حرب مئة من الإبل[29].
وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن الحارث ابن عمه صلى الله عليه وسلم مئة من الإبل، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأقرع بن حابس التميمي مئة من الإبل، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عُيينة بن حصن الفزاري مئة من الإبل، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم علقمة بن عُلاثة[30] مئة من الإبل، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس بن مرداس دون ذلك، فأنشأ يقول:
أَتَجْعَلَ نَهْبِي وَنَهْبَ العُبَيْـ
ـدِ[31] بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالَأقْرَعِ
فَمَا كَاَن بَدْرٌ وَلَا حَابِسٌ
يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي مَجْمَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا
وَمَنْ تَخْفِضِ اليَوْمَ لَا يُرْفَعِ
فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم المائة من الإبل[32].
وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكيم بن حزام مئة من الإبل، ثم سأله مئة أخرى، فأعطاه إياها، ثم سأله فأعطاه[33]، ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا حَكِيمُ!إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى».
قال حكيم: فقلت: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا أرزأ[34] أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا.
فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيمًا ليعطيه فيأبى أن يقبل منه شيئًا، ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه، فأبى أن يقبل منه، فقال عمر رضي الله عنه: إني أُشهدكم معشر المسلمين، أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء[35]، فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيمٌ أحدًا من الناس شيئًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تُوفي[36].
قال الحافظ في الفتح: وإنما امتنع حكيم من أخذ العطاء، مع أنه حقه؛ لأنه خشي أن يقبل من أحد شيئًا فيعتاد الأخذ، فتتجاوز به نفسه إلى ما لا يريده، ففطمها عن ذلك، وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه[37].
وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية – وكان ما زال مشركًا – مئة من الإبل، ثم مئة ثانية، ثم مئة ثالثة.
قال صفوان: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ[38].
وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن هشام مئة من الإبل، وأعطى سهيل بن عمرو مئة من الإبل[39]، وأعطى حويطب بن عبد العُزى مئة من الإبل[40].
وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم آخرين خمسين خمسين، وأربعين أربعين، حتى شاع في الناس أن محمدًا صلى الله عليه وسلم يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، فازدحمت عليه الأعراب يطلبون المال حتى اضطروه إلى سمرة[41]، فخطفت[42] رداؤه صلى الله عليه وسلم، فقال: «أَعْطُونِي رِدَائِي، فَلَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ[43] نَعَمًا[44] لَقَسَمْتُهَا بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا، وَلَا كَذَّابًا، وَلَا جَبَانًا»[45][46].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وهذه الغزوة في الحقيقة امتدادٌ لغزوة حُنين[1]، وذلك أن معظم فلول[2] هوازن وثقيف دخلوا الطائف مع قائدهم مالك ابن عوف النصري، وتحصنوا بها، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من حنين، وذلك في شهر شوال سنة ثمانٍ للهجرة.
وكانت ثقيف لما انهزموا من حنين وأوطاس، تحصنوا بحصونهم المنيعة في الطائف.
طريق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وحصارها:
تحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وقد جعل على مقدمته خالد بن الوليد رضي الله عنه، حتى نزل قريبًا من حصن الطائف، فضرب عسكره هناك، وفرض على أهلها الحصار[3]، وأشرفت ثقيف، وأقاموا يرمون المسلمين بالنبال والحجارة رميًا شديدًا، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراح، فاضطر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرتفع بعسكره إلى مسجد الطائف اليوم، فعسكر هناك، وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه أم سلمة رضي الله عنها.
قصة المخنث:
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة رضي الله عنه، وعندها أخوها عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، ومُخنث[4] يدعى هيتا[5]، فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة: يا عبد الله! إن فتح الله عليكم الطائف غدًا، فعليك بابنة[6] غيلان[7]، فإنها تُقبل بأربع، وتدبر بثمان[8]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَدْخُلَنَّ هَؤُلَاءِ عَلَيْكُنَّ»[9].
قال الحافظ في الفتح: ويُستفاد منه حجب النساء عمن يفطن لمحاسنهن، وهذا الحديث أصل في إبعاد من يُستراب[10] به في أمر من الأمور[11].
رمي الرسول صلى الله عليه وسلم أهل الطائف بالمنجنيق:
ونصب رسول الله صلى الله عليه وسلم المنجنيق على أهل الطائف، وقذف به القذائف، وهذا أول منجنيق يُرمى به في الإسلام، كما نثر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسك[12] حول الحصن.
ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه رضي الله عنهم على الرمي، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه عن أبي نجيح[13] السلمي رضي الله عنه قال: حاصرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حصن الطائف، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ بَلَغَ بِسَهْمٍ فَلَهُ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ لَهُ عَدْلُ مُحَرَّرٍ[14]، وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
قال أبو نجيح رضي الله عنه: فبلغت يومئذ ستة عشر سهمًا[15].
ولما كان القتال تراشقًا بالسهام عن بعد، استخدم المسلمون «الدبابة»[16]؛ ليحموا بها أنفسهم من السهام، حتى يصلوا إلى الحصن، فعندما رأتهم ثقيف، ألقت عليهم قطعًا من حديد محماة بالنار، فأحرقت الدبابة فخرجوا من تحتها، فرموهم بالنبال، فقتلوا منهم رجالًا.
إسلام عبيد من الطائف:
ثم نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر! فنزل إليه ثلاثة وعشرون رجلًا، فيهم: نفيع بن مسروح، تسور حصن الطائف وتدلى ببكرة مستديرة، يُستقى عليها الماء، فكناه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكرة، فأسلم هؤلاء العبيد، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أسلمت ثقيف بعد ذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد إليهم أبا بكرة، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، وقال: «هُوَ طَلِيقُ اللَّهِ، وَطَلِيقُ رَسُولِهِ»، فكان مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم[17].
رؤيا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورحيل المسلمين:
ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه رأى رؤيا، وهو محاصر ثقيفًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا بَكْرٍ إِنِّيرَأَيْتُ أَنِّي أُهْدِيَتْ لِي قَعْبَةٌ[18] مَمْلُوءَةٌ زُبْدًا فَنَقَرَهَا دِيكٌ فَهَرَاقَ مَا فِيهَا»، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما أظن أن تُدرك منهم يومك هذا ما تريد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَأَنَا لَا أَرَى ذَلِكَ»[19].
ولما طال حصار الطائف واستعصى على المسلمين، ولم يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح الطائف، قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: «نَادِ فِي النَّاسِ إِنَّا قَافِلُونَ[20] إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، فثقل ذلك على المسلمين واستنكروه، وقالوا: نذهب ولا نفتحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ»، فغدوا فأصابهم جراح، فقالوا: يا رسول الله! أحرقتنا نبال ثقيف، فادع الله عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا، وَائْتِ بِهِمْ»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّا قَافِلُونَ غَدَاً إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك[21].
وقد استجاب الله سبحانه وتعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى بثقيف مسلمين، قبل أن يرتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة.
إسلام سراقة بن مالك الجعشمي رضي الله عنه:
غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف متوجهًا إلى الجعرانة، وفي الطريق لقيه سراقة بن مالك الجعشمي، فدخل في كتيبة من خيل الأنصار، فجعلوا يقرعونه بالرماح ويقولون: إليك إليك، ماذا تريد؟
قال سراقة: فدنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته، والله لكأني أنظر إلى ساقه في غرزه[22] كأنها جمارة[23]، قال: فرفعت يدي بالكتاب، ثم قلت: يا رسول الله! هذا كتابك لي[24]، أنا سراقة بن مالك بن جعشم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَوْمُ وَفَاءٍ، وَبِرٍّ، ادْنُهْ».
قال سراقة رضي الله عنه: فدنوت منه، فأسلمت، ثم تذكرت شيئًا أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فما أذكره، إلا أني قلت: يا رسول الله! الضالة من الإبل تغشى حياضي، وقد ملأتها لإبلي، هل لي من أجر في أن أسقيها؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ، فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى[25] أَجْرٌ».
قال سراقة رضي الله عنه: ثم رجعت إلى قومي، فسقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقتي[26].
قسمة الغنائم بالجعرانة:
ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجعرانة ليلة الخميس لخمس ليال خلون من ذي القعدة، فنزل بها، وأقام بها ثلاث عشرة ليلة لا يقسم الغنائم، يبتغي أن يقدم عليه وفد هوازن مسلمين، فيحرزوا[27] ما أصيب منهم، فلما لم يجئه أحد أمر بتقسيم الغنائم.
البدء بالمؤلفة قلوبهم[28] وهم سادات العرب:
أول من أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنائم هم سادات العرب، يتألفهم إلى الإسلام، فأعطى أبا سفيان بن حرب مئة من الإبل[29].
وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن الحارث ابن عمه صلى الله عليه وسلم مئة من الإبل، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأقرع بن حابس التميمي مئة من الإبل، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عُيينة بن حصن الفزاري مئة من الإبل، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم علقمة بن عُلاثة[30] مئة من الإبل، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس بن مرداس دون ذلك، فأنشأ يقول:
أَتَجْعَلَ نَهْبِي وَنَهْبَ العُبَيْـ
ـدِ[31] بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالَأقْرَعِ
فَمَا كَاَن بَدْرٌ وَلَا حَابِسٌ
يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي مَجْمَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا
وَمَنْ تَخْفِضِ اليَوْمَ لَا يُرْفَعِ
فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم المائة من الإبل[32].
وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكيم بن حزام مئة من الإبل، ثم سأله مئة أخرى، فأعطاه إياها، ثم سأله فأعطاه[33]، ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا حَكِيمُ!إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى».
قال حكيم: فقلت: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا أرزأ[34] أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا.
فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيمًا ليعطيه فيأبى أن يقبل منه شيئًا، ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه، فأبى أن يقبل منه، فقال عمر رضي الله عنه: إني أُشهدكم معشر المسلمين، أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء[35]، فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيمٌ أحدًا من الناس شيئًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تُوفي[36].
قال الحافظ في الفتح: وإنما امتنع حكيم من أخذ العطاء، مع أنه حقه؛ لأنه خشي أن يقبل من أحد شيئًا فيعتاد الأخذ، فتتجاوز به نفسه إلى ما لا يريده، ففطمها عن ذلك، وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه[37].
وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية – وكان ما زال مشركًا – مئة من الإبل، ثم مئة ثانية، ثم مئة ثالثة.
قال صفوان: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ[38].
وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن هشام مئة من الإبل، وأعطى سهيل بن عمرو مئة من الإبل[39]، وأعطى حويطب بن عبد العُزى مئة من الإبل[40].
وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم آخرين خمسين خمسين، وأربعين أربعين، حتى شاع في الناس أن محمدًا صلى الله عليه وسلم يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، فازدحمت عليه الأعراب يطلبون المال حتى اضطروه إلى سمرة[41]، فخطفت[42] رداؤه صلى الله عليه وسلم، فقال: «أَعْطُونِي رِدَائِي، فَلَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ[43] نَعَمًا[44] لَقَسَمْتُهَا بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا، وَلَا كَذَّابًا، وَلَا جَبَانًا»[45][46].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.